ابن تيمية حكما على الأمة

هذا منشور في بيان عقيدة ابن قتيبة رحمه الله، وما لبس الملبسون عنه حتى جعلوه ظاهرا بحلة المشبه المجسم محض ذلك، والحق والتحقيق أنه إلى طريقة مفوضة الحنبلية أقرب (منقول)

السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فكما وعدت هذا منشور في بيان #عقيدة_ابن_قتيبة رحمه الله، وما لبس الملبسون عنه حتى جعلوه ظاهرا بحلة المشبه المجسم محض ذلك، والحق والتحقيق أنه إلى طريقة مفوضة الحنبلية أقرب، وقد تأول تارات عدة، فنسأل الله أن يوفقنا في تبرئة هذا الإمام الجليل مما بلغنا من التهم عنه، بما تأتى لنا من الشواهد والقرائن من نفس أقواله وكتبه، مع بيان نفس أصول اعتقاده إن شاء الله..

واعلموا بداية بارك الله فيكم أن ابن قتيبة مُتكَلم فيه، فقيل أنه كان يذهب مذهب الكرامية؛ قال بذلك البيهقي والحاكم والدارقطني وجماعة، حتى وصل الحال ببعضهم أن جعلوه كذّابا مدلسا مُجمَعا على تركه وعدم الأخذ منه على ما عرفوا من مذهبه، وهذا تسرع ظاهر. والله أعلم فلما رأيت حال الرجل وما كتب بعيني من يأخذ بأصول الكلم ويحمل الفرع المتشابه عليه وينظر في قرائن وشواهد ذلك، ما وجدته إلا مفوضا بحتا كاد أن لا يخرج عن طريقة الحنابلة بحرف، لذا أرى أن التهمة في حقه لا تثبت بأي حال، ولو كان كذلك -جدلا- فلعنة الله عليه إلى يوم الدين لا محاباة في دين الله، هكذا قال الذهبي وأنا أذهب قوله. هذا وابن قتيبة رحمه الله من جملة من بلغهم ضعيف التفسير وسقيمه، حتى قال به نحو تفسير الإستواء بالإستقرار، فيُحتمل أنه أخذه من طريق الكلبي ومقاتل عن ابن عباس، وهذا الطريق معلول فمقاتل والكلبي متهمان، لكنا لن نتابع ابن قتيبة على هذا بإذن الله، بل سنبين ما أراد بذكره هته التفاسير؛ أذهب بها إلى معاني التجسيم أم قصد بها صالح التنزيه، والله المعين على ذلك فالرجل ما كان من أهل الصنعة حتى يعرف من الأحاديث صحيحها من سقيمها، وهذا بشهادة الذهبي، بل وشهد رحمه الله بذلك على نفسه حتى أتاه قاسم بن أصبغ وأصحابه فطلبوا منه أن يحدثهم بشيء يسير من الأحاديث، فامتنع رحمه الله مخافة أن يحدثهم بالباطل المعلول وموضوع ذلك ومنكره، بل وخاف أن يُحدِث بما عنده عن شيخه إسحاق، وهذا من صدقه وأمانته و ورعه فبان لك أنه صدوق في نفسه.

أما بعد ذلك فاعلموا أن للاعتقاد أصولا إن قال بها الفرد المعين امتُنع عليه التجسيم إن كان ذا منهج وعقل، فإن قرّر غيرها في الفروع كان سفيها، والاعتقاد لا يؤخذ من السفهاء، ونحن ننزه ابن قتيبة عن مجمل هته التهم والنواقص بإذن الله. وعلى أي فسنبحث فيها إن شاء الله كل منها على حدة، ونبين ما ذهب إليه ابن قتيبة إن شاء الله ومجمل اعتقاده ومنهجه :

•الأصل الأول : منع الجسمية بمعنى قيام الأعراض بذات الله؛ ويتجلى ذلك عند الأولين في نفي الهيئة، أي ما نصطلح عليه بالكيفية، مع التفويض في المعنى.

•الأصل الثاني : منع قيام الحوادث بذات الله، أو إقرار مبدأ الحدوث، كلاهما على السواء.

•الأصل الثالث : عدم منع صرف الأخبار عن ظواهر معانيها إلى غيرها.

•أما الأصل الأول : وهو نفي الهيئة والجسمية مع تفويض معاني الاخبار؛ قال ابن قتيبة (¹) ناقلا مجمل اعتقاد السلف : “وعدل القول في هذه الأخبار أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها فنؤمن بالرؤية والتجلي وإنه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا وأنه على العرش استوى وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحد أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غداً إن شاء الله تعالى”. وهذا اعتقاد السلف حقا، غير أن المشبهة توهموا من قوله “من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحد” أي لا نُعَيّنُهما، وإنما نفوض ذلك لله سبحانه وتعالى. فنقول جوابا عن ذلك: قوله “من غير أن نقول في ذلك” يحتمل المعنيين: يحتمل التفويض، كما يحتمل النفي؛ إذ من نفى الكيفية -من حيث هي هيئة- ما قال بشيء منها، كمن فوضها كذلك، فنتنازع في هذا بداية الأمر. والجزم بأحد المعنيين تابع لنفس لفظ الكيفية؛ إذ “الكيفية” مصدر صناعي من لفظ “كيف”، فهي بمعناه، و “كيف” يحتمل دلالة “المعنى” إن حُمل على إطلاقه، كما قد يُراد به “الهيئة” مع عدم تسليمنا بأن “كيف” يُراد بها الهيئة لغة إلا إذا جاءت قرينة حسية تقيد مطلقيتها من نفس كلام المتكلم، فإنما عرفنا دلالتها على ذلك عن طريق الاصطلاح مع المتأخرين من المتكلمين والفلاسفة، لكن تنزلا نسلم بذلك ونتنازع فيه، وكل يبدي أدلته على ما رجّح من المعنيين من نفس أقوال ابن قتيبة رحمه الله. أما نحن فنقول : أراد بالكيفية عين “المعنى”، وهذا عليه شواهد عديدة؛

