[1] الدليل الثاني للسلفية على المنع من الاستغاثة: حديث “الدعاء هو العبادة”* (وليد الزير آدمن 9)
يستدل السلفية بما رواه الترمذي وغيره من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [1].
قال ابن عثيمين في القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 186)
من الشرك أن يدعو غير الله، وذلك لأن الدعاء من العبادة، قال الله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [غافر: 60]، { عبادتي } ، أي: دعائي، فسمى الله الدعاء عبادة، وقال – صلى الله عليه وسلم -: “إن الدعاء هو العبادة”اهـ
وجه الدلالة من الحديث ما قاله ابن قيصر الأفغاني: “وهو نص في أن الدعاء عبادة، وعليه: “فمن دعا الأموات وناداهم واستغاث بهم عند الكربات، فقد عبد غير الله تعالى بأعظم أنواع العبادات، وأشرك أكبر أنواع الشرك بخالق الكائنات”([2]) .
والجواب: إننا نُسلّم بأن الدعاء عبادة، ولكن هذا لا يعني أن دعاء غير الله هو عبادة لهذا الغير، بل لا يعني أن كل من يدعو الله يعبده؛ أما الأول فهو باتفاق بيننا وبينكم لأنكم تجيزون دعاء الحي فيما يقدر عليه، ونحن نجيز دعاء الحي والميت بشرط أن لا يعتقد ضرا أو نفعا في المدعو؛ كما أننا أثبتنا أن كون الشيء عبادة لله لا يعني أن صرفه لغير الله شرك، مثل الخوف** والرجاء والشكر والحب والطاعة والتذلل والسجود ونحو ذلك فكل هذا يصرف لغير الله دون أن يكون شركا أو عبادة للغير.
وأما الثاني (وهو أنه لا يعني أن كل من يدعو الله يعبده) فيدل عليه أمور:
الأول: أن الإنسان قد يدعو الله مستهزئا، ومثال ذلك ما حكاه الله عن المشركين أنهم قالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32]. فالمشركون هنا في صورة من يدعو الله، بدليل تصديرهم لدعائهم بـ “اللهم” أي يا الله…، ولكن دعاءهم هذا ليس عبادة منهم لله قطعا، بل هو سخرية منهم بالله وعدم اكتراث بعذابه، لذلك أجابهم الله بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال : 33]، فهل تقولون بعد هذا: إن المشركين كانوا يعبدون الله بهذا الدعاء؟!
الثاني: إن الدعاء قد يصدر من ملحد أو زنديق أو منافق يدعو مع جماعة المسلمين ويُؤمِّن على دعائهم، ولكن يدعو أو يُؤمِّن لا على أساس أن هذا عبادة، ولكن يدعو على أساس أن هذا من الطقوس الدينية التي انتشرت في المجتمع، فينبغي للمرء أن يسايرها ولا يخرج عليها، وإن كان هو أصلا غير مقتنع بها ولا هو مؤمن بإله يدعوه أو يلجأ إليه، ومن هذا الباب تراه يدعو الله للميت بالرحمة ولا يقصد حقيقة الدعاء لأنه لا يؤمن بالله أصلا حتى يُؤمِن برحمته أو بحسابه في اليوم الآخر؛ وإنما يقصد عزاء أصدقائه[3] من أهل الميت بكلمة درَج العُرف على استعمالها؛ وهذا ما عليه كثير من العلمانيين والتغربيين[4]؛ فهل هؤلاء حين يدعون الله بهذا القصد هم يعبدون الله؟! كيف، وهم أصلا لا يؤمنون بالله أصلا؟!
الثالث: إن الدعاء قد صدر من إمام الكفرة وهو إبليس كما حكى الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الحجر : 36]، فهل إبليس كان يعبد الله بدعائه هذا يا قوم؟!
فثبت أنه ليس كل من يدعو الله يكون عابدا له، وما ذلك إلا لأن العبادة لها شروط، وما لم تتوفر لا يسمى العمل عبادة أيا كان هذا العمل، أضف إلى ذلك أن عبادة الدعاء يجب أن تنطوي على مشاعر الذل والافتقار إلى المولى الغني العزيز، وما لم تتوفر في الدعاء هذه المشاعر فليس بدعاء أصلا كما سيأتي.
وأما استدلالكم بحديث النعمان فغير مُسلّم، لأن غاية ما يدل عليه الحديث أن الدعاء عبادة وهذا نُسلم به ولا ننازع فيه، وأما ما ننازع فيه هو دعاء الموتى والغائبين فلم يدل عليه الحديث، فكيف يزعم ابن قيصر الأفغاني أن الحديث نص على أن دعاء الغائب والأموات شرك أكبر؟ إذن فالأفغاني هذا ـ وأمثاله ـ لا يعرف معنى كلمة النص في أصول الفقه، وكان عليه قبل أن يكفّر الناس أن يقرأ مختصر صغير في الأصول مثل الورقات لإمام الحرمين، وفيه تعريف النص، وحينها سيعلم أن الحديث السابق حتى يكون نصا فيما يزعمه الأفغاني يجب أن يكون كالتالي: “دعاء الغائبين والأموات شرك أكبر”.
