حكم الاستغاثة ودعاء غير الله

نصوص العلماء من السلف والخلف ومن المذاهب الأربعة على جواز الاستغاثة والتوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين

والصواب في ذلك كله أنه لا فرق بين الاستغاثة بالأحياء والأموات؛ فطلبها منهم على جهة السببية جائز إن صحت السببية، أما على جهة العبادة فهو كفر وشرك؛ لا فرق في ذلك بين كون المستغاث به حيًّا أو ميتًا.

  • وأما أنه مذهب أهل السنة والجماعة واتفق عليه عمل الأمة سلفًا وخلفًا من غير نكير:
    فيقول الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في (أدب المفتي والمستفتي، ص: 210، ط. مكتبة العلوم والحكم) وهو يتكلم عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عليه وآله وسلم على تعاقب العصور؛ وذلك أن كرامات الأولياء من أمته صلى الله عليه وآله وسلم وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له صلى الله عليه وآله وسلم قواطع، ومعجزات له سواطع، ولا يعدها عد ولا يحصرها حد، أعاذنا الله من الزيغ عن ملته، وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته” اهـ.
  • ويقول الإمام المجتهد بقية السلف تقي الدين السبكي في كتابه (شفاء السقام، ص: 357) : “اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار” اهـ.
  • ويقول الإمام تقي الدين الحصني الشافعي في كتابه (دفع شُبَهِ مَن شبَّه وتمرَّد، ص: 436 – 437، ط. دار المصطفى) : “والمراد أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واللواذ بقبره مع الاستغاثة به كثير على اختلاف الحاجات، وقد عقد الأئمة لذلك بابًا، وقالوا: إن استغاثةَ مَن لاذ بقبره وشكى إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى” اهـ.
  • ويقول الإمام القسطلاني في (المواهب اللدنية، 4/ 594-595) : “وأما التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته في البرزخ: فهو أكثر من أن يُحصَى، أو يُدرَك باستقصا” اهـ.
  • والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح كثيرة يضيق المقام عن حصرها، وقد حصل ذلك لجماعة من الصحابة وعلماء سلف الأمة من أئمة المحدثين والصوفية والعلماء بالله المحققين، كما قال السمهودي في (وفاء الوفا، 5/ 78) ، وصنف فيها الأئمة كتبًا مفردة، كما صنع الإمام الحافظ المنذري (ت: 656هـ) صاحب “الترغيب والترهيب” في رسالته (زوال الظما في ذكر من استغاث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشدة والعمى”، والإمام أبو عبد الله بن النعمان المراكشي (ت: 683هـ) في كتابه (مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام) ، والعلامة نور الدين الحلبي الشافعي (ت: 1044هـ) في كتابه (بغية ذوي الأحلام بأخبار مَن فُرِّجَ كربُه برؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام في المنام) ، وغيرهم.
  • قال العلامة الأصولي شمس الدين الجزري الشافعي (ت: 711هـ) شارح “منهاج البيضاوي” فيما أورده العلامة نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت: 716هـ) في كتابه (الإشارات الإلهية، 3/ 91) مقرًّا له وزائدًا عليه: “وقد صنف أبو عبد الله بن النعمان كتابًا سمّاه (مصباح الظلام، في المستغيثين بخير الأنام) ، واشتهر هذا الكتاب، وأجمع أهل عصره على تلقيه منه بالقبول، وإجماعُ أهلِ كل عصرٍ حجةٌ” اهـ.
  • ومن ذلك:
  • ما رواه ابن أبي شيبة في (المصنف، 7/ 482) ، وابن أبي خيثمة -كما في (الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 484) -، والبيهقي في (دلائل النبوة، 7/ 47) ، والخليلي في (الإرشاد، 1/ 313-314) ، من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار -وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال: ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنكم مسقون، وقل له عليك الكيس، قال: فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. وهذا حديث صحيح؛ صححه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية، 7/ 101) ، وقال في (جامع المسانيد والسنن، 1/ 223) : إسناده جيد قوي، وصححه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري، 2/ 495) .
  • وروى البخاري في “الأدب المفرد”، وابنُ السُّنِّي في “عمل اليوم والليلة” كلاهما في “باب: ما يقول إذا خَدِرَتْ رجلُه” أن ابن عمر رضي الله عنهما خَدِرَتْ رِجْلُه، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: “يا محمد! “، فقام فمشى.
    وقد ساق المصنفون هذا الأثر في الأذكار فيما يقوله مَن خَدِرَتْ رجلُه؛ كالإمام النووي في “الأذكار”، وشيخ القراء ابن الجزري في “الحصن الحصين” ومختصره، وغيرهم. بل إن ابن تيمية نفسه ذكرها في “الكلم الطيب” وعقد لذلك فصلًا في الرِّجْل إذا خَدِرَتْ.

– وذكر الطبري في “تاريخه” في الكلام على أحداث معركة اليمامة: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وقف بين الصفين ودعا للبراز وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله.

– وروى الحاكم في “المستدرك” أن خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال: اطلبوها، فلم يجدوِها ثم طلبوها فوجدوها وإذا قلنسوة خلقة، فقال خالد: “اعتمر رِسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحلق رأسه، وابتدر الناس جوانب شعره، فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالًا وهي معي إلّا رُزِقْتَ النصر”.

– وروى ابن أبي الدنيا في كتاب “مجابي الدعاء” عن كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة قال: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد ابن أبجر فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: الدُّبَيْلَة -وهي خرّاج ودمل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالبًا-، قال: فتحول الرجل فقال: الله الله الله ربي لا أشرك به شيئًا، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربّي يرحمني ممّا بي. قال: فجس بطنه فقال: قد بَرِئْتَ؛ ما بك علة.

– وروى الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتاب “الوفا بتعريف فضائل المصطفى” في باب “الاستسقاء بقبره صلى الله عليه وآله وسلم، -وأوردها الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 16/ 401، ط. مؤسسة الرسالة) ، وكذلك الحافظ السخاوي في (القول البديع، ص: 325) على جهة الجزم بها- عن الإمام أبي بكر بن المقرئ قال: كنت أنا والطَّبَراني وأبو الشيخ في حَرَم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنا على حالة، فأثَّر فينا الجوع، فواصَلْنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرتُ قبرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: يا رسول الله! الجوعَ، الجوعَ، وانصرفت. فقال لي أبو الشيخ: اجلس؛ فإما أن يكون الرزق أو الموت. قال أبو بكر: فنمت أنا وأبو الشيخ، والطبرانيُّ جالسٌ ينظر في شيء. فحضر بالباب عَلَوِيّ فدقَّ الباب، فإذا معه غلامان مع كل واحد منهما زنبيل كبير فيه شيء كثير. فجلسنا وأكلنا، وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: يا قوم، أشكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فأمرني بحمل شيء إليكم.

– ومن المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم: الإمام الحجة أبو الفرج بن أبي حاتم الأنصاري القزويني [ت501هـ] فيما ذكره عنه الحافظ الذهبي في “تاريخ الإسلام” (35/52، ط. دار الكتاب العربي) في وفيات سنة إحدى وخمسمائة قال: وضاع ابنٌ له قبل وصوله المدينة. قال بعضهم: فرأيناه في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتمرغ في التراب ويتشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في لُقِيِّ ولده والخلق حوله فبينا هو في تلك الحال إذ دخل ابنه من باب المسجد فاعتنقا زمانا.