-أولها : أنه نفى الصورة والحد والجهة، وهذا عند ابن تيمية وسائر السلفية Açıklama: 👈من لوازم الوجودAçıklama: 👉؛ فإن جرد أحدُ العباد معبوده عن هته المسائل إنما يكون عابدا لمحض العدم. قال ابن قتيبة رحمه الله (²) : “قالوا -أي منكرة الأحاديث- : رويتم عن النبي ﷺ: {أن الله عز وجل، خلق آدم على صورته}، والله – تبارك وتعالى – يجل عن أن يكون له صورة، أو مثال. Açıklama: 👈قال أبو محمدAçıklama: 👉 -وهو نفس ابن قتيبة- : Açıklama: 👈ونحن نقول كما قالواAçıklama: 👉 : إن الله تعالى، وله الحمد Açıklama: 👈((يجل)) عن أن يكون له صورة أو مثالAçıklama: 👉، غير أن الناس ربما ألفوا الشيء وأَنسُوا به، فسكتوا عنده، وأنكروا مثله”. قلتُ : ففي قوله هذا نفي صريح للكيف -من حيث هو هيئة- مع تنزيه الله عنه، إذ ما يقصد السلفية بالكيف اصطلاحا عين معنى الصورة لغة؛ إذ هي حق الهيئة والخِلقَة، ومعناها في اللغة هو ذا، كذا قال ابن قتيبة (³) بنفسه : “والخلق : التصوير، قال تعالى {وإذا تخلق من الطين ((كهيئة)) الطير} أي : تُصوِّرُه”، فانظر كيف استشهد على أن الخلق هو التصوير من حيث هو تهييء للهيئة كتصوير الطين على هيئة الطير أي على صورته، وهي حق الكيف مما يريدون بهذا اللفظ نحو الهيئة. فبان لك أنه ينفيه من سابق النقل، بل وجعل إثبات الصورة نفس إثبات المثال كما قال في ما سبق ونقلناه “يجل عن صورة ومثال”، فوجب سلبها عن الله لأنها من عموم ما نفى الله عن نفسه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. وأزيد أنه جعل Açıklama: 👈التصوير بمعنى الخلقAçıklama: 👉، فيلزم السلفية لزوما لا ينفكون عنه أن إثبات الصورة لله يلزم عنه إثبات المُصور، فمن له صورة مصَوَّر مخلوق، والمُصَوِّر خالق، ولكل مخلوق خالق بالإجماع. ويتناقل السلفية في ما بينهم -كما هي عادتهم- ما قال ابن قتيبة في حديث الصورة تاليا، متجاهلين نفيه الصريح هذا بغير أن ينقلوه أو يبينوه للعباد، على أنه قال رحمه الله (⁴) : “قال أبو محمد : والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك، لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه، لأنها لم تأت في القرآن. Açıklama: 👈ونحن نؤمن بالجميع ولا نقول في شيء منه ((بكيفية)) ولا حدAçıklama: 👉“. فقلنا بحول الله : إنما يقصد بذلك أن الصورة -من حيث هي لفظ ورد- ليست بأعجب من باقي الألفاظ الواردة؛ فلما جاءت تلك الألفاظ في القرآن -فيما قال- ما استشنعها الناس بل راموا تأويلها حتى يعتذروا لخالقهم، فإذا جاءت من طريق الأحاديث رأيت الجهمية المنافقة ينكرونها، وأما أهل السنة فيؤمنون بجميع ذلك بلا كيف ولا حد، وقد أصاب رحمه الله. هذا ويجب التنبيه أن ابن قتيبة ذكر Açıklama: 👈كلAçıklama: 👉 التأويلات الشائعة لحديث الصورة؛ كتأويلِه بقرينة لفظ حديث المضروب، أو إرجاع الضمير إلى آخر مذكور كما يُعلم من اللغة، أو تأويله بقرينة لفظ حديث “صورة الرحمن”، أو أن يصور الله آدم على صورة عنده ممثلا إياه عليها وغيرها من التأويلات، Açıklama: 👈فأعلّها جميعاAçıklama: 👉، ثم قال بعدها بما نقلناه عنه فوق مما قلنا أن السلفية يتناقلونه قاصدين به أن ابن قتيبة يثبت الصورة لله، وقد تابعناهم في ذلك كما ترى وبينا كذبهم في هذا؛ إذ قال رحمه الله ذلك تفويضا لله Açıklama: 👈معنىAçıklama: 👉 ذلك بعد أن أعلّ Açıklama: 👈كل التأويلاتAçıklama: 👉، حتى التي يقول بها المشبهة أن الصورة صورة الله أي هيئته على مقتضى الحديث بلفظ “صورة الرحمن”، فقد نفى ظاهر معنى الصورة عن الله أولّ قوله وهي “الهيئة”. وإني لأنبه القارئ أيضا أن ابن قتيبة رحمه الله قال في حديث الصورة ما قال في غيره من الأحاديث؛ أي “لا يُقال فيها -الصورة لله- بكيفية ولا حد”، وهذا إنما يقتضي Açıklama: 👈بالضرورةAçıklama: 👉 البينونة بين مدلول “الكيفية” عنده، ومدلول الصورة؛ إذ لا يكون للصورة -من حيث هي هيئة- هيئة حتى نفوضها أو ننفيها، فهذا لا يُعقل بأي حال، وهذه قرينة قوية كذلك على ما ذهبناه في ترجيحنا لدلالة الكيفية عنده على أنها Açıklama: 👈عين المعنىAçıklama: 👉.

-ثانيها : أنه ما عيّن معان للصفات بل كان يذكر ألفاظها ويمسك. وأقصى ما في قوله مما قد يخدم نقيض هذا الذي استشهدنا به أنه قال (⁵) : “ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب وتضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك”. وهذا لا يستقيم مع مراد المستدل به إلا لو كان قائله يقول بوضع العرب للفظ Açıklama: 👈على ما يُعلم من ظاهر معناهAçıklama: 👉، وهذا إنما هو من جملة تعريفات أصوليي الفقهاء واصطلاحاتهم على عبارة “ما وُضع اللفظ لأجله” تجريدا منهم لوضعه على المجاز دون الظاهر، مما لم يدركها ابن قتيبة ولا غيره لتقدمهم بالزمن عليهم، فنحن لا نسلم بهذا أيضا، وذلك لشواهد شتى على ما ذهبنا إليه، نذكر شاهدين ونؤجل الباقي لأنا سنقف عليها في قادم المباحث إن شاء الله؛

أولها : أن ابن قتيبة رحمه الله نفسه ينفي ظاهر معاني الصفات عن الله، قد قال رحمه الله (⁶) عند رده على المشبهة : “ولما رأى قوم من الناس إفراط هؤلاء في النفي Açıklama: 👈عارضوهم بالإفراط في التمثيل فقالوا بالتشبيه المحض، ((وبالأقطار والحدود، وحملوا الألفاظ الجائية في الحديث على ظاهرها))، وقالوا بالكيفية فيهاAçıklama: 👉“، وهذا تصريح صريح منه رحمه الله أن المشبهة إنما حملوا الأحاديث على محض التشبيه حتى قالوا بالأقطار والحدود، وفي اللغة القطر “الجهة والناحية”، والحدود “تناهي الأبعاد” في هذا الموضع كما يدل ظاهر السياق. ومن صنيعهم كذلك أن حملوا الألفاظ الجائية في الحديث Açıklama: 👈على ظاهرهاAçıklama: 👉، وقد قصد بقوله هذا Açıklama: 👈ظاهر المعنىAçıklama: 👉 كما هو في السياق إذ هو الذي يقتضي القول بالحدود والأقطار، ثم قالوا بالكيفية فيها، وهاهنا قرينة أخرى على ما قلناه في ترجيحنا لدلالة لفظ “الكيفية” عنده؛ إذ المشبهة أنذاك من الكرامية ومن سواهم Açıklama: 👈ما قالوا بكيفية مخصوصة معلومة -من حيث هي هيئة منكشفة للعباد- البتةAçıklama: 👉، وإنما تأولوا الأحاديث آخذين بظاهر معناها مما يقتضي التشبيه والتجسيم، ويوافقهم السلفية في ذلك من إثبات الصورة والحد والجهة لله تعالى الله عما تنزه علوا كبيرا، حتى راموا بذلك محض تشبيه لله بخلقه. وقد يعترض معارض على ما سقناه، على أن ابن قتيبة رحمه الله قصد أن المشبهة أطلقوا ذلك لفظا وهذا الذي لا يجوز، وإنما معناه فثابت لله، فنسألهم : أيكون الخلاف مع المشبهة على هذا الإعتبار لفظيا أم معنويا؟ وقد سبق من جوابهم أنهم جعلوه لفظيا، فإن التزموا ذلك فقد حكموا على نفسهم بالتشبيه، ومعهم ابن قتيبة نفسه إن قصد هذا جدلا، وإن ما التزموه سقط اعتراضهم.

ثانيها : أنه رحمه الله عقد بابا (⁷) في كتابه “تأويل مشكل القرآن” سماه “باب اللفظ الواحد للمعاني المختلفة”؛ فاللفظ عنده موضوع من لدن العرب على معان عديدة مختلفة، لا معنى معين بذاته، فكان على هذا النحو قوله “ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب وتضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك” أي أنا لا نزيل اللفظ عن معانيه التي تعرفها العرب وتضعها للفظ الواحد، وإنما يُمر الحديث على الإجمال الذي هو عليه، دون اعتقاد الظاهر من المعاني، وإن ما جاز معنى من المعاني المعينة غير ذلك نقصيه، فنترك الباقي، وهكذا نصنع، وهذا بدوره يشهد عليه سياق الكلم، إذ قال قولته تلك بعد أن ذكر معاني الروح وهي عديدة و معنى النفخ وهو واحد، ثم توقف في ذلك وما عين أحد معاني الروح، فلا يفهم النفخ بالتبع إذ النفخ متعلق بنفس الروح فإن ما علمنا معنى الروح ما علمنا معنى النفخ في قوله تعالى {ونفخت فيه من روحي}. ولو ذهبنا مذهب الحشوية في الإنتقاء لقلنا أن ابن قتيبة يُثبت لله نفخا حقيقيا وروحا حقيقية فينفخ الروح وهي صفته فتخرج منه وذاك يقتضي أن لله جوفا وهو خلاف تفسير السلف لقوله تعالى {الله الصمد} أي لا جوف له، حالّةً -أي روحه من حيث هي صفة- بعباده بائنة من ذاته تقدست أسماؤه وهي مع ذلك غير مخلوقة، فأجاز بهذا أن يكون ما هو غير ذاته قديما مع الله صفة له، مع القول بحلولها في العباد. فبربكم ما يفرق بين هذا القول على نهج القوم، وبين قول النصارى؟ هذا القول لا يقول به السلفية أنفسهم، ويتأولون الروح والنفخ على السواء، فمالهم كيف يحكمون؟ إنا ولله الحمد ننزه ابن قتيبة عن هذا الفهم مع ذكر الشواهد الوافية من كلامه حتى نقطع أن هذا ليس مراده رحمه الله، أما نهج هؤلاء القوم فيقتضي هذا الفهم بالضرورة.

