م.محمد أكرم أبو غوش
[لا، لأنَّه نعم!]
قرَّر المنطقيُّون أنَّ تحقُّق الاستدلال (البسيط) لا بدَّ فيه من حصول خبرين (تصديقَين – قضيَّتَين) لا أقلَّ من ذلك، وذلك لأنَّ النَّتيجة خبر عن علاقة مذكور (أ) بآخر (ب) بأن يكون أحدهما موضوعاً (موصوفاً) والثَّاني محمولاً (وصفاً) ثبوتاً وانتفاء، فنحتاج لمعرفة العلاقة بينهما إلى معلومة أخرى، ولا تكفي معلومة ثالثة أخرى واحدة للوصول إلى هذه العلاقة لأنَّها مهما كانت فهي ليست وصف (أ) بـ (ب). بل إنَّنا نحتاج للوصول إلى تلك العلاقة إلى معلومة نعرف فيها علاقة (أ) بمذكور ثالث (ج) ومعلومة أخرى نعرف فيها علاقة (ب) بـ (ج)، وبناء على معرفة هاتين العلاقتين نعرف علاقة (أ) بـ (ب) –هذا في القياس الاقترانيِّ، وفي القياس الاستثنائيِّ لا بدَّ من ذكر الملازمة أو التَّعاند وذكر حصول طرف أو انتفاء ثان، فلا بدَّ من مقدِّمتين كذلك-.
يعلق على هذا ابن تيميَّة في كتاب (الرد على المنطقيِّين) –وهذا الكتاب من العجائب، لأنَّه بحر من بحار المغالطات-:
”وأما قولهم: إن {((الاستدلال)) لا بد فيه من مقدمتين} بلا زيادة ولا نقصان، فإن كان الدليل مقدمة واحدة قالوا: الأخرى محذوفة وسموه هو قياس الضمير. وإن كان مقدمات قالوا: هي أقيسة مركبة ليس هو قياسا واحدا.
فهذا قول باطل طردا وعكسا.
وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة <لعلمه مما سوى ذلك> كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى الاستدلال <بل قد يعلمة بالضرورة> ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين ومنهم من يحتاج إلى ثلاث ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر.
فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم فان كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المعين مسكر أم لا لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة وهو أن يعمل أن هذا مسكر فإذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه فقال المستدل الدليل على ذلك أنه مسكر فقال لا نسلم أنه مسكر فمتى أقام الدليل على أنه مسكر تم المطلوب.
كذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة هل هو مسكر أم لا؟ كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الأشربة فلا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر ولكن قد علم أن كل مسكر حرام فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه وكذلك سائر ما يقع الشك في الدراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج هل هما من الميسر أم لا؟ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا؟ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أم لا؟ وتنازعهم في قوله: {أو يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هل هو الزوج أو الولي المستقل؟ وأمثال ذلك.
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم أن هذا المعين مسكر فهو لا يعلم أنه محرم حتى يعلم أنه مسكر ويعلم أن كل مسكر حرام.
وقد يعلم أن هذا مسكر ويعلم أن كل مسكر خمر لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لقرب عهده بالإسلام أو لنشأه بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك.
أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل مسكر حرام” أو يعلم أن هذا خمر وان النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لكن لم يعلم أن محمدا رسول الله أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين بل ظن أنه أباحها لبعض الناس وظن أنه منهم كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر أو أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر وانه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فما حرمه فقد حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوي ولا للتلذذ”.
ااااااااااااااااا
الحاصل: ابن تيميَّة يُبطل قول من يقول إنَّه لا بدَّ من مقدِّمتين للقياس بالقول إنَّ من النَّاس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة في الاستدلال.
طيِّب، كيف ذلك؟
يقول: لأنَّ الإنسان قد يكون عالماً بغير هذه المعلومة سابقاً.
ويضرب على ذلك غير ما مثال، مثل أن يعلم الإنسان حرمة المسكرات، لكنَّه لا يعلم كون مشروب معيَّن مسكراً، فإذا عرف أنَّه مسكر عرف أنَّه حرام. فإذن هو قد انتقل من مقدِّمة واحدة إلى النَّتيجة.
ااااااااااااااااا
أقول: أليس هذا إقراراً بعدم كفاية مقدِّمة واحدة؟!
وهل منصوص المنطقيِّين إلا أنَّه لا بدَّ من معلومتين؟!!
أو إنَّ ابن تيميَّة توهَّم أنَّ المنطقيِّين أرادوا غير ذلك؟!!!
أو إنَّ ابن تيميَّة متعمِّد لإيهام المغفَّلين أنَّه بهذا الإقرار قد أبطل قول المنطقيِّين هذا فعلاً؟!!!!