رواها السمعاني عن أبي بكر بن أبي العباس المروزي أنه حج تلك السنة ورآه يتمرغ في التراب والخلق مجتمعون عليه وهو يقول: يا رسول الله جئتكم من بلد بعيد زائرًا وقد ضاع ابني! لا أرجع حتى ترد علي ولدي، وردد هذا القول، إذ دخل ابنه فصرخ الحاضرون.

– وممن استغاثوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الإمام الفقيه شيخ الإسلام أبو العباس ابن الرفعة الأنصاري الشافعي [ت710هـ] الذي قال عنه ابن تيمية -فيما ذكره ابن حجر في “الدرر الكامنة” (1/337، ط. دائرة المعارف العثمانية بالهند) -: رأيت شيخا يتقاطر فقه الشافعية من لحيته، ونقل أيضًا عن التقي السبكي أنه قال عنه: كان أفقه من الروياني صاحب البحر، وقال السيوطي في “حسن المحاضرة” (1/320، ط. دار إحياء الكتب العربية) : واحد مصر، وثالث الشيخين؛ الرافعي والنووي: في الاعتماد عليه في الترجيح. قال الإسنوي: كان إمام مصر بل سائر الأمصار، وفقيه عصره في جميع الأقطار، لم يُخرج إقليم مصر بعد ابن الحداد مَنْ يدانيه، ولا يُعلم في الشافعية مطلقا بعد الرافعي من يساويه.

يقول الشيخ شمس الدين بن النعمان في كتابه “مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام” (ص: 45، ط. دار جوامع الكلم) : [ولما كانت سنة ثلاث وخمسين وستمائة توقفت زيادة النيل بمصر في شهر مسرى عن عادته، فضج الناس بسبب ذلك، مع ما هم فيه الغلاء في السعر، قال الفقيه المقرئ أبو العباس أحمد بن علي بن الرِّفْعة الأنصاري: فبِتُّ ليلة الجمعة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة الموافق لليلة السادسة من مسرى المتقدم ذكره مهمومًا، فصليت ركعتين؛ وقرأت في الأولى بفاتحة الكتاب وقوله تعالى: ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ? إلى آخر السورة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقوله تعالى: ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? إلى آخر السورة، واستغثت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونمتُ، فرأيت هاتفًا هتف بي وهو يقول: إنه سمع استغاثتك، وإنه يفرج عن العالم بعد ثلاثة أيام في نيل مصر، وكنت أخبرت أن هذه الرواية عند الشيخ أبي المجد الإخميمي خطيب مصر، فسألته عن هذه الرؤيا، فأخبرني أن الفقيه أبا العباس أحمد بن الرفعة المذكور أخبره بالمنام صبيحة يوم الجمعة المتقدم ذكره، وقال الشيخ أبو المجد المذكور: فبعد ثلاثة أيام زاد النيل في ذلك خمسة عشر إصبعًا، ثم استمر في الزيادة حتى بلغ في الزيادة تلك السنة تسعة عشر ذراعًا، وذلك ببركة الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.

– ومنهم الإمام الحافظ القسطلاني الشافعي حيث يقول في “المواهب اللدنية” (4/595) : [ولقد كان حصل لي داء أعياء دواؤُه الأطباءَ، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفًا ومنّ عليَّ بالعَوْدِ إليها في عافية بلا محنة، فبينما أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس مكتوب فيه: هذا دواء داء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف، ثم استيقظت فلم أجد بي شيئًا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ، وذكر قصة أخرى حصلت له في ذلك.

– ومنهم العلامة المؤرخ السمهودي الشافعي؛ حيث ذكر في كتابه “وفاء الوفا” (5/84) أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استجاب الله تعالى طلبه، وعقد لذلك فصلًا (5/78-86) ساق فيه مجموعة كبيرة من استغاثات السلف والصالحين والعلماء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وما حصل من استجابة الله تعالى لذلك ببركة الاستغاثة والتشفع بحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم.

كما اشتهرت استغاثات العلماء والأدباء والأمراء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشعارهم ورسائلهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم شهرةً مستفيضة على مر العصور من غير نكير، حتى لا يكاد يوجد ممن مدح النبيَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أحدٌ يخلو شعره من الاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك:

– الإمام عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي [ت544هـ] صاحب كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم”، وقد أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره رسالةً استفاضت شهرتها، يسأله فيها الشفاعة، وعُدَّت هذه الرسالة من مناقبه العالية، كما أنه تشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أشعاره كما هو مبسوط في ديوانه.

– والإمام الشاعر جمال الدين يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري الحنبلي [ت656هـ] الذي وصفه الحافظ ابن رجب الحنبلي بالشدة في السُّنة والانحراف عن مخالفيها فقال عنه في “الذيل على طبقات الحنابلة” (1/197) : [شاعر العصر، وصاحب الديوان السائر في الناس في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان حسان وقته.. قال: وكان شديدًا في السنة، منحرفًا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة، ومدح أهلها، وذم مخالفيها، وله قصيدة طويلة لامية في مدح الإِمام أحمد وأصحابه.. وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه وبشره بالموت على السُّنَّة، ونظم في ذلك قصيدة طويلة معروفة] اهـ.

وقد امتلأت مدائحه النبوية بالاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتلقَّى العلماء شعرَه بالقبول، ولم يطعن في مدائحه النبوية أحدٌ من العلماء من أهل عصره فمن بعدهم.

فمما قاله الإمام الصرصري: كما في “المجموعة النبهانية في المدائح النبوية” للعلّامة الشيخ يوسف النبهاني [ت1350هـ] (1/119 ط. دار الفكر) :

يا حبيبَ الرحمن في الخلق يا مَن تعرف الأرضُ فضلَه والسماءُ

أنت ذُخرٌ لنا وعونٌ على خَطْـ ـــبِ زمان به اللبيبُ يُساءُ

فأَغِثْني وكن لضعفي مُجيرًا في مَقامٍ تخافه الأتقياءُ

ومما قاله أيضًا: كما في “المجموعة النبهانية” (1/398 ط. دار الفكر) :

فَأَدِّ عني سلامًا زاكيًا أَرِجًا لا لغوَ فيه ولا إثمًا ولا كذبًا

وقل عُبَيْدُكَ يرجو منكَ مَكرُمةً رَجاءَ عافٍ لوعدٍ ظلَّ مرتَقِبًا

وقال أيضا (4/304) :

فبلِّغْ -هداكَ اللهُ- عني تحيةً مُعطَّرةً الأنفاسِ محروسةَ الصَّفْوِ

وقُلْ عَبْدُكَ المسكينُ يحيى سَرَتْ به جِراحُ التَّنَائي فائْتِها أحسنَ الأَسْوِ

… … – والإمام العارف الشاعر أعلم الشعراء وأشعر العلماء: شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري [ت696هـ] صاحب القصائد الغراء في مدح النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهرها قصيدته المسمّاة “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” والمشهورة بـ”البردة” أو “البُرأة”، التي يقول فيها:

