حكم الاستغاثة ودعاء غير الله

علماء أعلام وفقهاء كبار قالوا بجواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يدخل في دعاء غير الله قطعا (منقول)

قضيتان:

القضية الأولى: دعاء غير الله

قال الحق سبحانه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [الحج: 12].

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14].

وهناك عشرات الآيات والأحاديث التي تدل دلالة قاطعة على أن دعاء غير الله شركٌ أكبر.

القضية الثانية: علماء أعلام وفقهاء كبار قالوا بجواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

والآن إما أن تكون القضية الأولى ((وهي قطعية كما سبق)) هي عين ما جهله العلماء الذين يُترجَم لهم في كتب الطبقات والتواريخ، فكيف يوصف هؤلاء بالأوصاف التالية: (الإمام) (القدوة) (شيخ الإسلام) (الحافظ) (المحدث) ونحو ذلك، وهذا الاحتمال لا يمكن قبوله، لأنهم لو كانوا ((يجهلون الفرقان بين الكفر والإيمان))، فإنهم يجهلون أصل الدين، وكان حقهم أن يوصفوا في كتب التراجم بـ (الكافر) (المشرك) (الوثني) (عابد قبر) (عبَّاد غير الله).

والاحتمال العقلي الثاني: أن يكون ما قال بجوازه هؤلاء الأعلام والفقهاء يختلف عن القضية الأولى، أي: أن الاستغاثة ليست من دعاء غير الله بأيِّ وجه من الوجوه، ومِنْ ثَمَّ يلزم صاحب الدين والورع أن يَكُفَّ عن تكفير ((جمهور علماء الأمة الإسلامية))، ويلزمه أيضاً أنْ يتعرف على الاستغاثة وما حقيقتها، وتحت أي قضية تندرج.

وهنا يلزم تحرير مجموعة من المصطلحات الشرعية، فإن الجهل بها هو الذي أوقع ((التكفيريين)) في الحكم على جماهير العلماء بالكفر والشرك والضلال، من هذه المصطلحات (الدعاء) و (العبادة) و (الاستغاثة) و (التوسل) و (القبورية) و (الخرافة) …

فإن تقل: وما حجتك على أنَّ جمهور العلماء يقولون بالاستغاثة، ولا يرونها مندرجة تحت القضية الأولى (دعاء غير الله الذي ورد النهي عنه في آيات القرآن الكريم).

وكان من المفترض أن أبين هنا معنى (الاستغاثة) ولكني سأقدم عليه بعض المواقف لبعض الأئمة الذين يعترف الْمُكَفِّر بإمامتهم فضلاً عن ((إسلامهم)).

فقد كان:

الإمام ابن المقرئ محمد بن إبراهيم الأصبهاني، الحافظ، الجوال، مسند الوقت.

والإمام أبو الشيخ عبد الله بن محمد، الحافظ، محدث أصبهان.

والإمام الطبراني، سليمان بن أحمد، الحافظ، الثقة، محدث الإسلام، صاحب المعاجم الثلاثة.

كان هؤلاء الثلاثة بالمدينة النبوية وقد أصابهم الجوع الشديد، فجاء الإمام المقرئ وقت العشاء القبر الشريف وقال: ((يا رسول الله الجوع))، فقال له الإمام الطبراني: اجلس، فإما أن يكون الرزق أو الموت، فأغيثوا.

فهل تعتقدون أن ((أئمة الحديث)) هؤلاء كفاراً مشركين، لا يعرفون دين الحق، ولا يفرقون بين عبادة الله وعبادة القبور، هل هم أئمة هدى كما ترجم لهم العلماء في كتب الرجال، وكتب الحديث، أم أنهم مخرفون ومبتدعون وضلال.

وهذا الإمام المحدث الحسن بن إبراهيم الخلال يقول: (ما أهمني أمر، فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسلت به إلا سهل الله لي ما أحب). انظر تاريخ بغداد (1/120) للإمام الحافظ البغدادي، وكذلك المنتظم للإمام ابن الجوزي، فهل وقع هؤلاء في الشرك أو في وسيلة الشرك.