وقد يعترض معترض على الوجه الأول بإيراد نقل عن ابن قتيبة رحمه الله مفاده أنه يمر الأخبار على ظاهرها؛ قال رحمه الله (⁸) : “ولكنا نسلم للحديث، ونحمل الكتاب على ظاهره”، فجواب ذلك من وجوه : أولها أنه إنما خص بهذا القول مسألة دون مسائل، لا كما نسب للمشبهة اتباعهم لهذا النهج في سائر الأخبار، وهذا ظاهر من السياق، وعلى شواهد أخرى سنذكرها إن شاء الله في باقي المباحث. ثانيها يُسألون عن قوله هذا ونسبته نفسَ القول للمشبهة كما سبق وأن نقلنا عنه، أفيكون بذلك مشبها؟ وثالثها أنه قصد في هذا الموطن “ظاهر اللفظ” وذاك بيّن من السياق؛ إذ قاله حال ما ردت المنافقة من حديث الرؤية، وقد سبق له قول في الإسراء والمعراج من حيث يكون ذلك بجسم نبينا صلوات المولى عليه، فرفضوا ذلك لعلل توهموها كأن يصعد ويهبط بجسده في ليلة واحدة وهذا لا يُعقل، ولكونه رأى ربه تبارك وتعالى؛ فحاولوا التوفيق بين الإسراء والمعراج والرؤية وبين الإجماع الحاصل على أن الله لا يُرى في الدنيا، وقالوا أن الرؤية في المنام والإرتقاء “روحي”، حتى قال ابن قتيبة في الرد عليهم : “وكيف يكون ذلك كما تأولوا، والله عز وجل يقول {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} الآية؟ وهذا لا يجوز أن يتأول فيه هذا التأويل [أي الإسراء الروحانيُّ]، وهذا لا يندفع بمثل هذه الأحاديث. ونحن نعوذ بالله أن نتعسف، فنتأول فيما جعله الله فضيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم”، فقال بعدها : “ولكنا نسلم للحديث، ونحمل الكتاب على ظاهره”، فبان لك أنه لا حرج أصلا في حمل الآية على الظاهر -وقد سماها كتابا- إذ ذاك ما حصل فيه خلاف أصلا، لكنه قصد بالخصوص هاهنا التسليم للحديث لفظا والكتاب لفظا، وإن ما عُلم مخرج لهما من حيث التوفيق نمسك ونفوض، وهذا محل الشاهد من قوله.

-ثالث الوجوه : أن من جملة ما أخبر أن الإيمان به واجب ك “الرؤية والتجلي وإنه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا وأنه على العرش استوى وبالنفس واليدين” قد وقع على أكثر ذلك تفويض أو تأويل؛

قوله رحمه الله في الرؤية (⁹) : “فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر، ولا يختلفون فيه، كما لا يختلفون في القمر. ولم يقع التشبيه بها على كل حالات القمر، في التدوير، والمسير، Açıklama: 👈والحدودAçıklama: 👉، وغير ذلك. وإنما وقع التشبيه بها، على أنا ننظر إليه -عز وجل- كما ننظر إلى القمر ليلة البدر Açıklama: 👈لا يختلف في ذلكAçıklama: 👉، كما لا يختلف القمر. والعرب تضرب المثل بالقمر في الشهرة والظهور”، إلى أن قال : “وقوله في الحديث : {لا تضامون في رؤيته} دليل؛ لأن التضام من الناس يكون في أول شهر -عند طلبهم الهلال- فيجتمعون، ويقول واحد : (هو ذاك هو ذاك)، ويقول آخر : (ليس به وليس القمر كذلك)؛ Açıklama: 👈لأن كل واحد يراه بمكانهAçıklama: 👉، ولا يحتاج إلى أن ينضم إلى غيره لطلبه”. قلت : فأنت ترى كيف ينفي ابن قتيبة الحدود عن الله من حيث هو تناهي الأبعاد، فإنما يكون ذلك من المخلوق، وتراه كيف يدفع الرؤية بالمقابلة أو الجهة، وله أن يثبت ذلك من تشبيه النبي لرؤية ربنا برؤية القمر -كما قالت المشبهة-، غير أنه ما ذهب ذلك، وقد ذهب إلى أن الرؤية بغير جهة إذ “كل واحد يراه بمكانه” ولو كان الراؤون يرون المرئي على هذا النحو امتنع أن يكون الأخير في جهة، وهذا مذهب أهل السنة، وقد سبق نفي ابن قتيبة لذلك عن الله في صريح كلامه كما بينا خلال رده على المشبهة.

قوله رحمه الله في العجب والضحك (¹⁰) : “قال أبو محمد -أي ابن قتيبة- ونحن نقول : إن العجب والضحك ليس على ما ظنوا، وإنما هو ((حل عنده كذا، بمحل ما يُعجب منه، وبمحل ما يُضحك منه))”، حتى قال : “وقال تعالى لنبيه {وإن تعجب فعجب قولهم} Açıklama: 👈ولم يرد أنه عندي عجبAçıklama: 👉، وإنما أراد : Açıklama: 👈أنه عجب عند من سمعهAçıklama: 👉“. قلتُ : وتأمل هذا التأويل الصريح منه لصفة العجب، وقد سبق أن ذكرها من جملة ما يجب الإيمان به، فدل أن إطلاقه للفظ الإيمان لا يوجب الإيمان بالظاهر من المعاني، بل هو إيمان ب Açıklama: 👈ظاهر الألفاظAçıklama: 👉. وأزيد أن قوله فيما نقلناه عنه قبل وهلة “ليس على ما ظنوا”، إنما ينفي به قول مخالفيه وهو ذا “وإنما يعجب ويضحك، من لا يعلم ثم يعلم، فيعجب ويضحك”، وهو نفي لقيام الحوادث بذات الله، وحصول تغيّر في صفته، وهو قول هؤلاء القوم -أي السلفية-، فإن اعترض معترض وقال أن هذا غير لازم وإنما العلم علمان واحد قديم والآخر حادث، فنقول : هذا من تفصيلات ابن تيمية التي لا نسلم بها أصلا، والتي ما أدركها السلف من جملتهم ابن قتيبة هذا، فما قرينة زعمك أنه سلك رحمه الله هذا المسلك في الفهم؟ إنما كان يُعرف الحدوث على هذا النحو الذي قال به مخالفوا ابن قتيبة والذين يرد عليهم، أما الزعم أن العلم علمان أحدهما سباق للفعل وقد يبقى حاله، والآخر حادث بحدوثه فما عرفه أحد من السلف ولا قال به أحد، وإنما هو قول لابن تيمية كي يهرب به من قول مخالفيه وإلزامهم، كذا إلزام مخالفي ابن قتيبة هاهنا كما نقلنا عنهم، وكما ذهب مذهبهم ابن قتيبة رحمه الله في عدم جواز ذلك حتى تأول الخبر، فماله ما قال بقولكم ودافع عن حدوث العلم ورد على قولهم بملزومية ذلك أن نصف الله بالجهل فما أشبه؟ ثم ما علة إثبات علمين؟ إن استسغت قدم صفة فما تمنع قول مخالفيك؟ وإن ما استسغت فأثبتها حادثة فيلزمك ما سبق، وهذا كفر بالله، وليس هذا موضع مناقشتهم في ذلك.

قال في النزول وهذا نص قاسم منه (¹¹) : “فإن قيل لنا كيف النزول منه عز وجل؟ قلنا : لا نحتم على النزول منه بشيء، ((ولكنا نبين كيف النزول منا، وما تحمله اللغة من هذا اللفظ))، Açıklama: 👈والله أعلم بما أرادAçıklama: 👉.

أحدهما : الإنتقال عن مكان إلى مكان؛ ((كنزولك من الجبل إلى الحضيض، ومن السطح إلى الدار)).