ما سامني الدهرُ ضيمًا واستجَرْتُ به إلا ونِلْتُ جِوارًا منه لم يُضَمِ

ولا التمستُ غِنَى الدارين مِن يَده إلا استلمتُ الندى مِن خير مُستَلَمِ

ويقول في همزيته أيضًا:

فَأَغِثْنا يا مَنْ هُوَ الغَوْثُ والغَيْـ ـثُ إذا أَجْهَدَ الوَرى الّلأْواءُ

والجوادُ الذي بِهِ تُكْشَفُ الغُمْـ ـمَةُ عَنّا وَتُكْشَفُ الحَوْباءُ

يا رَحِيْمًا بالمؤمنِيْنَ إِذا ما ذَهِلَتْ عَنْ أَبْنائِها الرَضْعاءُ

جُدْ لِعاصٍ وَمَا سِواى هُوَ العا صِي وَلكِنْ تَنَكُّرِي اسْتِحْياءُ

يانَبِيَّ الهُدَى اسْتِغاثَةُ مَلْهُو فٍ أَضَرَّتْ بِحالِهِ الحَوْباءُ

– والإمام المجتهد شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد [ت702هـ] ، في قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي أولها:

شرف المصطفى رفيعٌ عمادُهْ لَيْسَ يُحصَى لكثرةٍ تعدادُهْ

يَا رسولَ المليك دعوةُ مَن زاد به شوقُه وصحَّ وِدادُهْ

لَكَ أشكو حالًا مِن الدين والدنـ ــــيا شديدٌ غلوه واقتصادهْ

هو حَدٌّ بَيْنَ السرور وبَيْنِي كدَّرَ العيشَ عكْسُه واطرادُهْ

فعليك السلام من ذي اشتياق أنت فِي الحشر كنزه وعتادهْ

وقد ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه “رفع الإصر عن قضاة مصر”، وفي آخرها:

– والإمام العلامة كمال الدين بن الزملكاني الشافعي [ت727هـ] شيخ الشافعية في عصره، وذلك في قصيدته التي مطلعُها:

أهواكِ يا ربة الأستار أهواكِ وإن تباعدَ عن مغناي مغناكِ

… وقد ذكرها العلّامة المؤرخ صلاح الدين الصفدي في كتابيه “أعيان العصر وأعوان النصر”، و”الوافي بالوفيات”، يقول في آخرها (وفيها تعريض بذم مَن أنكر التوسل أو التشفع بجاه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم) :

يا صاحبَ الجاه عند الله خالقِه ما رَدَّ جاهَك إلا كلُّ أفّاكِ

أنت الوجيه على رغم العِدا أبدا أنت الشفيعُ لفتّاكٍ ونسّاكِ

يا فرقةَ الزَّيْغ لا لُقِّيتِ صالحةً ولا شفى الله يومًا قلب مرضاكِ

ولا حظيتِ بجاه المصطفى أبدًا ومَن أعانكِ في الدنيا ووالاكِ

يا أفضلَ الرسل يا مَوْلى الأنام ويا خيرَ الخلائق من إنسٍ وأمْلاك

ها قد قصدتُكَ أشكو بعضَ ما صَنَعَتْ فِيَّ الذنوبُ وهذا ملجأ الشاكي

قد قيَّدَتْني ذنوبي عن بلوغ مدى قصدي إلى الفوز منها فهي أشراكي

فاستَغْفِرِ اللهَ لي، واسْألْه عصمته فيما بقي، وغِنًى مِن غير إمساك

عليك من ربِّك اللهِ الصلاةُ، كما منا عليك السلامُ الطيِّبُ الزاكي

قال العلامة الصفدي بعد أن ذكرها في كتابيه: [ولم أقف للشيخ رحمه الله تعالى على نظم هو خير من هذه القصيدة؛ لقصدها الصالح] اهـ.

– والإمام الأديب جمال الدين بن نُباتة الفارقي [ت768هـ] في قصيدته اللامية، وهي في ديوانه، وذكرها الإمام التاج السبكي في “معجم الشيوخ” (ص: 462، ط. دار الغرب الإسلامي) ، وذكر أنه سمعها منه:

يا خاتم الرسل لي في المذنبين غدًا على شفاعتك الغراء تعويل

صلى عليك الذي أعطاك منزلةً شفيعها في مقام الحشر مقبول

أنت المَلاذُ لنا دنيا وآخِرةً فباب قصدك في الدارين مأهول

… … …- والإمام الأديب بهاء الدين السبكي الشافعي [ت773هـ] ابن قاضي القضاة وشيخ الشافعية تقي الدين السبكي، وذلك في تائيته التي أنشدها أمام الحجرة النبوية الشريفة، وهي في “المجموعة النبهانية في المدائح النبوية” (1/534، ط. دار الفكر) وفيها يقول:

ألَا يا رسولَ الله جئتُكَ زائرًا فخُذْ بيدي واجعل قراي بجَنَّةِ

أتيتُ وشكلي ذو مقدِّمتَين مِن ذنوب وتَسْآلٍ، فجُدْ بالنتيجةِ

وإني ظلمْتُ النفسَ كلَّ ظُلامة وجئتُكَ، فاستغفرْ لنفسٍ ظَلُومةِ

وكُن لي إذا ما فَرَّ منيَ والدي وأمي وأولادي وأهلي وإخوتي

وكن بهمُ برًّا؛ فإن جميعَهم لِبِرِّكَ محتاجون في كل بُرْهةِ

– والإمام المحدث جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشي الشافعي [ت819هـ] ، كما في “المجموعة النبهانية” (3/142) في قوله:

يا سيد الرُّسْلِ يا أزكى الورى نسبًا ومَن فضائلُه لم يُحصِها جِيلُ

محمدٌ عبدُكَ المسكينُ ناظمُها يبغي نوالًا له بالباب تطفيلُ

– والإمام شمس الدين محمد بن كميل المنصوري الشافعي [ت848هـ] ، كما في “المجموعة النبهانية” (1/484) في قوله:

يا سيدي يا رسولَ الله خُذ بِيَدي فأنتَ قَصْدي وأنتَ السُّؤلُ والأرَبُ

يا صاحبَ النجدةِ العُظمَى لِمُعْتَلِقٍ بِجاهِه ولذاكَ اليومِ أرتَقِبُ

عُبَيْدُكَ ابنُ كُمَيْلٍ سائلٌ أَرَبًا ودمعُه سائلٌ والقلبُ مكتَئِبُ

– وحافظ الدنيا وقاضي القضاة الإمام شهاب الدين ابن حجر العسقلاني الشافعي [ت852هـ] أمير المؤمنين في الحديث، وقد أفاض في أشعاره ومدائحه النبوية بالاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كله مبسوط في ديوانه، وهو مطبوع بحيدر آباد الدكن بالهند سنة 1381هـ- 1962م، فمن ذلك (ص: 26-27) :

نبيَّ الله يا خيرَ البرايا بجاهك أتَّقي فصلَ القضاء

وأرجو يا كريم العفو عما جنَتْه يدايَ يا ربَّ الحِبَاء

فقل يا أحمدُ بنَ عليٍّ اذْهَبْ إلى دار النعيم بلا شقاءِ

عليك سلامُ ربِّ الناس يتلو صلاةً في الصباح وفي المساء

ومن ذلك قوله مخاطبًا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (ص: 10) :

