كنت مرة في أحد المكتبات بحي “باب الواد” الشهير عندنا في الجزائر العاصمة، وسألت القائم على المكتبة عن عنوان أحد الكتب، فسارع أحدهم وتبرع بالجواب عنه فقال: غير موجود بمكتبتنا..ثم قال لي: لكن المؤلف (قبوري!)؟..
فقلتُ له: ماذا تقصد بقولك: (قبوري!)؟..
قال: يقول بالتوسل بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم -؟..
قلت له: هات تفسير ابن كثير – وهو عندك بالمكتبة – وافتحه في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]..وقد فسر الآيةَ الحافظُ ابنُ كثير بقصة العُتبي فقال: ((يُرْشِدُ تَعَالَى الْعُصَاةَ وَالْمُذْنِبِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطَأُ وَالْعِصْيَانُ:
(1) أَنْ يَأْتُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ
(2) فَيَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ
(3) وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ
فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}.
وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ الشَّامِلِ الْحِكَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عَنْ الْعُتْبِيِّ، قَالَ: “كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي، مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي. ثُمَّ أنْشَأَ يَقُولُ:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ
فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ
فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ يَا عُتْبِيُّ: الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ”)) [تفسير ابن كثير (306/2)]..
فقلتُ له: ها أنت تقرأ أن الحافظ ابن كثير يوصي العصاة والمذنبين أن يأتوا إلى حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغفروا الله عنده، ويسألوه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر لهم تماما على الاطلاق في الآية الكريمة، ثم إنه ذكر قصة العتبي مما يدل على أنه يرى صلاحية الطلب منه صلى الله عليه وآله وسلم حتى وهو حي في قبره صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عن القصة: ((الْحِكَايَة الْمَشْهُورَة)) فهي مشهورة عند علماء التفسير، فلا شرك ولا غيره. فهل تستطيع أن تقول عنه أنه (قبوري!)؟!..
فوالله لم يستطع الرجل أن يتكلم بكلمة واحدة…ثم أنه تكرم فدعاني لبيته، وأهداني نسخة من كتاب ألفه اسمه على ما أذكر “كتاب الأربعين في حرمة دماء المسلمين”، ودعاني أن أقدم له ملحوظاتي على الكتاب..وأخبرني بأنه تلمذ للمدعو: “سليم الهلالي” وهو متمسلف متحرق من تلامذة الألباني..فطلبت منه أن يطالع بحث “رفيق” درب شيخه هذا الموسوم: “الكشفُ المِثالي عن سرقات سليم الهِلالي!”..الخ
والبيت القصيد من القصة هو أن هؤلاء الشذاذ يتجرؤون على تبديع وتفسيق وتكفير كبار أيمة الإسلام بكل أريحية، ولكن إذا تعلق الأمر ببعض التيمية فالأمر عندهم مختلف تماما، ثم تجدهم يلقون تهمة التعصب على مخالفيهم!..حقا: طبيب يداوي الناس وهو عليل..
نسأل الله السلامة والعافية..