وقد ذكر هذه الحادثة الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (31/473)، وذكرها أيضا في تاريخ الإسلام (27/ 39)، وفي طبقات الحفاظ (3/ 122) والإمام علي السمهودي في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/ 419).

هَبْ أنَّ هذه القصة لا تصح، فهل أشرك الحافظ الذهبي حين أورد هذه الحادثة ولم ينبه على أنَّ هؤلاء الأئمة الثلاثة قد أشركوا وخرجوا من الملة حين استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه الجوع.

والإمام المحدث الكبير أحمد بن الحسين البيهقي صاحب السنن الكبرى وشعب الإيمان والأسماء والصفات.

فقد روى في شعب الإيمان بسنده قال: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو محمد بن زياد، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: سمعت أبا إسحاق القرشي، يقول: كان عندنا رجل بالمدينة إذا رأى منكرا لا يمكنه أن يغيره أتى القبر، فقال:

أيا قبر النبي وصاحبيه … ألا يا غوثنا لو تعلمونا).

ولم يتعقب الإمام البيهقي هذا الفعل بإنكار، ولو كان هذا شركا وكفرا لما ذكره في كتابه، ولما سكت عليه، أم أنكم ترون الإمام البيهقي قد كفر وأشرك!!

ويذكر لنا الإمام المحدث الفقيه ابن عساكر الشافعي في تاريخ مدينة دمشق (56/61) ما حدثَ للرجل المديون الذي بات في المسجد متلوذا بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وبمنبره مرة، فأجاب الله دعوته ولبَّى حاجته.

وإيراد الإمامُ المحدث ابن عساكر هذه الحادثة دون نكير، ولو كان الرجوع إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته شركا وكفرا لأنكر ذلك هذا الإمام، والإمام ابن عساكر هو الذي يقول فيه الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (12/294) : (أحد أكابر حفاظ الحديث، ومن عني به سماعا وجمعا وتصنيفا واطلاعا وحفظا لأسانيده ومتونه، وإتقانا لأساليبه وفنونه، صنف تاريخ الشام في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلدة، وقد ندر على من تقدمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق …هذا مع ماله في علوم الحديث من الكتب المفيدة وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائق الحميدة).

وأما الغلاة فإنهم لا يعتقدون أن الإمام ابن عساكر على الطرائق الحميدة، بل لا يرونه وقع في معصية أو بدعة، بل وقع في الشرك الأكبر بحسب زعمهم!!

وهذا الإمام المحدث الفقيه أبو عمرو ابن الصلاح (ت:643 هـ) يذكر لنا في آداب المفتي والمستفتي (1/210) وهو يتكلم عن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره صلى الله عليه وسلم بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عليه وسلم على تعاقب العصور وذلك أن كرامات الأولياء من أمته وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له صلى الله عليه وسلم قواطع ومعجزات له سواطع ولا يعدها عد ولا يحصرها حد أعاذنا الله من الزيغ عن ملته وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته).

فتأمل قوله: ((وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم)) فهل ابن الصلاح (إمام) أم (مشرك)،، هل هو (فقيه محدث) كما يقول كل الأئمة الذين ترجموا له، أم هو (قبوري خرافي)!!

والإمام المحدث الفقيه ولي الدين أبو زرعة العراقي الشافعي في كتابه طرح التثريب.

والأمثلة على ذلك كثيرة، وبين يدي من الأقوال والحوادث الكثير والكثير، وأترك التطويل في هذا لأعود إلى القضية الأولى التي افتتحت بها حديثي،، هل هؤلاء الأئمة علموا أحكام الصلاة والصيام والبيوع وأصول الفقه ووو ،،، وجهلوا أمر التوحيد،، وجهلوا الفرقان بين الكفر والإيمان!!