فاشفع لمادِحك الذي بِكَ يتَّقي أهوالَ يوم الدِّينِ والتعذيبِ

فلأحمدَ بنِ عليٍّ الأثَريِّ في مَأهُولِ مَدحِك نَظْمُ كلِّ غريبِ

قد صحَّ أن ضَناه زاد، وذنبُه أصلُ السِّقَام وأنتَ خيرُ طبيبِ

صلَّى عليك وسلَّم اللهُ الذي أعطاك فضلًا ليس بالمَحسوبِ

ومن مخاطبته للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا قولُه (ص: 16) :

يا سيدي يا رسولَ الله قد شَرُفَتْ قصائدي بمديحٍ فيك قد رُصِفا

مدحتُك اليوم أرجو الفضل منك غدًا من الشفاعة، فالْحَظْني بها طرفا

ببابِ جودِك عبدٌ مذنِبٌ كَلِفٌ يا أحسنَ الناسِ وجهًا مشرقًا وقفا

بكُم توسَّلَ يرجو العفوَ عن زللٍ مِن خَوفه جَفْنُه الهامي لقد ذَرَفا

ومن ذلك أيضًا قوله مادحًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ختم سنن أبي داود (ص: 20) :

يا سيدَ الرُّسْل الذي فاق الورى بأْسًا سمَا كلَّ الوُجودِ وَجُودا

هذي ضراعةُ مُذنِبٍ مُتمسِّكٍ بولائكم مِن يومِ كان وليدا

يرجو بك المحيا السعيد وبعثه بعد الممات إلى النعيم شهودا

صلَّى عليك وسلَّم اللهُ الذي أحيا بك الإيمان والتوحيدا

وقال مخاطبًا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومادحًا له (ص: 29) :

وكم مُذنبٍ وَافَاه يطلب نجدةً تُنَجِّيه في الأُخرى فأنجَى وأنْجَدَا

أيا خيرَ خلقِ اللهِ دعوةُ مذنبٍ تَخَوَّفَ مِن نار الجحيم تَوَقُّدا

له سندٌ عالٍ بمدحِك نَيِّرٌ وبابُك أمسى منه أسْنَى وأَسْندا

وأنت الذي جنَّبْتَنا طارقَ الرَّدَى وأنت الذي عرَّفْتَنا طرق الهُدَى

– والحافظ السخاوي [ت902هـ] في “الضوء اللامع” (5/44 ط. مكتبة الحياة) كما في ترجمة (نقيب الأشراف السيد العفيف عبد الله بن محمد الحسيني الحلبي الشافعي) :

 [لَقِيتُه بمنزله بحلب وهو مفلوج فأنشدني قوله:

يا رسول الله إني (كذا) لأرجو أن تَكَفَّل يومَ عرضي

بإدخالي الجنان بلا حساب إذا كنت النوافل لي وفرضي

وها أنت المؤمَّل للبرايا فحقًّا بعضنا أولى ببعضِ

قيل: ولو قال: عُبَيدُك يا رسول الله يرجو… شفاعتك العميمة يومَ عرضِ لكان أحسن؛ فإن ما قاله من بحر الوافر مع اختلاله في الوزن] اهـ.

– والحافظ العلّامة المجتهد جلال الدين السيوطي الشافعي [ت911هـ] ، كما نقله العلامة النبهاني في “شواهد الحق” (ص: 221، ط. المطبعة الميمنية سنة 1323هـ) :

يا أكرمَ الرُّسْل، يا من في إشارته حَوْزُ المُنَى وبلوغُ القصد مِن أَمَمِ

ومن غدا في الورى توشيحُ مِلَّتِه يزهو على الزاهِرَيْن الروضِ والنُّجُمِ

تَعَطُّفًا لِمُحِبٍّ فيك، ليس له تَعَطُّفٌ عنك، معدود مِن الخَدَمِ

يا صاحبَ العَلَمِ الهادي لِقاصده حسنَ البيان، أَجِرْني في حِمَى العَلَمِ

فمطلَبي أنتَ أَوْلَى في النَّجاح له وأنت أَدْرَى به، يا مُسْبِغَ النِّعَمِ

من كان فيما عرى تجريد مقصده له رأى منك حبلا غير مُنفَصِم

ومَن يَلُذْ بحِمَاه، وهو مَلْجَؤُنا فلا اعتراض بما يخشاه مِن نِقَم

عليه منا صلاةٌ ما لها عددٌ تفصيلُ مُجْمَلها يربو على الدِّيَم

– والشيخ عبد العزيز بن علي الزمزمي المكي الشافعي [ت963هـ] في قصيدته “الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين”، كما في “المجموعة النبهانية في المدائح النبوية” (1/200) :

يا عزيزَ الجَنَابِ دعوةُ عبدٍ لك في الرِّقِّ يستحقُّ الوَلاءَ

كيف عبدُ العزيز عبدُك يَلقَى ذِلَّةً أو إضاقةً أو شقاءَ

ويقول الشيخ العيدروس في ترجمته في “النور السافر”: ومن شعره الحسن أبيات الفرج التي استغاث فيها بصاحب الخلق الحسن سيد المرسلين ورسول رب العالمين وهي هذه:

يا رسولَ الله عجِّلْ بالفرج قد توالى الكرب واشتد الحرجْ

يا رسول الله في جاهِك لي سَعَةٌ إن ضاق بي كلُّ نَهَجْ

قسمًا بالله ما لاذ امرؤٌ بك في خطبٍ رجا إلا انبلجْ

– وسيدي الإمام العارف العلامة محمد بن أبي الحسن البكري الصِّدِّيقي الشافعي المصري [ت993هـ] شيخ أهل عصره، ومقدَّم علماء الأزهر الشريف في مصره، في لاميته الشهيرة وقد ذكرها المؤرخ العيدروس في “النور السافر”، وسماها: “الوسيلة العظيمة”، والعلامة ابن العماد الحنبلي في “شذرات الذهب”:

ما أرسل الرحمن أو يرسلُ من رحمة تصعد أو تنزلُ

في ملكوت الله أو مُلكه من كل ما يختص أو يشمل

إلا وطه المصطفى عبدُه نبيُّه مُختاره المُرسَل

واسطةٌ فيها وأصلٌ لها يعلم هذا كلُّ مَن يعقِل

فلُذْ به في كلِّ ما ترتجي فهو شفيعٌ دائمًا يُقبَل

وعُذْ به مِن كل ما تختشي فإنه المَأمَنُ والمَعْقِل

وحُطَّ أحمالَ الرجا عنده فإنه المرجِعُ والمَوئِل

ونادِهِ إنْ أزْمةٌ أَنشَبَتْ أظفارَها واستحكم المُعضِل

يا أكرمَ الخلقِ على ربهِ يا خيرَ مَن فيهم به يُسْأَل

قد مسَّني الكربُ وكم مرةٍ فرَّجْتَ كربًا بعضُه يُذهِل

ولن ترى أعجزَ مني فما لِشِدَّةٍ أقوى ولا أحملُ

فبالذي خصَّك بين الورى برتبةٍ عنها العُلَى تَنزلُ

عَجِّلْ بإذهاب الذي أشتكي فإن توقَّفْتَ فمَن أسألُ

فحيلتي ضاقت وصبري انقضى ولست أدري ما الذي أفعل

فأنت بابُ الله أيُّ امرئٍ أتاه مِن غيرك لا يدخل

صلى الله عليك ما صافحَتْ زهرَ الروابي نسمة شَمألُ

مُسَلِّمًا ما فاح عطرُ الحمى وضاع منه النَّدُّ والمَنْدَلُ

والآلِ والأصحاب ما غرَّدَتْ ساجعةٌ أُمْلُودُها مُخْضَلُ

– ومفتي الحنفية بدمشق في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم العمادي [ت1135هـ] ، كما في “المجموعة النبهانية” (2/467) في قصيدته التي أرسلها مع الركب إلى المدينة المنورة:

فاشْفَعْ لعَبدِكَ كي يزورَكَ سيدي ويرى ضريحًا بالرسالة مُشرِقًا

والاستغاثة بالأنبياء مما أجمعت عليه المذاهب الفقهية المتبوعة وكلامهم في ذلك كثير لا مجال لاستيعابه وبسطه؛ حيث اتفقت المذاهب الأربعة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستغاثة به بل واستحباب ذلك، وعدم التفريق بين حياته في الدنيا وانتقاله الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يشذ إلا ابن تيمية حيث فرق بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عبرة بشذوذه.

فمن أقوال الحنفية:

قال العلامة خير الدين الرملي الحنفي في “الفتاوى”: [وأما قولهم: يا شيخ عبد القادر شيء لله، فهو نداء، وإذا أضيف شيء لله فما الموجب لحرمته! ولا يجوز الاغترار بما في “قيد الشرائع” و”نظم الفوائد”: ومن قال شيء لله يكفر.. إلخ؛ إذ لا وجه لذلك، وكيف ذلك مع قولهم: لا يُخرِجُ المؤمنَ من الإيمان إلا جحودُ ما أدخله، وقولهم: الكفر شيء عظيم؛ فلا يكفر المسلم بما اختلف فيه ولو برواية ضعيفة، ومعاذ الله أن يوجد الكفر بذلك.. إلى أن قال: وأما إنكار كرامات الأولياء على الإطلاق فالجواب ما قاله العلامة اللقاني في “هداية المريد”: ومن يكذب بكرامات الأولياء فلا بحث معه؛ لأنه مكذب بما أثبتته السُّنة] اهـ.

وقال العلامة أبو سعيد الخادمي الحنفي في “البريقة المحمودية في شرح الطريقة المحمدية” (1/203، ط. دار إحياء الكتب العربية) : [ويجوز التوسلُ إلى الله تعالى والاستغاثةُ بالأنبياء والصالحين بعد موتهم؛ لأن المعجزة والكرامة لا تنقطع بموتهم، وعن الرملي أيضًا بعدم انقطاع الكرامة بالموت، وعن إمام الحرمين: ولا ينكر الكرامةَ ولو بعد الموت إلا رافضيٌّ، وعن الأجهوري: الولي في الدنيا كالسيف في غمده، فإذا مات تجرد منه فيكون أقوى في التصرف. كذا نقل عن “نور الهداية” لأبي علي السنجي] اهـ.

وقال العلامة المحقق ابن عابدين فى حاشيته “رد المحتار على الدر المختار” (2/186، ط. دار الفكر) ذاكرا أن من آداب الاستسقاء أن يكون بالمسجد النبوى الشريف: [فينبغى الاجتماع للاستسقاء فيه؛ إذ لا يستغاث وتستنزل الرحمة فى المدينة المنورة بغير حضرته ومشاهدته صلى الله عليه وسلم فى كل حادثة] اهـ.

ومن أقوال المالكية:

قال الإمام ابن الحاج المالكي في كتابه “المدخل” (1/254-260، ط. دار التراث) الذي ألفه للتحذير من البدع: [فإن كان الميت المزار ممن تُرجَى بركته فيُتَوَسَّل إلى الله تعالى به، وكذلك يتوسل الزائر بمن يراه الميت ممن ترجى بركته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل يبدأ بالتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو العمدة في التوسل والأصل في هذا كله والمُشَرِّع له، فيتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم وبمن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.. ثم يتوسل بأهل تلك المقابر أعني بالصالحين منهم في قضاء حوائجه ومغفرة ذنوبه.. ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى; لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر، فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم؛ فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم ما لله تعالى بهم من الاعتناء، وذلك كثير مشهور، وما زال الناس من العلماء والأكابر كابرًا عن كابر مشرقًا ومغربا يتبركون بزيارة قبورهم ويجدون بركة ذلك حسًّا ومعنًى، وقد ذكر الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان رحمه الله في كتابه المسمى “بسفينة النجاء لأهل الالتجاء” في كرامات الشيخ أبي النجاء في أثناء كلامه على ذلك ما هذا لفظه: “تحقق لذوي البصائر والاعتبار، أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار، فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين” انتهى..

وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره; لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله، ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثم يترحم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح، وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم. ومن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم وذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا من توسل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم..

وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه: فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه أعني في الانكسار والذل والمسكنة; لأنه الشافع المشفع الذي لا ترد شفاعته ولا يخيب من قصده ولا من نزل بساحته ولا من استعان أو استغاث به؛ إذ إنه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة.. فمن توسل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه فلا يرد ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار، ويحتاج إلى الأدب الكلي في زيارته عليه الصلاة والسلام، وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن الزائر يشعر نفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته أعني في مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جلي لا خفاء فيه.. فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا; لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب؛ إذ أنها أعظم من الجميع، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام من لم يزره اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك آمين يا رب العالمين. ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم؛ ألم يسمع قول الله عز وجل: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا? فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد الله توابا رحيما; لأن الله عز وجل منزه عن خلف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم نعوذ بالله من الحرمان] اهـ.

ومن أقوال الشافعية:

قال الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب” (8/274، ط. دار الفكر) في آداب زيارة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: [ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومِن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال: “كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا?، وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي”] اهـ.

وقال الإمام القسطلاني في “المواهب اللدنية” (4/593) : [وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم؛ فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه] اهـ.

وقال الإمام العلامة شيخ الشافعية شهاب الدين أحمد بن حمزة الرملي الشافعي [ت957هـ] في “فتاواه” التي جمعها ولده الشمس الرملي فقيه الديار المصرية في عصره ومرجعها في الفتيا (4/382-383، ط. المكتبة الإسلامية) :

 [ (سُئِلَ) عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان! يا رسول الله! ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين، فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم؟ وماذا يُرَجِّح ذلك؟

(فأجاب) بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم ; لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم. أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم. والشهداء أيضا أحياء شوهدوا نهارا جهارا يقاتلون الكفار. وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم والدليل على جوازها أنها أمور ممكنة لا يلزم من جواز وقوعها محال وكل ما هذا شأنه فهو جائز الوقوع وعلى الوقوع قصة مريم ورزقها الآتي من عند الله على ما نطق به التنزيل وقصة أبي بكر، وأضيافه كما في الصحيح وجريان النيل بكتاب عمر ورؤيته وهو على المنبر بالمدينة جيشه بنهاوند حتى قال لأمير الجيش يا سارية الجبل محذرا له من وراء الجبل لكمين العدو هناك، وسماع سارية كلامه وبينهما مسافة شهرين، وشرب خالد السم من غير تضرر به. وقد جرت خوارق على أيدي الصحابة والتابعين ومن بعدهم لا يمكن إنكارها لتواتر مجموعها، وبالجملة ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدي] اهـ.