والمعنى الآخر : إقبالك على الشيء بالإرادة والنية. وكذلك الهبوط والإرتقاء، والبلوغ والمصير، وأشباه هذا الكلام”، إلى أن قال في تتمة ذكره للمعنى الثاني : “وقد يقول القائل : بلغت إلى الأحرار تشتمهم، وصرت إلى الخلفاء تطعن عليهم، وجئت إلى العلم تزهد فيه، ونزلت عن معاني الأخلاق إلى الدناءة. وليس يراد في شيء من هذا، ((انتقال جسم))، وإنما يراد به القصد إلى الشيء بالإرادة والعزم”. قلتُ : فتأمل بارك الله فيك كيف أجاب عن سؤال السائل “كيف النزول” Açıklama: 👈بذكر معانيهAçıklama: 👉، فدل دلالة قاطعة أن ابن قتيبة إنما يقصد بقوله “من غير أن نقول فيها بكيفية أو حد” أي نفس تفويض المعاني، وهذا إنما ذكره عن السلف أجمعين ناقلا اعتقادهم، فكان ذلك اعتقادهم أيضا، وتطبيق ذلك يَتجلى في نفس صدر كلامه هذا لما قال “والله أعلم بما أراد”. أما ما ذكر من معنى النزول أي الحركة والإنتقال مما يحتمله اللفظ، فيحمل على ما قال قبل ذكره إياه “Açıklama: 👈ولكنا نبين كيف النزول مناAçıklama: 👉“، والشاهد على ذلك أنه أسند للنزول تشبيها بغير أن يجرده عن ذلك فقال في نفس كلامه “كنزولك من الجبل إلى الحضيض […]”، وفي موضع “وليس يراد في شيء من هذا -أي ما ذكر من ثاني المعاني- Açıklama: 👈انتقال جسمAçıklama: 👉“. فدل أنه عنده رحمه الله لا يتجرد النزول عن هته الأعراض، إنما حقيقة النزول هي ذي مقتضية الجسمية، والمشابهة بين النازل -الله- من حيث هو قطع مسافة، بنزول المخلوق من حيث هو نزول من أعلى الجبل إلى أسفله، فما تتجرد صفة النزول من الله عن المشابهة بهذا المعنى. فإن قال قائل : ولما ذكر هذا المعنى وهو يرى إمكانه في حق الله؟ قلنا : لا يرى إمكانه فقد سبق وأن أشار إلى أنه سيذكر معاني اللفظ من حيث ما تقبله اللغة، ولا عاقل ينكر أن اللغة تقبل هذا المعنى في المخلوق، وأما الشاهد على عدم قوله بإمكانه نفس تفويضه إذ التفويض في المعنى ونفي الجسمية متلازمان؛ فلا يُفوض المعنى وتثبت معاني الجسمية، هذا تناقض إذ فيه تفويض مع إثبات والتفويض ليس إثباتا للمعنى على خلاف اللفظ، فلزم جمع النقيضين وهو محال، لكنا نقول أن الباعث الذي جعله يفوض معنى ذلك هو عين اعتقاده بامتناع ذلك على الله، فلو كان يقول بإمكانه وكان يرى الظاهر ما صعُب عليه حمل الخبر على ذلك، ولكنه لا يعتقد ذلك رحمه الله فأصاب المبتغى. والشواهد على هذا أيضا أن ابن قتيبة كما سبَق وأن أشرنا ينفي الجهات والحدود عن الله، وينفي الهيئة والخِلقة، وإنما النزول بالذات يقتضي كل هته المعاني الباطلة. ويقال للسلفية : أينزل بذاته؟ إن أجابوا بالإيجاب قد حكموا بالضرورة على معبودهم بالخلو عن العرش؛ إذ الذات عندهم مجموع الصفات أي كلها، فلما نزل بذاته نزل بكل صفاته فخلا عن عرشه وحل بمخلوقاته، وهذا كفر عند الجميع. أما قولهم بأنه ينزل ولا يخلو منه عرش قصدوا بذلك أن جزء الله العلوي باق فوق العرش وجزؤه السفلي نازل، فهو تناقض منهم في نفس لفظة “الذات”، ثم يكون بذلك قولهم مجازا ظاهرا، وكذبوا في أن جعلوه حقيقةً للنزول زاعمين تفويض هيئة النزول هته، وإنما كلامنا في عين المعنى فلا يفرق إن علمنا الكيف أم لم نعلمه، فحقيقة المعنى تقتضي ذلك -خلوه عن العرش-، ونحن نقول جل وصف ربنا عن ذلك حتى يكون فوقه شيء أو يقابله شيء مقابلة الجسم للجسم، وتعالى الله أن يكون له جزء علوي وسفلي فإنما يكون ذلك في المخلوق المركب المصنوع، أما ربنا فقد علت صفاته عن ذلك كله.