لا شك أنَّ القضية ليست كذلك أبداً، وسبب الخلط هو عدم التفريق بين طلب الحاجة على وجه ((التسبب والاكتساب)) وطلبها على وجه ((الخلق والإيجاد))، فالأول فعل المكلفين وتعبدهم، والثاني فعل الله وحده لا شريك له.

ولهذا نجد في القرآن نسبة الخلق والإحياء والإماتة وهي قضايا خطيرة إلى الله تعالى تارة، وإذا بعض خلقه تارة أخرى.

قال سبحانه: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر:42)، وقال سبحانه وتعالى: {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } (البقرة: 258)، وقال سبحانه وتعالى: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} (الروم:40).

ومع كون الإحياء والإماتة والتوفي فعل الله وحده حقيقة وإيجادا، فقد نسب الله هذه الأفعال إلى بعض خلقه، فقال سبحانه وتعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} (الأنعام:61)، فنسب الله التوفي إلى رسله، وقال سبحانه وتعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة:11)، وقال سبحانه وتعالى مخبرا عن عيسى عليه السلام: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:49).

ولا تعارض بين هذه الآيات، فإن الله نسب الخلق والإحياء والإماتة والتوفي إلى نفسه نسبة حقيقية، ونسب ذلك إلى الملائكة وإلى ملك الموت وإلى عيسى عليه السلام مجازا، وليس في نسبة هذه الأفعال للملائكة أو عيسى إخلالا بحق التوحيد.

ونسب الله الرزق إلى نفسه فهو سبحانه وتعالى الرزاق، قال سبحانه وتعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات:58)، وتقديم الضمير [هو] يفيد الاختصاص، فهو سبحانه وحده من يرزق على الحقيقة، ولكنه سبحانه وتعالى نسب الرزق إلى خلقه مجازا؛ فقال سبحانه وتعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} (النساء:8)، وليس بين هذه الآية والتي سبقتها تعارض، لأن نسبة الرزق في الآية الأولى حقيقية وفي الآية الثانية مجازية، وليس في ذلك ما يعارض أمر التوحيد، أو يخل بحق الله تعالى.

والأمثلة القرآنية في هذا كثيرة جداً، وهذه القضية كانت أوضح من الشمس عند الأئمة، ولهذا لم يجدوا أيَّ حرج في ذلك، وتأمل بهدوء أعصاب ما قاله الإمام تقي الدين السبكي في شفاء السقام: (فالتوسّل والتشفّع والتجوّه والاستغاثة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء والصالحين، ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بها أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه، نسأل العافية، وإذا صحّ المعنى فلا عليك في تسميته «توسّلا» أو «تشفّعاً» أو «تجوّهاً» أو «استغاثة»).

وليس الهدف هنا استقصاء ذكر القائلين بالاستغاثة أو التوسل، ولا استيعاب أدلة المسألة، فقد كُتب في ذلك مؤلفات ورسائل، وإنما الهدف هو التنبيه على علَّة وقوع الغلاة في التكفير بهذه المسألة، ونبزهم للموحدين بـــــــ (القبورية) و (عباد القبور) و (الخرافيين)، ونحو ذلك من الباطل.

السابق
ذكر ما جاء على وزن فُعَلِل وفُعَالِل وفَعَوْعَل وتفْعال وفَيْعال وفِعِّيل وفِعِّيلى وفُعلاَء فَعْلَلِيل وَفَنْعَلِيلِ من كتاب المزهر في علوم اللغة للإمام السيوطي
التالي
ما يريد بالفراء هاهنا وكانوا جلوسا على فروة، فقال له أبو عمرو: يريد ما نحن عليه فقال له الأصمعي: أخطأت وإنما الفراء هاهنا جمع فَرَأ، وهو الحمار الوحشي/ المزهر في علوم اللغة وأنواعها/ النوع الثالث والأربعون/ معرفة التصحيف والتحريف