وقال الشيخ العلامة الشوبري الشافعي [ت1069هـ] شافعي زمانه وفقيه عصره في فتوى وردت إليه عن كرامات الأولياء والاستغاثة بهم بعد الوفاة:

[ويجوز التوسل بهم (يعنى الأولياء) إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين بعد موتهم؛ لأن معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء لا فارق بينهما إلا التحدى، أما الأنبياء فلأنهم أحياء فى قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار الصحيحة فتكون الإغاثة بهم معجزة لهم، والشهداء أحياء أيضا عند ربهم بالنص القرآنى، وشوهدوا جهارا يقاتلون الكفار، أما الأولياء فهى كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع للأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم، والدليل على جوازها: أنها أمور ممكنة لا يلزم من جوازها ووقوعها محال أصلًا، وكل ما هذا شأنُه فهو ممكن الوقوع] اهـ نقلا عن كتاب “سعادة الدارين” (1/228-229، ط. مطبعة جريدة الإسلام) للعلامة إبراهيم السمنودي الأزهري.

ومن الحنابلة:

قال ابن قدامة في “المغني” (3/599، ط. دار الفكر) : [ثم تأتي القبر فتولى ظهره القبلة وتستقبل وتقول: السلام عليك أيها النبي صلى ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشهد أنك قد بلغت إلى قوله: اللهم إنك قلت وقولك الحق: ?ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما? وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الآخرين والأولين برحمتك يا أرحم الراحمين ثم يدعوا لوالديه ولإخوانه وللمسلمين أجمعين] .اهـ

والمقام يضيق عن استقصاء فعل السلف وأقوال العلماء في ذلك، فالأمر مما أجمع العلماء عليه ولا خلاف فيه بين أحد من السلف أو الخلف إلا من شذ ممن لا عبرة بقوله.

والقول بجواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد وفاتهم هو الذي عليه علماء الأزهر ومشايخه بصفاء فهمه ووسطيته واعتدال منهجه عبر القرون، ولم تكد هذه البدعة -بدعة التكفير بالاستغاثة بالأنبياء والصالحين والاستمداد منهم- تدب في جسد الأمة حتى انبرى بياطرة العلم وأساطين الفهم من علماء الأزهر الشريف بالرد الوافي والبيان الكافي والدواء الشافي، وبينوا أنها بدعة ضلالة تخالف المنقول والمعقول وما استقر عند علماء المسلمين وعامتهم، وأنها عين منهج الخوارج الذين هم شرار الخلق عند الله، والذين كان أُسُّ ضلالتهم: أنهم عمدوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين.

– فهذا شيخ الأزهر البرهان إبراهيم الباجوري الشافعي [ت1277هـ] يقول في آخر حاشيته على شرح الغزي على متن أبي شجاع في الفقه الشافعي (2/509، ط. مطبعة بولاق 1285هـ) :

 [وقد حصلت في هذه الكتابة بركة؛ بسبب أني كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المكي تجاه الكعبة المشرفة، زادها الله تشريفًا وتكريمًا ومهابة وتعظيمًا، وكذلك كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المدني بجنب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ورزقنا العَوْدَ إليه، وأقول عنده ولديه: مَدَدَكَ يا رسولَ الله صلى الله عليك وسلم.. وأقول أيضًا: مَدَدَكُمْ يا أهلَ البيت رضي الله عنكم] اهـ.

– وهذا شيخ الأزهر ونقيب السادة الأشراف السيد علي محمد الببلاوي المالكي [ت1323هـ] يقرظ كتاب العلامة النبهاني “شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم” واصفًا إياه بأنه “أحسن ما أُلِّف في هذا الموضوع”.

– وهذا شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني الشافعي [ت1326هـ] يقول في تقريظه على الكتاب السابق، وكان وقتَ كتابته شيخًا للأزهر:

[فقد وقفت على كتاب “شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق”.. فإذا هو شاهد عدل، آتٍ بالقول الحق والكلام الفصل، جدير بأن يُوسَم كما وسمه مؤلفه بـ”شواهد الحق”، حجةٌ قائمة على طائفة الضالِّين المضلين، صارم في نحر المبتدعة الملحدين، تحيا به السُّنة، وتموت به البدعة] اهـ.

وأما المعقول: فقد قرره علماء التوحيد والكلام أبدع تقرير وأحكمه، وهم المرجع في معرفة قواعد الإلهيات والنبوات، وتقرير ما يجوز وما يجب وما يستحيل في حق الله تعالى وفي حق رسله صلوات الله عليهم وسلامه:

يقول الإمام العلامة المحقق التفتازاني في “شرح المقاصد” (2/79) : [لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، وعندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات؛ إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس، وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس، بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا؛ ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع المُلِمّات؛ فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا ما بالبدن وبالتربة التي دُفِنت فيها، فإذا زار الحيُّ تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات] اهـ.

ولمفتي الديار المصرية الأسبق خاتمة المحققين الشيخ العلامة محمد بخيت المطيعي كلام متين في تقرير الدليل العقلي ننقله على طوله لما فيه من التحقيق؛ حيث يقول في رسالته “تطهير الفؤاد عن دنس الاعتقاد” (ص: 13-15 المطبوع بمقدمة شفاء السقام للإمام التقي السبكي) :

[وقد تقرر عقلا ونقلا: أن توقُّفَ الممكنات بعضها على بعض لنقص في الممكنات لا لعجز في الفاعل جل شأنه، وهذا مما كاد أن يكون بديهيًّا، وكما جاز أن يتوسط حي في قضاء مصلحة حي والفعل لله وحده يجوز أن تتوسط روح ميت في قضاء مصلحة حي أو ميت والفعل لله وحده، والأرواح باقية عل الحياة، وأفعالها في عالم الملك إنما تظهر بواسطة البدن ما دام حيًّا بالحياة الحيوانية، فإذا مات وفقد الحياة الحيوانية بقيت نفسه وروحه على حياتها الملكوتية، وتعلقت بجسمه تعلقًا آخر على وجه آخر يعلمه الله تعالى كما دل عليه نعيم القبر وعذابه.

فإذا كان الفعل في الواقع ونفس الأمر إنما هو للنفس والروح، والجسم آلة يظهر به الفعل، والروح باقية خالدة، ففعلها باقٍ وتصرفها في أفعالها لا يتغير إلا بعدم ظهور الأفعال بواسطة البدن، فلا مانع عقلا أن يكون بعض أرواح الأولياء والصالحين بعد موت الأجساد سببا بدعائها وتوجهها إلى الله تعالى في قضاء حوائج بعض الزائرين لهم المتوسلين بهم بدون أن يكون لها مدخل في التأثير، وأي فرق بين التوسط بالأحياء في قضاء الحوائج مع اعتقاد أن لا فاعل إلا الله، وبين توسط أرواح الأموات مع اعتقاد ذلك!