أما قوله في اليدين فقد توهمت المشبهة أنه يثبتهما أعيانا، كما أثبتوها وفق قسمة اصطلاحية محدثة يقولون بها نحو “صفات الأعيان والمعاني”، ويكفي في رد هذا القول أن ابن قتيبة ما أدركها لتقدمه، فلا نسلم بالتبع أنه سلك في الإثبات هذا المسلك. وما دفعهم للقول بذلك أنه قال رحمه الله معرض ذكر معاني اليد (¹²) : “اليد قد تنصرف على ثلاثة وجوه من التأويل” حتى قال في ثالث الوجوه : “اليد بعينها”، ثم قال بعدها : “فإن قال لنا: ما اليدان ههنا قلنا هما اليدان اللتان تعرف الناس كذلك قال ابن عباس في هذه الآية : (اليدان اليدان) وقال النبي ﷺ : {كلتا يديه يمين} فهل يجوز لأحد أن يجعل اليدين ههنا نعمة أو نعمتين وقال : {لما خلقت بيدي} فنحن نقول كما قال الله تعالى وكما قال رسوله ولا نتجاهل ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي التشبيه على أن ننكر ما وصف به نفسه ولكنا لا نقول كيف اليدان وإن سئلنا نقتصر على جملة ما قال ونمسك عما لم يقل”. قلتُ : وقد قصد بقوله “اليد بعينها” أي عين اللفظ، دل على ذلك استشهاده بأثر ابن عباس في تفسيرها بنفسها، على خطى من قال “تفسيرها تلاوتها” أي حَسْبُ القارئ لفظ ما يقرأ فلا فلاح في البحث عن معنى المقروء. أما قوله : “اليدان اللتان تعرف الناس” فهذا لا يصيب شيئا، فلفظ اليد في الآثار والأخبار مشهور أيضا يعلمه الناس ويعرفونه، واستشهاده بأثر ابن عباس على تفسير اليد بنفس اللفظ شاهد على ما ذهبنا إليه بقولنا هذا، إضافة إلى ذكره الخبر عن النبي صلوات المولى عليه أن اليدان كلتاهما يمين، ثم تأوّل اليمين بقوله (¹³) : “وما قول النبي ﷺ : {كلتا يديه يمين} Açıklama: 👈فإنه أراد معنى التمام والكمالAçıklama: 👉 لأن كل شيء مياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص ولذلك قيل اليمن والشؤم. Açıklama: 👈فاليمن في اليد اليمنى، والشؤم في اليد الشؤمىAçıklama: 👉 وهي اليسار. Açıklama: 👈وقالوا فلان ميمون من اليمين ومشؤوم من الشؤمىAçıklama: 👉 وقال رسول الله ﷺ في الإبل : {إن أدبرت أدبرت وإن أقبلت أدبرت ولا يأتي نفعها من جانبها الأشأم يعني الأيسر. Açıklama: 👈ويمكن أيضاً أن يريد العطاء باليدين جميعاً لأن اليمنى هي المعطية فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهماAçıklama: 👉 قال رسول الله ﷺ : {يمين الله سخاء لا يغيضها شيء الليل والنهار أي تصب العطاء ولا ينقصها ذلك وإلى هذا}، Açıklama: 👈المعنى ذهب المرارAçıklama: 👉 حيث يقول : وإن على الأوانة من عقيل فتى كلتا اليدين له يمين”. قلتُ : لاحظ هاهنا كيف جعل اليمين أمرا معنويا دالا على العطاء والفلاح ونقيض الشؤم، وهذا تأويل ظاهر فالقوم لا يرضون بهذا بل يريدون اليمين الذي هو جهة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد ذكر الخبر عن اليهود وتوقف في لفظ اليد وما عين معنى لها ولا زاد عليه، وهذا يُدعم ما قُلناه، بل وذهب إلى أن غل اليدين فيما قالت اليهود Açıklama: 👈مجازAçıklama: 👉 والبسط شيء معنوي لا حسي من حيث هو مد اليد، قد قال رحمه الله (¹⁴) : “وتأويل الآية : أن اليهود قالت : يد الله مغلولة Açıklama: 👈أي ممسكة عن العطاءAçıklama: 👉 فضرب الغل في اليد Açıklama: 👈مثلاًAçıklama: 👉 لأنه يقبض اليد عن أن تمتد وتنبسط كما تقبض يد البخيل، فقال الله تعالى : {غلت أيديهم} Açıklama: 👈أي قبضت عن العطاء والإنفاق في الخير والبرAçıklama: 👉 {ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} Açıklama: 👈بالعطاءAçıklama: 👉 {ينفق كيف يشاء} [المائدة : ٦٤] ومثله قوله {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} أي قبضنا أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع الأغلال”. قلتُ : وقوله ” فضرب الغل في اليد ((مثلا))” قصد به أن “الغل” مجاز؛ إذ له قول في كتابه ” تأويل مشكل القرآن” يقول فيه (¹⁵) : “وللعرب مجازات في الكلام، ومعناها : طرق القول ومآخذه، ففيها : الإستعارة، Açıklama: 👈والتمثيلAçıklama: 👉، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد، مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الإثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص؛ مع أشياء كثيرة ستراها في {أبواب المجاز} إن شاء الله تعالى. Açıklama: 👈وبكل هذه المذاهب نزل القرآنAçıklama: 👉؛ ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة […]”. قلتُ : ومحل الشاهد عندي مما سبق أنه ذكر ((التمثيل)) من أساليب المجاز وطرقها، فقوله بالتبع أن “ضرب الغل في اليد ((مثل))” حمل واضح للغل والقبض والبسط على غير ما هي عليه من معناها الظاهر الحسي؛ أي ليست الأغلال بشيء من الأصفاد والقيود الحسية، وإنما هي معنوية قُصد بها القبض عن العطاء والإنفاق وهو قبض معنوي لا كما تقبِض اليدُ الحر والحرير، فبالتبع أجابهم الله وكذبهم من الوجه الذي زعموا أنه تبارك وتعالى يتصف به نحو البخل وقلة العطاء، فقال {بل يداه مبسوطتان} أي أنه باسط الرزق ومعطيه، لا من حيث أن يده مبسوطة كما تُبسط يد الفقير للغني طلبا للمال بحيث يكون بسطا حسيا نحو مد الأصابع. قلتُ : ولما كان فهمه للبسط والقبض والأغلال هكذا في حق الله، دل على أنه ما اعتقد جارحة ولا عضوا؛ إذ فهمه لهته الألفاظ إنما يتعلق بنفس فهمه للفظ اليد، فلما حمل كل ذلك على غير ظاهره الحسي حتى قال بالمجاز هاهنا، دل ذلك صريح الدلالة أن اليد عنده ليست يدا حسية. وما حملنا على نقل كلامه في المجاز طولا وعرضا إلا بغية التنبيه إلى أن السلف -وابن قتيبة منهم- اعتبروا المجاز في لغتهم، فلا عبرة بأناس أرادوا إنكار مجيء المجاز في اللغة. بل واستشهد ابن قتيبة بورود المجاز في اللغة العربية جاعلا القرآن نازلا على هته الطرق -أي المجاز-، على استحالة ترجمة القرآن إلى غير اللسان العربي، وهذا حق. ومن القرائن أيضا على عدم فهمه لليد من حيث هي عضو جارح حسي، تأويله لحديث الذراع؛ قال رحمه الله (¹⁶) : “قالوا : رويتم أن النبي ﷺ قال : ضرس الكافر في النار، مثل أحد، وكثافة جلده أربعون ذراعاً بذراع الجبار. قال أبو محمد -أي ابن قتيبة- ونحن نقول : Açıklama: 👈إن لهذا الحديث مخرجاً حسناًAçıklama: 👉، إن كان النبي أراده، وهو أن يكون الجبار -ههنا- الملك، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} أي : بملك مسلط، والجبابرة : الملوك. وهذا كما يقول الناس : هو كذا وكذا ذراعاً بذراع الملك. يريدون بالذراع الأكبر Açıklama: 👈وأحسبه ملكاً من ملوك العجم، كان تام الذراع، فنسب إليهAçıklama: 👉“. قلتُ : فلو كان يعتقد في اليد عضوا ما منعه أن يعتقد هاهنا الذراع عضوا لله؟ بل إثبات اليد يقتضي إثبات الذراع، فلو أثبتت اليد حقيقة من حيث هي عضو لزم إثبات الذراع كذلك؛ إذ لا تُعقل يد هي عضو إلا بذراع يحملها، ولما نظرنا تأويل ابن قتيبة هذا بطل الملزوم -إثبات اليد عضوا جارحا-، إذ لازمه باطل منفي عنده رحمه الله. فإن قال قائل : وما أدراك أنه تأول ذلك هاهنا، وما كان ذلك من ظاهر الخبر عنده؟ قلنا : أما رأيت قوله “إن لهذا الحديث مخرجا حسنا”؟ وهل لفظ “الجبار” بالتعريف “ال” يُعنى به -ظاهرا- إلا الله؟ إن أجزت أن يراد به غير الله ظاهرا فقل بجواز ذلك في لفظة “الرب”، فلزمك أن لو أطلق أحدهم لفظة “الرب” -مُعرّفة- على غير الله ما أشرك بالله الواحد القهار، وهذا باطل بالإتفاق والإجماع؛ إذ لا يشرك من أطلقها على غير التعريف، فنكرة أو على إضافة كمن يقول “رب البيت” وهو الأب غالبا، ولا يلزم من هذا شرك، إلا إذا قال “الرب أبي” فيلزمه ذلك. نقول : إنما صرف ظاهر هذا عن الله لقرينة، وهي نفس اعتقاده أن الله لا أعضاء له ولا جوارح جل عن هته النعوت والأوصاف.

أما قوله في الإستواء ففيه شيء من الإضطراب؛ جعله تارات هو الإستقرار، وتارات هو العمد والقصد إلى الخلق والفعل. أما الإستقرار فقد سبق وأن أشرنا إلى إمكان أن يكون قائلا به لوهم أن ابن عباس قاله، وأيا كان فيحمل على استقرار الأمر. أما العمد إلى السماء أي خلقها فلا إشكال. ولعل ابن قتيبة أطلق لفظ المكان لله، وقد أخطأ في ذلك رحمه الله والتحقيق أن الخلاف معه في هذا يكاد يكون لفظيا؛ إذ أراد بالإستشهاد على رفعة المكان لله مع ذكر سائر الآيات والأحاديث في هذا الباب أن الله لا يُخالط المخلوقات أي أنه على بينونة منهم، وقد سبق في كلامه أن نفى الحد عن الله بمعنى تناهي الأبعاد والجهة والكيفية بمعنى الهيئة والأعضاء والجوارح ما ذكرناه وبيناه واستدللنا عليه مما يغني عن إعادة بسطه هاهنا، ومن ينفي كل هذا عن الله وأطلق لفظ “المكان” إنما يكون الخلاف معه لفظيا؛ بحيث لا يستقيم إطلاق لفظ “المكان” من حيث هو تلفظ مُتلفِّظ يعتقد أن الله كائن بغير جهة ولا قطر، ولا حدود ولا أبعاد، ولا أجزاء ولا أبعاض، ولا خلقة ولا هيئة، ولا حدوث صفة كما سنبين إن شاء الله. ولعله أطلق ذلك تأثرا بالإنجيل فيما كان يسميه “الإنجيل الصحيح” -وليس هذا بشيء إذ علمنا تحريف الأناجيل مطالع القرن الأول من الميلاد من قِبَل الكنيسة- حتى توقف في كثير من التأويلات التي تأولها هو من ذات نفسه لأنه قرأ شيئا من الإنجيل ما لا يفيد ما ذهب إليه بمعرفته في اللغة. كذا كان يقرأ التوراة، وكان كثيرا ما ينقل من الإسرائيليات بغير دراية ويستشهد بها؛ كرواية وهب بن منبه -كما رواها رحمه الله بإسناده- (¹⁷) : “حدثنا عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب بن منبه أن موسى : لما نودي من الشجرة : اخلع نعليك أسرع الإجابة، وتابع التلبية، وما كان ذلك إلا استئناساً منه بالصوت، وسكوناً إليه. وقال: {إني أسمع صوتك، وأحس وجسك ولا أرى Açıklama: 👈مكانكAçıklama: 👉، فأين أنت؟