فإن قلتم: إن الحديث السابق يدل على ذلك بعمومه، إذ يفيد أن كل دعاء عبادة،ويدخل في ذلك دعاء الأموات والغائبين، لأن “أل” في “الدعاء” للاستغراق.
قلنا: ليس كما زعمتم، إذ الحديث يتكلم عن دعاء الله، وليس عن دعاء الأموات ولا الغائبين، فـ”أل” في “الدعاء” هي للعهد الذهني المنصرف إلى الله، ولا يصح أن تكون “أل” فيه للاستغراق[5] لأنه سيكون المعنى “كل دعاء عبادة”، وهذا المعنى باطل، إذ سيكون دعاء بعضنا البعض: شرك؛ وإن صح هذا المعنى فالشرك لاحق بكم قبلنا، لأنكم تَدْعون وتنادون بعضكم البعض وتجيزون دعاء الحي فيما يقدر عليه وتستعينون ببعضكم البعض لاسيما في سفك دماء المسلمين كما فعل ابن عبد الوهاب حين استعان بأتباعه لشن الحروب على المسلمين في الحجاز والعراق والشام وغيرها، فثبت أنه ليس كل دعاء عبادة، وبطل العموم الذي تدعونه.
فإن قلتم: إن دعاء الحي فيما يقدر عليه غيرُ داخل …..انتظره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال والذي يلية اجتزأته من بحثي الخاص حول مفهوم العبادة وهو يسبق الكلام على الاستغاثة، لذلك تجد في المقال إحالات لم نتطرق إليها، وسنورد حالات عن مفهوم العبادة لاحقا، وبما أن هذا الحديث هو نفسه يستدل به السلفية على أمرين، الأول: على تعريف العبادة وأنها ليست فقط السجود ونحوه، والثاني: على أن الاستغاثة شرك لأنها عبادة؛ فآثرت أن أسوق الكلام على هذا الحديث من بحث مفهوم العبادة، لأن هذا الكلام نفسه يقال في الاستغاثة.
[1] انظر: سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب فضل الدعاء، باب منه حديث: 3372 ؛ وقال الترمذي: حسن صحيح، وسنن أبي داود،كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب الوتر، باب الدعاء حديث:1277، وسنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، حديث:3826.
([2]) انظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، لابن قيصر الأفغاني (3 / 1406)، وانظر: الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية (2/ 89)، تيسير العزيز الحميد (ص: 183)، شرح العقيدة الطحاوية – صالح الفوزان (ص: 198)، مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد و عند القبور للراجحي (ص: 183).
** فالخوف من الله عبادة قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، ومع ذلك فإن موسى عليه السلام خاف غير الله فنهاه الله عن ذلك فقال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)} [طه: 67 – 69] ولكن هذا خوف فطري لا خوف عبادة؛ وهكذا في بقية الأمثلة وسوف تأتي مفصلة في مبحث مفهوم العبادة إن شاء الله.
[3] ولقد سمعت غير مرة من الشيخ محمد سعيد قصة وقعت منذ سنوات قليلة، ومفادها أن أحد الملحدين ذهب مع صديقه لعزاء صديق لهما ـ وهو أستاذ في جامعة دمشق ـ في وفاة قريب له، ولما جلسا سمعا تلاوة القرآن على الميت، فقال الملحد لصديقه الذي جاء معه: قم بنا نخرج، فإن هذا القرآن يكاد أن يغيّر عقلي.
[4] وإمامهم في ذلك فولتير حيث يقول: “” إن الاعتقاد القاطع بعدم وجود إله خطأ أخلاقي مروِّع ، خطأ لا يتمشى مع أية حكومة تتسم بالعقل والحكمة “” ، وإنه من الأفضل بكثير من الناحية الأخلاقية أن نؤمن بوجود إله من عدم الإيمان بوجوده فـ “” لو لم يكن الله [عز وجل] موجوداً لتعين اختـراعه “” وكان يقول : “” يثير الرأي القائل بوجود الله [عز وجل ] صعوبات ، ولكن الرأي المعاكس ينطوي على أمور مستحيلة “” انظر:” الإلحاد في الغرب ص 177، لرمسيس عوض؛ تكوين العقل الحديث ” ص 452، تأليف جون هرمان راندال. وانظر العلمانيون والقرآن، لصديقنا الدكتور أحمد طعان.
[5] قال ابن هشام: “أل” التعريف نوعان: عَهْدية، وجِنْسية، وكل منهما ثلاثة أقسام. انظر تفصيل ذلك في: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/314، للعلامة أبي محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري، تحقيق د. عبد اللطيف الخطيب، الكويت، ط1/2000م. وانظر: شرح ابن عقيل – (1 / 178).