والقولُ بأن ملوك الدنيا إنما يحتاجون إلى الوسائط لجواز الغفلة عليهم عن حوائج الخلق بخلاف العليم الخبير سفسطة ظاهرة وتمويه على العقول؛ فإن الملك ووسائطه واسطة في قضاء حوائج الطالب من الله تعالى؛ إذ لا فاعل سواه، فلو كان اتخاذ الواسطة شركا بعد اعتقاد أن المؤثِّر هو الله وحده لكان معاونة بعضنا لبعض في قضاء المصالح شركًا، وهذا باطل بالضرورة؛ لما يترتب عليه من بطلان الشرائع وفساد نظام العالم وعدم نسبة الأفعال الاختيارية إلى فاعليها، فتبطل الحدود والزواجر ويختل النظام. فعليك بالإنصاف.

قال المناوي في “شرح عينية ابن سينا في النفس”: قال الناظم في كتاب “زيارة القبور”: تعلق النفس بالبدن عظيم جدًّا؛ حتى إنها بعد المفارقة تشتاق وتلتفت إلى الأجزاء البدنية المدفونة؛ فإذا زار إنسان قبر آخر وتغاضى عن العلائق الجسمانية والعلائق الطبيعية توجهت نفسه إلى العالم العقلي فلتواجه نفسه نفس الميت ويحصل منهما المقابلة كما في المرآتين، فيرتسم فيها صورة عقلية بطريق الانعكاس، ويحصل لها بذلك كمال. اهـ.

وقد ذكر الغزالي نحو ذلك مع زيادة بسط وتحقيق، فقال: المقصود من زيارة الأنبياء والأولياء والأئمة: الاستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواحهم، والعبارة عن هذا الإمداد الشفاعة، وهذا يحصل من جهتين: الاستمداد من هذا الجانب، والإمداد من ذلك الجانب. ولزيارة المشاهد أثر عظيم في هذين الركنين:

أما الاستمداد: فبانصراف همة صاحب الحاجة عن أموره العادية باستيلاء ذكر المزور على الخاطر، حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك، ويقبل بكليته على ذكره وخطوره بباله، وهذه الحالة سبب منبه لروح ذلك الشفيع أو المزور؛ حتى تمد روح المزور الطيبة ذلك الزائر بما يستمد منها، ومن أقبل بكليته وهمته على إنسان في دار الدنيا فإن ذلك الإنسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه؛ لخبره بذلك، فمن لم يكن في هذا العالم فهو أولى بالتنبه، وهو مهيأ لذلك التنبه؛ فإن اطلاع مَن هو خارج عن أحوال العالم على بعض أحوال العالم ممكن؛ كما يطلع من هو في المنام على أحوال من هو في الآخرة: أهو مُثاب أم مُعاقَب؟ فإن النوم صنو الموت وأخوه؛ فبسبب الموت صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم نكن مستعدين في حال اليقظة لها، فكذا من وصل إلى دار الآخرة ومات موتًا حقيقيًّا كان بالاطلاع على أحوال هذا العالم أولى وأحرى، فأما كلية أحوال هذا العالم في جميع الأوقات فلم تكن مندرجة في سلك معرفتهم، كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة في معرفتنا في منامنا عند الرؤيا.

ولإيجاد المعارف معينات ومخصصات؛ منها: همة صاحب الحاجة وهي استيلاء ذكر صاحب تلك الروح العزيزة على صاحب الحاجة، وكما تؤثر مشاهدة صورة الحي في خطور ذكره وحضور نفسه بالبال فكذا تؤثر مُشاهدة ذلك الميت ومشاهدة تربته التي هي حجاب قالبه؛ فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهدة ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده.

ومن ظن أنه قادر على أن يحضر في نفسه ذلك الميت عند غيبة مشهده كما يحضره عند مشاهدة مشهده فذلك ظن خطأ؛ فإن للمشاهدة أثرًا بينًا ليس للغيبة مثله، ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الاستعانة أيضًا جزافًا ولا تخلو من أثر ما؛ كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَن صلى علي مرة صليت عليه عشرًا» و «من زارني حلت له شفاعتي» .

فالتقرب بقالبه الذي هو أخص الخواص به وسيلة تامة متقاضية للشفاعة، والتقرب بولده الذي هو بضعة منه ولو بعد توالد وتناسل، والتقرب بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه ونعله وعضادته، والتقرب بعادته وسيرته وبما له مناسبة إليه يوجب التقرب إليه ومقتضٍ لشفاعته؛ فإنه لا فرق عند الأنبياء والأولياء في كونهم في دار الدنيا وكونهم في دار الآخرة إلا في طريق المعرفة؛ فإن آلة المعرفة في دار الدنيا: الحواسُّ الظاهرة، وفي العقبى: آلة بها يعرف الغيب؛ إما في صورة مثال، وإما على سبيل التصريح. وأما الأحوال الأخر في التقرب والقرب والشفاعة فلا تتغير.

والركن الأعظم في هذا الباب: الإمداد والاهتمام من جهة المُمِدِّ وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بهذا المدد؛ فإنه لو وضع شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاص أو مذنب لنجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها بلاء وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره والأمراض والعقوبات مفوَّض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه عن غيره، كما كان في حال حياته؛ فإن تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته. إلى هنا كلامه انتهى..

ألم يعلموا أن زيارة القبور تارة يُقصَد بها الموعظة بالأموات وهذه تعم جميع القبور والأموات، وتارة يُقصَد بها الاستمدادُ والتبرك بالمَزُور، وهذا يختص بالأنبياء والأولياء والصالحين، ألم يعلموا أن الإنسان يتأثر بتصوراته، وأن نفسه تحت قهر سلطان الوهم؛ فكم من إنسان تحقق أنه سيقتل لا محالة فتصور الموت واقعًا به فمات بسبب ذلك قبل أن يُقتَل.

كذلك إذا زار إنسان مشهد الحسين رضي الله عنه مثلا واعتقد أنه بمكان طاهر بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استولى عليه الخشوع والخضوع وامتلأ قلبه إخلاصًا فيدعو الله مخلصًا موقنًا بالإجابة؛ خصوصًا إذا اعتقد أن روح الحسين رضي الله عنه مثلًا تسأل الله إجابة دعاء زائره؛ أليس ذلك سببًا في إجابة الدعاء وقضاء حوائج الزائرين المخلصين! والله هو المؤثِّر، ولا نرى مسلمًا ولو عامِّيًّا يتوهم -فضلًا عن أن يعتقد- أن لله شريكًا من خلقه؛ فمهما اعتقد الزائر من علو درجة المَزُور فلا يعتقد فيه إلا أنه عبد مقرَّب لله يسأل الله كما يسأله الزائر، وأن المَزُورَ أطهرُ منه روحًا وأصفى نفسًا بما أعطاه الله من الكمال الإنساني، وإن كان العوام لا يستطيعون التعبير عما تُكِنُّه صدورُهم من حسن العقيدة وكمال الإيمان] اهـ.