فقال : أنا فوقك، وأمامك، وخلفك، ومحيط بك، وأقرب إليك من نفسك}”. قلتُ : ولعله أخذ بهذه الرواية واستند عليها في إطلاق لفظ المكان، إنما أراد بها البينونة بين الله وخلقه وهذا اللفظ الأنسب حقا، مع أنه تأول حديث موسى وجعل جواب الله بأنه فوق موسى وأمامه وخلفه، محيطا به وأقرب إليه من نفسه، قال “أي بالعلم”، والحق أن في جواب الله تعالى على اعتبار هته الرواية دليل على نفي المكان لا إثباته؛ إذ لو ما كان الظاهر مرجوًا منه وهو أن يكون الله مع موسى بذاته محيطا به، قد أراد الله بذلك أمرا معنويا صارفا لسؤال موسى عن ما هو حسي إلى ما يليق به تقدست أسماؤه، والحديث لا يثبت بأي حال مع أنه من الفضلاء من استشهدوا به في مسائل فرعية -كإثبات الكلام لله-، منهم ابن قدامة رحمه الله. وإني والله لأعتذر له في إطلاقه هذا اللفظ فالرجل كما قلنا لا يفقه في الحديث شيئا، وإنما يبرع في اللغة وليس له يد ولا باع في المنقول من الأخبار صحيحها وسقيمها، والله أعلم فهذا الإطلاق -أي لفظ المكان- انفرد به في كتابه “تأويل مختلف الحديث”، مع أنه فسر الإستواء والعلو في شتى كتبه، فتوقف عند استقر أو عمد في جملتها، وما وقفت على تلفظه بلفظ “المكان” إلا في هذا الكتاب، فلعلها موضوعة عليه أو من تصرف المحقق أو سقطت فقدرها المحقق فما أشبه ذلك؛ إذ منهج الرجل فيما أثبتنا لا يقتضي قوله بهذا أبدا، إلا إذا كان متناقضا أو يرى الإختلاف مع المشبهة في إثبات الحدود والأقطار اختلافا لفظيا، فقد حكم على نفسه بذلك أن حقيقة ما يعتقد عين التشبيه فصدق أئمتنا فيه، فلما لا يجوز كذلك أن يكون الإختلاف مع الجهمية لفظيا إن جاز هذا؟ لا أعلم لقوله هذا مخرجا غير أنه تناقَضَ صارِخَ التناقضِ بإطلاقه لفظ “المكان” لله، وإن حملناه على ما سبق تقريره وبيانه من اعتقاده، كان الخلاف معه لفظيا إن شاء الله.

وكي لا يفرح السلفية بهذا كثيرا، فلنا منشور في بيان أن من أطلق لفظ المكان لله -قبل ابن تيمية- يجب كفره لا محال Açıklama: 👈بالإجماع بيننا وبينهمAçıklama: 👉، فراجعه (¹⁸).

قال في إضافة النفس لله (¹⁹) : “أي تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك كما قال: {وعنده مفاتح الغيب} وكما يقول القائل (عندي علم ذاك). وهذا كما ذهبوا إليه في احتمال التأويل على بعد Açıklama: 👈والله أعلم بما أرادهAçıklama: 👉 ولكن عند تدل على قرب وهم يزعمون أن الله تعالى لا يكون إلى شيء أقرب منه إلى شيء آخر، وأنه على العرش استوى في الحقيقة مثله في الأرض والعجب لقوم لا يؤمنون إلا بما يصح في المعقول، ثم خرجوا من كل معقول بقولهم: (إن الله في كل مكان بغير مماسة ولا مباينة وبغير موافقة ولا مفارقة) وقد قال أمية يذكر قرب موسى عليه السلام من الله حين كلمه : وهو أقرب الأنام إلى الله كقرب المداد للمنوال يقول وهو كقرب مداد الثوب من الخشبة التي ينسج الثوب عليها والله يقول {وقربناه نجيا} النجي في معنى المناجي وهو من كلمك من قرب كما يقال جليس مجالس وأكيل مؤاكل. وكذلك كليم الله بمعنى مكالم الله وخليل الله بمعنى مخال الله. قال الله عز وجل : {خلصوا نجيا}، وقال أبو زبيد يذكر رجلا ساور الأسد: وثار عليه إعصار وهيجا نجياً ليس بينهما جليس يريد أن كل واحد قرب من الآخر”. قلتُ : وانظر بارك الله فيك كيف يفوض معنى النفس لله فقال “الله أعلم بما أراد”، وهذا تفويض ظاهر، وأما قوله في جواز أن يكون القرب من المخلوق لخالقه موجودا، قد حمله على القرب المعنوي ودليل ذلك أنه ذكر الخلة من الخليل وهو القريب إليك من جهة معنوية، وكذا ذكر الكليم والمتكلم على أنهما أقرباء وهذا معنوي لا يراد به مسافة كما ترى؛ إذ موسى لما كلمه كان في الأرض وربه على العرش فلو أراد بالعلو على العرش علوا حسيا والقرب على نحوه ما كان موسى أقرب الخلق لله بل كان العرش كذلك وهو خلاف ما ذهب إليه ابن قتيبة باستدلاله هاهنا. وفي موضع تأول رحمه الله النفس حتى قال (¹⁸) : “قال أبو محمد -أي ابن قتيبة- ونحن نقول : إنه لم يرد بالنفس ها هنا ما ذهبوا إليه، وإنما أراد أن الريح من Açıklama: 👈فرجAçıklama: 👉 الرحمن – عز وجل – ورَوْحه. يقال : Açıklama: 👈اللهم نفس عني الأذىAçıklama: 👉، قد فرج الله عن نبيه بالريح يوم الأحزاب”، وهذا تأويل ظاهر منه كما ترى.

ولعل القارئ أدرك بعد هذا كله غاية قولنا بإمكان أن يكون إطلاق ابن قتيبة للفظ “المكان” موضوعا عليه رحمه الله أو من تصرف المحقق أو شيئا من هذا القبيل عموما؛ أما رأيت أن كل ما ذكره في قوله هذا “نؤمن بالرؤية والتجلي وإنه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا وأنه على العرش استوى وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحد”، ما خلا من تأويل أو تفويض كما بينا من ظاهر أقواله و صريحها، إلا الإستواء بالضبط الذي أثبت لله به مكانا؟! واللفظ في كتاب معين دون سائر كتبه!! فإن كان متسق المنهج -وهذا ما نظنه فيه رحمه الله- ما كان ليطلقه على الله تعالى، وكان ليحذو حذو ما سار عليه في جميع ما يستوجب الإيمان لوروده لفظا كما هو حال سائر السلف. وعلى أيّ قد بينا ولله الحمد أن الخلاف معه لفظي هاهنا فقد نفى كل ما يستوجب إطلاق المكان لله، فإن أطلقه مجردا اللفظ عن كل دلالاته كان إطلاقه قلة فطنة ونحن نعذره كما سبق وذكرنا، فرحمه الله تعالى ورضي عنه، قد دعا مع نفسه بصالح الدعاء لعل الله يتقبل منه دعاءه هذا، لمّا قال (²⁰) : “وأسأل الله التجاوز عن الزلة بحسن النية، فيما دللت عليه، وأجريت إليه، والتوفيق للصواب، وحسن الثواب”، وهذه المسألة مما حاول فيها أن يصيب اجتهادا فزل رحمه الله وخرج عن المعلوم من منهج السلف رضوان الله عليهم فجاء بلفظ محدث يثبته له تقدست أسماؤه وهو في غنى عن ذلك كله.

-رابع الوجوه : أن قوله “من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد” إنما يكون القول في الكيفية كالقول في الحد، فلو شئت أن تعرف المقصود بالكيفية وجب النظر في معنى الحد هاهنا، ويحتمل معنيين لا ثالث لهما، وكلاهما لا يخدمان مصالح السلفية؛ أولهما حد الشيء أي تناهي أبعاده كما سبق وأن قلنا، وليس كذلك في هذا الموضع ولا يخدمه السياق. والمعنى الثاني وهو حد الشيء أي حقيقته، وهو المراد، ولا يُعرف غير هذا لغة مما قد يُجانس السياق. فقوله “من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد” أي نفوض الحد وهو حقيقة الصفة، إذ لا نعلم كنهها، وتفويض “الكيفية” في قوله رحمه الله تابع لهذا ولا يستقيم إلا إذا أريد بلفظ “الكيفية” هاهنا عين “المعنى”؛ إذ كما سبق وبينا أن بين تفويض معنى الصفة -إن شئت قل حقيقة الصفة- ونفي الكيف تلازما؛ إذ تفويض المعنى أن لا يتعين به معنى بذاته، وتفويض الكيف -من حيث هو هيئة- تابع لإثباته وذاك بدوره تابع لإثبات معين المعاني، وهذا خلف، منه صحة ما قلنا. فكانت “الكيفية” في قول ابن قتيبة دالة على المعنى، وهذا من نفس السياق. والشاهد عليه كذلك من نفس السياق، أنه قال بعد ذلك مباشرة : “أو نقيس ما جاء على ما لم يأت”، وفي هذا رد صريح على أصحاب “قياس الأولى”، و “قياس الشاهد على الغائب”، و “قياس التمثيل”، وطعن في منهجهم أشد الطعن فرحم الله ابن قتيبة.

