[5] الوجه الثالث: في الجواب عن استدلال ابن تيمية بالآية 86 من سورة المؤمنين على أن المشركين موحدون توحيد ربوبية.
(وليد الزير آدمن 9)
ثالثا: ثمة أثار عن السلف في تفسير آية يوسف تخالف تفسير ابن عباس السابق* الذي تمسكتم به؛ وإليك بعض هذه الآثار:
يقول عطاء: يعلمون أن الله ربهم، وهم يشركون به بعدُ([1]).
قال وليد: فقوله: “وهم يشركون به” أي يشركون بربهم باتخاذهم الأصنام أربابا وآلهة كما سبق عن الطبري في تفسير الآية نفسها[2].
وقال الضحاك: كانوا يشركون به في تلبيتهم([3]). وتلبيتهم هي: “لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك([4]). ومعلوم أن هذا شرك في الربوبية لأنهم ادعوا لأصنامهم الملك.
وقال الحسن البصري: ذاك المنافق يعمل إذا عمل رياء للناس، وهو مشرك بعمله ذاك([5]).
وقال الإمام محمد الباقر: شِرْك طاعة قولُ الرجل : لولا الله وفلان ، لولا وكلب بني فلان([6])؛ قلت: وهذا شرك في الربوبية.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] يعني النصارى ….. ولئن سألتهم من يرزقكم من السماء والأرض؟ ليقولن الله، وهم مع ذلك يشركون به، ويعبدون غيره، ويسجدون للأنداد دونه[7].اهـ
وطالما أن الآية محتملة لكل هذه المعاني فلا يصلح أن تتمسكوا ببعضها دون بعض، بل لا يصلح أن تستدلوا بها أصلا على محل النزاع لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، كما سلمتم بذلك[8]. هذا إن سلمنا أن ابن عباس قال ما ادعيتم من أنه فهِم من آية يوسف هذه أن المشركين موحدين في الربوبية، وإلا فقد أثبتنا خلاف ذلك.
رابعا: إن آية يوسف تصرّح بأن أكثر المشركين يؤمنون بالله مع شركهم، فدلت بمفهوم المخالفة على أن بعض المشركين لا يؤمنون بالله أصلا، وهذا يؤيده قوله تعالى عن بعض كفار قريش: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ } [الحاقة : 33]، وقول بعض المشركين أنفسهم { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية : 24] ، وهذا كله خلاف ما يقوله ابن تيمية من أن المشركين والناس جميعا مؤمنون بالله وموحدون له في الربوبية.
فإن قيل: قد يكون معنى الآية أن أكثر الناس يؤمنون بالله ويشركون به، وما تبقى يؤمنون بالله دون شرك، فثبت أن الكل مؤمن بالله.
قلنا: هذا غير مسلّم، لأن الضمير في قوله “وما يؤمن أكثرهم” عائد على كفار قريش بدليل أن الآية التي قبلها: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف : 105]، فصار معنى الآية وأكثر كفار قريش يؤمنون بالله وهم مشركون، وقلة منهم لا يؤمنون بالله أصلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقصود به ما ورد عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 106]، قال: تسألهم: مَن خلقهم ؟ ومَن خلَق السموات والأرض ؟ فيقولون: الله، فذلك ايمانهم وهم يعبدون غيره.اهـ وقد سبق مناقشة هذا في وجهين سابقين.
([1]) جامع البيان (16 / 289)
[2] حيث قال الطبري في تفسيره جامع البيان، ط/ هجر (13/ 372 يقول تعالى ذكره: وما يُقِرُّ أكثر هؤلاء … بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء ( إلا وهم مشركون )، في عبادتهم الأوثان والأصنام ، واتخاذهم من دونه أربابًا ، وزعمهم أنَّ له ولدًا ، تعالى الله عما يقولون.اهـ
([3]) جامع البيان (16 / 289)
([4]) جامع البيان (16 / 289)
([5]) تفسير ابن أبي حاتم الرازي – (8 / 111)
([6]) تفسير ابن أبي حاتم الرازي – (8 / 111)
[7] تفسير الطبري، جامع البيان ط هجر (13/ 375)
[8] قال شكري الآلوسي: وأنت تعلم أن الدليل متى طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال. انظر: فتح المنان ص 499، لشكري الآلوسي، ط/ أنصار السنّة المحمدية، مصر 1366هـ.