وبهذا كله يتضح أن الاستغاثة والاستمداد من الأنبياء والأولياء والصالحين هي مما قال العلماء بجوازه سلفًا وخلفًا، وأن القول بأن ذلك شرك هو أعظم بدعة ظهرت في الأمة الإسلامية في الأعصر المتأخرة وهي من جنس بدع الخوارج التي يتوسل بها أصحابها إلى تكفير المسلمين والطعن في عقائدهم، على أن تكفير المسلم بذلك لا يستقيم عند العقلاء أصلا فضلا عن أن يدل عليه نقل أو شبهة نقل.

يقول العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي المالكي عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر في “مقالته عن الاستغاثة”: [ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثة ونحوها؛ فإنّ المستغيث إن كان طالبًا من الله بكرامة هذا الميّت لديه، فالأمر واضح، وإن كان طالبًا من الولي نفسه فإنّما يطلب منه على اعتقاد أنّ الله أعطاه قوّة روحانيّة تشبه قوّة الملائكة فهو يفعل بها بإذن الله، فهل في ذلك تأليه له؟

ولو فرضنا جدلًا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن فيه شرك ولا كفر، بل نكون كمن طلب من المقعد المعونة معتقدًا أنّه صحيح غير مقعد، مع أنّ عمل الأرواح ومواهب الأنبياء والأولياء ثابتة في الدّلائل القطعيّة..

وصفوة القول أنّنا نقول: هؤلاء المستغيثون يعتقدون أنّ الله أعطى هؤلاء الأولياء مواهب لم يعطها لغيرهم، وذلك جائز لا يمكنهم منعه. وهم يقولون: “إنّهم اعتقدوا فيهم الألوهيّة! ” مع أنّ ذلك لا يقول به أحد، إلَّا عند من أساء الظّن بالمسلمين ظلمًا وعنادًا. ولو فرضنا أنّ ذلك مشكوك فيه، فهل يجوز التّكفير والقتل بمجرّد الشّك؟!

فالاستغاثة مبنيّة عندنا على أنّ الأنبياء والأولياء أحياءٌ في قبورهم كالشّهداءِ، بل أعلى من الشّهداء، ويمكنهم أن يدعوا الله تعالى للمستغيث بهم، بل يمكنهم أن يعاونوه بأنفسهم كما تعاون الملائكة بني آدم، وللأرواح تصرّف كبير في البرزخ. وعلى ذلك دلائل كثيرة أطنب فيها ابن القيّم، وهو من أئمّة هؤلاء، وأثبت ابن تيميّة سماع الأموات وردّهم السّلام في فتاويه وغيرها، مستندًا إلى الأحاديث الصّحيحة في ذلك، وذكر سماع سعيد بن المسيب الأذان من قبره صلى الله عليه وآله وسلم أيّام الحرّة في كتبه، فإذا استغاث بهم كان كمن يستغيث بالحي سواء بسواءٍ؛ لأنّهم عندنا أحياءٌ، بل أعظم نفوذًا، وأوسع تصرّفًا من الأحياءِ.

ولو تنزّلنا غاية التنزّل، وفرضنا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن هناك وجه للتّكفير، وإنّما يقال للمستغيثين: إنّكم أخطأْتم في ذلك، فإنّهم ليسوا أحياء ولا قادرين على ما سبق لنا] اهـ.

وقد صنف في مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واستحبابه -حيًّا ومنتقلًا- أعدادٌ غفيرة من العلماء سلفًا وخلفًا، والاستغاثة من جملة التوسل كما سبق تقريره عن التقي السبكي والتقي الحصني والسمهودي والقسطلاني وابن حجر وغيرهم، كما ألف جماعة في خصوص مشروعية الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، منهم:

– الإمام الحافظ المنذرى [ت656هـ] صاحب “الترغيب والترهيب” في رسالته “زوال الظما، فى ذكر من استغاث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشدة والعمى” ذكرها صاحب “إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون” (1/614، ط. دار إحياء التراث العربي) .

– والإمام أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المراكشي [ت683هـ] في كتابه “مصباح الظلام، في المستغيثين بخير الأنام، في اليقظة والمنام”، وهو مطبوع.

– والعلامة نور الدين علي بن إبراهيم الحلبي الشافعي [ت1044هـ] في كتابه “بغية ذوي الأحلام، بأخبار مَن فُرِّجَ كربُه برؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام في المنام” مخطوطة في دار الكتب المصرية تحت رقم: 3/36 (3335) ، (63 مجاميع) .

– والعلامة أبو السيادة عفيف الدين الميرغني الحسيني الحنفي المكي [ت1207هـ] في رسالته “تحريض الأنبياء، على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء”، وهي مخطوطة بمكتبة رضا، برامبور بالهند، محفوظة برقم: 2/425 (737) .

– والشيخ العلامة محمد عابد السندي [ت1257هـ] له رسالة في “جواز الاستغاثة والتوسل”، وهي مخطوطة في خزانة الرباط، أول المجموعة 1143 كتاني.

– والعلّامة يوسف النبهاني الشافعي الأزهري [ت1350هـ] في كتابه الماتع الجامع “شواهد الحق، في الاستغاثة بسيد الخلق، صلى الله عليه وآله وسلم”، وقد عقد لذلك فصلًا في كتابه “حجة الله على العالمين، في معجزات سيد المرسلين، صلى الله عليه وآله وسلم”. وكلاهما مطبوع. وقد تم طبع “شواهد الحق” بالمطبعة الميمنية سنة 1323هـ، وقرَّظه وامتدحه كبار علماء الأزهر في ذلك الوقت: كالشيخ العلّامة السيد علي الببلاوي المالكي نقيب الأشراف وشيخ الأزهر الأسبق، والشيخ العلّامة عبد القادر الرافعي الحنفي مفتي الديار المصرية الأسبق، والشيخ العلّامة عبد الرحمن الشربيني شيخ الأزهر وقتَها، والشيخ العلّامة بكري الصدفي الحنفي مفتي الديار المصرية وقتَها، والشيخ العلّامة محدِّث المغرب محمد عبد الحي الكتاني الحسني، والعلّامة السيد أحمد بك الحسيني الشافعي، والشيخ العلّامة سليمان العبد عضو هيئة كبار العلماء، والعلامة أحمد حسنين البولاقي الشافعي، والشيخ العلّامة أحمد البسيوني شيخ السادة الحنابلة بالأزهر الشريف، وغيرهم من أهل العلم بالأزهر الشريف.

=====

الكتاب: حكم الاستغاثة بالأنبياء والصالحين- حكم السفر لزيارة قبور الصالحين – حكم الحلف بغير الله
المصدر: موقع دار الافتاء المصرية
اعدّه للمكتبة الشاملة: أ / ناجح رسلان

السابق
كتب العنقري : (من الأخطاء العقدية التي وقع فيها العميري: دعواه تقسيم العبادات (الدعاء، الاستغاثة، الذبح ،السجود) إلى أفعال محتملة وغير محتملة …. /ردود الوهابية بعضهم على بعض/ رد العميري على العنقري
التالي
مقال لبعض الوهابية بعنوان “هدم صنم صالح بن عثيمين القول ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺪﻡ ﺳﺤﺮ ﺍﺑﻦ ﻋﺜﻴﻤﻴﻦ”