م.محمد أكرم أبو غوش
[استغفلهم وسيصدِّقونك…!]
يقرِّرالمتكلِّمون في أقسام الأدلَّة أنَّ منها أدلَّة نقليَّة تفيد اليقين لمن يثبت لديه كون النَّقل الشَّريف من عند الله تعالى، فمعنى (الدَّليل النَّقليِّ) الدَّليل الذي مستنده الخبر عن الله تعالى، في مثل أنَّ من الملائكة عليهم السلام من له ثلاثة أجنحة، فعلمنا بصدق هذا لقول الله تعالى: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع}[فاطر: 15].
فمن كان مصدِّقا بكون القرآن الكريم من عند الله تعالى لزمه التَّصديق بوجود من له ثلاثة أجنحة من الملائكة عليهم السَّلام عندما يقرأ هذه الآية الكريمة.
أمَّا الذي لا يكون مصدِّقاً بالقرآن الكريم فلا يكفيه لكي يصدِّق بهذا أن يقرأ هذه الآية الكريمة، بل لا بدَّ من أن ندلَّه أولاً على أنَّ هذا من الله تعالى الصَّادق فيما يخبر.
فحجِّيَّة الدَّليل النَّقليِّ إذن تكون بعد قيام الحجَّة على صدق النَّقل الشَّريف، والحجَّة على صدق النَّقل الشَّريف لا يصحُّ أن تكون بنفس النَّقل الشَّريف، لأنَّ الاستدلال سيتضمَّن الدَّور…
فمثلاً لو قال أحدهم إنَّ الدَّليل على وجود الله تعالى هو قوله تعالى: {ذلك بأنَّ الله هو الحقُّ}[الحج: 62] لم يكن في ذلك حجَّة على من لا يؤمن بوجوده تعالى، لأنَّه ليكون النَّصُّ الشَّريف حجَّة عليه لا بدَّ أن يكون عالماً بأنَّه خبر صادق، وليعلم وجود الإله بهذا النَّصِّ الشَّريف لا بدَّ أن يكون عالماً بأنَّ هذا الخبر صادق. وهذا دور ظاهر، فلا دلالة فيه.
وكذلك لا يكفي الاستدلال على كون سيِّدنا ومولانا محمَّد صلى الله عليه وسلَّم تسليماً كثيراً رسول الله تعالى بقول الله تعالى: {محمَّد رسول الله}[الفتح: 29]، لحصول الدَّور في هذا الاستدلال.
ولذلك قال المتكلِّمون إنَّ الأدلَّة النَّقليَّة لا تفيد العلم بما يتوقَّف ثبوت صدق النَّقل الشريف عليه.
وهذا لا يصعب فهمه على المبتدئين في علم الكلام.
واضح؟
واضح.
فهل يوافق عليه ابن تيميَّة؟
يقول ابن تيميَّة في كتاب (درء تعارض العقل والنَّقل): “وأما القسم الثاني ـ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية، فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين والمتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق، فدلالته موقوفة علي العلم بصدق المخبر، ويجعلون ما يبني عليه صدق المخبر معقولات محضة.
فقد غلطوا في ذلك غلطاً عظيماً، بل ضلوا ضلالاً مبيناً، في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد، بل الأمر ما عليه سلف الأمة، أهل العلم والإيمان، من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره، ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه”.
فهنا يقول ابن تيميَّة إنَّ المتكلمين والفلاسفة قد ضلوا في قولهم هذا، لأنَّ القرآن الكريم يتضمَّن الأدلَّة العقليَّة الكافية في الدَّلالة على أصول الدِّين.
طيب أين ضلُّوا؟
هل هم ينكرون كون القرآن الكريم مشتملاً على الأدلَّة العقليَّة؟ فهم يثبتون ذلك صريحاً(*).
وكون الأدلَّة العقليَّة مذكورة في النَّقل الشَّريف لا يجعل دلالتها نقليَّة موقوفة على أدلَّة عقليَّة.
وعليه فلا يكون اعتراض ابن تيميَّة وارداً على المتكلِّمين أصلاً، وهو مجرَّد تشنيع فارغ لن يؤثِّر إلا في من يثق بابن تيميَّة لدرجة العمى عن فهم ما يقول وما يقول غيره.
أمَّا ابن تيميَّة نفسه…
فإمَّا أنَّه نفسه لم يفهم ما الذي يعترض عليه فتوهَّم أنَّ هذا الاعتراض وارد على المتكلِّمين… (١).
وإمَّا أنَّه يعرف أنَّ هذا تشنيع فارغ، لكنَّه متعمِّد له لمعرفته بأنَّ أتباعه يقرؤون له من غير فهم… (٢).
وعلى المسلم العاقل المنصف أن يتفَّكر في الاحتمالات، فهل سيجد احتمالاً غير (1) و (2)؟!
الفقير أطلب جادّاً ذكر أي احتمال لكلام ابن تيميَّة بحيث يكون مستقيماً غير ساقط.
وإلا فهذا حقّاً نهج ابن تيميَّة الذي تعوَّدنا عليه من التَّلاعب والتَّشويه بالباطل.
اااااا
(*) انظر مثلاً في تفسيرالإمام الفخر الرَّازيِّ لقول الله تعالى: {يا أيها النَّاس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذي من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة: 21].
وقال في تفسير قول الله تعالى: {ما فرَّطنا في الكتاب من شيء}[الأنعام: 38]: “أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه”.
وقال في تفسير قول الله تعالى: {الله نزَّل أحسن الحديث}[الزُّمر: 23]: “وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين، والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتابا يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها. ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة، ولما كان الأمر على هذه الجملة، لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث}”.