-الوجه الخامس : أن شيخ ابن قتيبة “إسحاق بن راهويه” مفوض Açıklama: 👈لمعاني الأخبارAçıklama: 👉، وهذا بشهادة ابن تيمية؛ قال في التسعينية (²¹) نقلا لقول إسحاق في الصفات : “Açıklama: 👈ولا يعقل نبي مرسل ولا ملك مقرب تلك الصفات ((إلّا بالأسماء)) التي عرفهم الرَّبّ -تبارك وتعالى-، فأما أن يدرك أحد من بني آدم ((معنى)) تلك الصفات ((فلا يدركه أحد))Açıklama: 👉“. قلتُ : وهذا تصريح من إسحاق بن راهويه رحمه الله أن الإيمان بما جاء في هذا الباب مجرد إيمان بالأسماء والألفاظ، أما المعاني فلا تدرك البتة. وهو قول أهل الحق ونحو هذا ما نذهبه، ويذهبه حتى ابن قتيبة بنفسه؛ أما رأيت قوله هذا (²²) : “وكذلك يقال : {تعالى الله}، وهو تفاعل من {العلو}. و {تبارك الله} هو تفاعل من {البركة} و {الله متعال}. ولا يقال : {متبارك} لم نسمعه. Açıklama: 👈وإنما تنتهى فى صفاته إلى حيث انتهى؛ فإن كان قد جاء من هذا شيء عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله، أو عن الأئمة : جاز أن يطلق، كما أطلق غيرهAçıklama: 👉“. قلتُ : لاحظ قوله هاهنا في إطلاق اللفظ من عدمه؛ ففي صريح قوله وجوب الانتهاء عند نفس اللفظ الذي جاء وإن كانت بعض الصياغات لنفس اللفظ صحيحة ممكنة من حيث اللغة كجواز قول {متبارك} لغةً، غير أنا لا نطلقه إذ لم يرد به توقيف ولا إخبار من لدن النبي، فلا يجوز إطلاقه بأي حال والتلفظ به، وإن ورد يُطلق كما يطلق غيره من سائر الألفاظ.

•الأصل الثاني : وهو منع قيام الحوادث بذات الله، وثمة نص صريح من ابن قتيبة في هذا حال رده على من تأول الضحك من الله، فذكروا معان توجب الحدوث كذلك نحو ما نقل عنهم “ضحكت الأرض بالنبات : إذا طلع فيها ضروب الزهر، وضحكت الطلعة : إذا انفتق كافورها عن بياضها، وضحك المزن إذا لمع فيه البرق”، حتى قال ابن قتيبة رحمه الله (²³) في ما ذهبوا إليه من معاني الضحك : “وليس من هذه شيء إلا وللضحك فيه Açıklama: 👈معنى حدثAçıklama: 👉 فإن كان الضحك الذي فروا منه فيه تشبيه بالإنسان Açıklama: 👈فإن هذا فيه تشبيها بهذه المعانيAçıklama: 👉“. قلتُ : وهذا صريح منه في أن من أثبت لله معان تحدث بذاته، قد أثبت مشابهة بينه وبين الإنسان، وقد سبق بيان تأويله للضحك والعجب في ما نقلنا عنه ولله الحمد، وبينا نحو هذا الذي قلناه في منع قيام الحوادث بذات الله، لك أن تراجعه. وثمة شواهد أخرى على أن ابن قتيبة رحمه الله يمنع قيام الحوادث بذات الله؛ كتأويله لقوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} حتى قال (²⁴) : “أي ذكر حدث عندهم لم يكن قبل ذلك”، والمشبهة يذهبون بقوله تعالى على أنه أحدث في ذاته ذكرا يكون كلامه، وهو أشبه بظاهر الآية، وقد اتفقت الأمة على تركه فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد يعترض معترض ناقلا قوله هذا (²⁵) : “وكذلك المحدث ليس هو في موضع بمعنى مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} أنه يخلق وكذلك قوله {لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكر} أي يحدث لهم القرآن ذكرا. والمعنى يجدد عندهم ما لم يكن”، يريد المعترض بهذا أن ابن قتيبة يقول بفرق بين المخلوق والحادث، فجواب ذلك : لا يُسلم، فهته القسمة التي تزعم أنه قول بها قسمة اصطلاحية كلامية ما أدركها ابن قتيبة، وإنما كان يعترض من جهة لغوية محضة وهي أن الحدث لغة ليس بالضرورة خلقا Açıklama: 👈من جهة التأويلAçıklama: 👉، لا من حيث Açıklama: 👈نفس الأمرAçıklama: 👉، كما أن “الخلق” كذلك ليس بالضرورة على ما نذهبه ونتعقله، وقد قال في ذلك : “{فليغيرون خلق الله} يقال : ((دين)) الله”، واعتراضات ابن قتيبة هاهنا ليست بشيء عند الحديث عن حقيقة الحدوث وحقيقة الخلق، فنحن نزعم تلازمهما على هذا الاعتبار بالذات. وما ساقه من الآيات كأن يُحدث الله بعد ذلك أمرا فحقيقته أن الله يخلق ذاك الأمر، على اختلاف المفسرين ما هو، فكيفما كان يكون مخلوقا؛ سواء أن يُرجع الزوج طليقته في عدتها، أو أن تتزوج بعد انقضاء ذلك الخ.. كل هذا يكون مخلوقا عند الكلام على حقيقة حدوثه، غير أنه في اللغة صح أن لا يكون بمعنى الخلق من حيث التأويل، وإنما نقول أن تأويل الآية كذا، أي تأويلها في ما استشهد به “تغيير الأحوال”، فكذلك حدوث الذكر عندنا إنما هو حدوث سماع وعلم من جهتنا وهو تغيير للأحوال، وحقيقة كل هذا أنه مخلوق من لدن الله. أما أن يُقال أن ابن قتيبة يُفرق بين الحادث والمخلوق؛ فهل تقصد بها أن هته التفرقة لازمة عن تفرقة أخرى أصيلة تعود إليها وهي التفرقة بين الفعل والمفعول أي ما يقوم بالذات، والغير وما يقوم بذاته، بحيث تكون أصل التفرقة الأولى التي نختلف فيها؟ أم تقصد أنها تفرقة لغوية بمعنى أن الحدث غير الخلق Açıklama: 👈لغةAçıklama: 👉؟ إن الثاني فمسلم من جهة التأويل والتفسير وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة، لكن عند الحديث عن حقائق الأشياء فلا يسلم إذ نقول أن بين الحدوث والمخلوقية تلازما. أما القول الأول فلا يُسلم البتة، وحتى في تطبيق ذلك ما طبّقه رحمه الله؛ إذ قال ابن قتيبة بحدوث الذكر Açıklama: 👈بائناAçıklama: 👉 عن ذات الله أي من جهة سمع العباد وعلمهم، أي أن الله يحدث عندهم ذكرا، لا يَحدثُ قائما بذاته العلية، وهذا يبطل غائية التفرقة من أساسها على ما ذهب إليه الزاعم بفهمه لقول الإمام رحمه الله؛ إذ ما فائدة ذلك -إن قصده تنزلا-، أن يقول بعدها بحدوث شيء غير ذات الله لا بمعنى مخلوق؟ فدل أنها تفرقة لغوية بسيطة مُسلّمة عند الجميع ولله الحمد، فلا يقدح هذا بشيء من سابق وظاهر استدلالنا بنفس أقواله رحمه الله على نفيه للحدث قائما بذاته تقدست أسماؤه.

ومن الدلالات على أن ابن قتيبة ينفي قيام الحوادث بذات الله، قوله في حديث الملل الذي يثبته هؤلاء القوم على أن الله يمل تعالى الله عن شيء كهذا، لمّا قال رحمه الله (²⁶) : “قالوا : رويتم أن رسول الله ﷺ قال : اكْلَفُوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا. فجعلتم الله تعالى يمل Açıklama: 👈إذاAçıklama: 👉 ملوا، والله تعالى لا يمل على كل حال، ولا يكل. قال أبو محمد -أي ابن قتيبة- ونحن نقول : إن التأويل ((لو كان على ما ذهبوا إليه))، Açıklama: 👈كان عظيماً من الخطأ فاحشاًAçıklama: 👉. ولكنه أراد، فإن الله سبحانه Açıklama: 👈((لا يمل)) إذا مللتمAçıklama: 👉، ومثال هذا قولك في الكلام : هذا الفرس لا يفتر، حتى تفتر الخيل. لا تريد بذلك أنه يفتر إذا فترت ولو كان هذا هو المراد، ما كان له فضل عليها؛ لأنه يفتر معها، فأية فضيلة له؟ وإنما تريد، أنه لا يفتر إذا فترت. وكذلك تقول في الرجل البليغ في كلامه والمكثار الغزير : فلان لا ينقطع، حتى تنقطع خصومه. تريد أنه لا ينقطع إذا انقطعوا”. قلتُ : وكل هذا ظاهر في التأويل، وفي نفي قيام الحوادث بذاته تعالى؛ Açıklama: 👈إذ لا زال الله على غير ملل ولا كلل، لا يمل إذا ملّ المخلوقAçıklama: 👉. فبربكم إن كان يجيز قيام الحوادث بذات الله ما قد يمنعه من إثبات تجدد هذا المعنى بتجدد ملل المخلوق حملا للحديث على ظاهر معناه؟

•الأصل الثالث : وهو تجويز حمل الأخبار والأقوال على غير ظاهرها، قصدا بذلك التأويل. وقد ذكرنا في ذلك -من أقوال الإمام رحمه لله- الشيء الكثير كما تقدم؛ من إثبات المجاز، وأن القرآن نزل على طرق العرب في المجاز التي ذكرها رحمه الله، وإثبات وضع العرب للمعاني العديدة على اللفظ المعين الواحد، وتأويله لكثير من الأخبار وغيرها، وكل هذا يغني عن إعادة ذكره في هذا المبحث، فقد أثبتناه في ما خلا بالفعل، وقد أذكر بعض النقولات عنه رحمه الله في التأويل استئناسا؛

-حديث الهرولة (²⁷) : “قال أبو محمد : ونحن نقول : Açıklama: 👈((إن هذا تمثيل وتشبيه))، وإنما أراد من أتاني مسرعاً ((بالطاعة))، أتيته ((بالثواب)) أسرع من إتيانه؛ ((فكنى)) عن ذلك بالمشي والهرولةAçıklama: 👉“. قلتُ : وهذا تصريح منه بأن الخبر يُحمل على غير ظاهره، وإنما نمره ممر المجاز -الكناية-. أما السلفية في تفسير هذا الحديث فينقسمون إلى قسمين؛ منهم من يثبت الهرولة لله، ومنهم من لا يثبتها. والأول يخالفه ابن قتيبة مخالفة صريحة، والثاني وإن تأول غير أنه يقول أن ما ذهب إليه من التأويل Açıklama: 👈نفس ظاهر الخبرAçıklama: 👉، ولا يقر مجازا ولا إقباله على تأويل، وهذه بهرجة منهم كما ترى كي لا يَلزمهم ما يُلزِمهم به أهل السنة، وابن قتيبة يقر بأن الظاهر غير ما ذهبوا إليه أنه ظاهر وإنما يكون ذلك Açıklama: 👈تأويلا منهمAçıklama: 👉، سواء أأقروا بذلك أم لم يقروا فلا اعتبار لذلك.

-حديث الحجر الأسود (²⁸) : “قال أبو محمد : ونحن نقول : Açıklama: 👈إن هذا تمثيل وتشبيهAçıklama: 👉، وأصله : أن الملك كان إذا صافح رجلاً، قبل الرجل يده، Açıklama: 👈فكأن الحجر الله تعالى ((بمنزلة اليمين للملك))، تستلم وتلثمAçıklama: 👉“.

-تأويله لصفة “الواسع”؛ قال رحمه الله (²⁹) : “ومن صفاته {الواسع}. وهو الغنيُّ، والسعة : الغنى. قال الله {لينفق ذو سعة من سعته} أي: يعط من سعته”.

-تأويله لصفة “الكبرياء” مجردا دلالات الحدوث والانفعال عنها؛ قال رحمه الله (³⁰) : “و {كبرياء الله} : Açıklama: 👈شرفهAçıklama: 👉. وهو من {تكبر} : إذا أعلى نفسه”.

-تأويله لصفة “الإستهزاء”؛ قال رحمه الله (³¹) : “{الله يستهزئ بهم} أي Açıklama: 👈يجازيهم جزاء الإستهزاءAçıklama: 👉“.

-حديث موت سعد بن معاذ واهتزاز العرش لأجله؛ قال رحمه الله (³²) : “وليس الاهتزاز ما ذهبوا إليه من الحركة ولا العرش ما ذهب إليه الآخرون، Açıklama: 👈بل الاهتزاز الاستبشار والسرورAçıklama: 👉؛ يقال : (إن فلاناً ليهتز للمعروف) أي يستبشر ويسر. [إن فلاناً لتأخذه للثناء هزة، أي ارتياح وطلاقة]، ومنه قيل في المثل : [إن فلاناً إذا دعي اهتز، وإذا سئل ارتز]. والكلام لأبي الأسود الدولي، يريد أنه إذا دعي إلى طعام يأكله اهتز، أي : ارتاح وسر. وإذا سئل الحاجة، ارتز أي ثبت على حاله ولم يطلق. فهذه معنى الاهتزاز، في هذا الحديث. وأما العرش، فعرش الرحمن، جل وعز على ما جاء في الحديث. وإنما أراد باهتزازه استبشار الملائكة الذين يحملونه ويحفون حوله، بروح سعد بن معاذ. فأقام العرش مقام من يحمله ويحيط به من الملائكة؛ كما قال الله عزّ وجل : {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}. يريد: ما بكى عليهم أهل السماء، ولا أهل الأرض. فأقام السماء والأرض، مقام أهلهما. وكما قال : {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، أي : سل أهلها”. قلتُ : وما حمله على هذا التأويل من أساسه، إلزام المخالفين له أن اهتزاز العرش لموت أحدهم يوجب ذلك في موت الرسل والأنبياء وأبنائهم من باب أولى، وقد جاء الخبر عن رسول الله أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد بما في ذلك إبراهيم بن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الأولى بذلك، فكيف بالعرش وهو أعظم، ولسعد بن معاذ وهو أبعد ما يكون إلى ذلك من حيث الاستحقاق؟! فعلم ابن قتيبة أن في لفظ الحديث إشكالا، ثم تأوله مقدما صريح القياس وصحيحه على ظني الألفاظ كما ترى.

وإني والله أرى في هذا الكفاية إن شاء الله لمن شاء أن يعتبر حال الإمام رحمه الله، فقد نقلنا عنه من التنزيه ما يلجم أفواه المشبهة، ويكفيهم دندنة حوله، والله المستعان.

————–

#المراجع :

(¹)- “الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، ص 53”.

(²)- “تأويل مختلف الحديث، ص 317”.

(³)- “تأويل مشكل القرآن -شرح أحمد صقر-، المجلد ص 506”.

(⁴)- “تأويل مختلف الحديث، ص 322”.

(⁵)- “الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، ص 44”.

(⁶)- “نفس الكتاب، ص 52”

(⁷)- “تأويل مشكل القرآن -شرح أحمد صقر-، ص 439-441”

(⁸)- “تأويل مختلف الحديث، ص 316”.

(⁹)- “نفس الكتاب، ص 298”.

(¹⁰)- “نفس الكتاب، ص 305-306”.

(¹¹)- “نفس الكتاب، ص 393”.

(¹²)- “الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، ص40”.

(¹³)- “نفس الكتاب ص 42”.

(¹⁴)- “نفس المرجع”.

(¹⁵)- “تأويل مشكل القرآن -شرح أحمد صقر-، ص 20-21”.

(¹⁶)- “تأويل مختلف الحديث، ص 312”.

(¹⁷)- “نفس الكتاب، ص398”.

(¹⁸)- https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=291309827275655&id=100091899189342&mibextid=Nif5oz

(¹⁹)- “الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، ص 46-47”.

(²⁰)- “تأويل مشكل القرآن -شرح احمد صقر- ص 23”.

(²¹)- “التسعينية لابن تيمية، المجلد الثاني ص 423”.

(²²)- “تفسير غريب القرآن، ص 10”.

(²³)- “الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، ص 52”.

(²⁴)- “نفس الكتاب، ص 39”.

(²⁵)- “نفس المرجع”.

(²⁶)- “تأويل مختلف الحديث، ص 486”.

(²⁷)- “نفس الكتاب، ص 327”.

(²⁸)- “نفس الكتاب، ص 313”.

(²⁹)- “تفسير غريب القرآن، ص 15”.

(³⁰)- “نفس الكتاب، ص 18”.

(³¹)- “نفس الكتاب، ص 41”.

(³²)- “تأويل مختلف الحديث، ص 387”.

https://www.facebook.com/story.php?story_fbid=330781343328503&id=100091899189342&mibextid=xfxF2i&rdid=NeyWIkK0AaGPqx0o

السابق
أخطأ أبو حنيفة وأخطأت الأمة كافة بسلفها وخلفها، المتمذهب منها وغير المتمذهب، المجتهد والمقلد، السني والمبتدع، الصوفي والوهابي بل ربما أشرك معظم الأمة في التشريع في زكاة الفطر (1)
التالي
التبرك بمنبر النبي (صلى الله عليه وسلم)/ منقول

اترك تعليقاً