التأويل

تفسير الصفات المتشابهة بلازمها وهي التي ظاهرها حلول الحوادث بذاته تعالى (1)/ منقول

راسلني بعض الأخوة الكرام بمنشور لأحد المعترضين -في بلادنا الجزائر- على طريقة سادتنا أهل السنة السادة الأشاعرة في تقريرهم ما يتعلق ببعض الإضافات الموهمة للتشبيه في حقه تبارك وتعالى، وألحوا على الفقير التعليق على ما جاء فيه..
قال المعترض في منشوره الذي عنونه بقوله:
((#من بواعث التعطيل الجهلُ بالوضع_واللسان))!!!…ما نصه:
((يقولون ” إن الرحمة رِقَّة في القلب وانعطافٌ يقتضي تفضلا وإنعاما، وما كان من الصفات من هذا القبيل فهي مأخوذة بالغايات لا بالمبادئ، بمعنى أن الرحمة لها مبدأٌ وغايةٌ تنتهي وتؤول إليه، فمبدؤها رِقّة وانعطاف وهو انفعال، والانفعال والكَيْف محالٌ في حقه عز وجل، فلزِم أن نؤوّلها بالغاية التي هي فِعلٌ، فيُقال إنه تفضُّل و إحسان تنزيها للباري “.
هذا هو المنهج العامُّ الحاكمُ لتعامل المتكلِّمين مع الصفات حيث استحالةُ المُبتَدى فتعيَّن المُنتهى.
وهذه طريقة غيرُ مُخَلِّصة، إذ لا يُسَلَّم لهم المُبتدى، فيُقال إن تفسير الرحمة بما ذُكر هي رحمة المخلوق، فلا يُسلم لهم تفسير الرحمة الإلاهية بما ذُكر، قد خافوا التشبيه فدرؤوه بما ذُكر وهو عين التعطيل.
فالتحصيل أن حقيفة الرحمة هنا مرادَةٌ لأنه عز وجل لمّا أراد لازِمَها وهو التفضّل والإنعام صرّح بها، كما “في المجيء”
و “مجيء أمره”، فالله لما أراد ” مجيء أمره” بيّن فقال
” إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ “، ولمّا أراد ” المجيء الحقيقي” قال
” وَجَاءَ رَبُّكَ”، فمن زعم أن المجيء لازِمٌ له الانتقالُ جهل لسان العرب،
وإلا فإن العرب قالت جاء الرجُل وجاء المطر وجاء النّوم،
فهل الانتقال في كل هذه لازِمٌ غيرُ منفك فيها ؟
فمن عطَّل ضاق به اللسان والوضع، ورحم الله الشيخ
سالمَ بنَ عَدُّود حين قال :

  • ………، وإلى دُنْيَا السَّمَا = يَنْزِلُ كُلَّ لَيلَةٍ ، لا مِثْلَ مَا
  • يَنْزِلُ مَخلُوقٌ بِإخْلا حَيِّزْ = مِنهُ وَشَغْلِ حَيِّزٍ -فَمَيِّزْ-
  • وَهُوَ العَلِيُّ، لا تَحُدُّه جِهَهْ = ضَلَّ المُعَطِّلةُ والمُشَبِّههْ
    ولازِمُ كلامِ المتكلّمين أن السّلف قلّ عِلمهم وضَعُفت فصاحتُهم فقَصُروا عن دَرْك المراد أو أنهم عرَفوا ولم يُبَلِّغوا، فكلاهما محال، سبحان القائل ” أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ “.
    وفي هذا يقول سيدي باب رحمه الله وهو من علماء شنقيط :
    ومن تأوَّلَ فقد تَّكلَّفَا = وغيرَ ما له به علمٌ قفا
    وفي الذي هرب منهُ قد وَقَع = وبعضُهُم عن قولِهِ بِهِ رَجَعْ
    حَتَّى حكى في منعِهِ الإجماعَا = وجعلَ اجتنابَهُ اتِّباعا
    وقدْ نَمَاهُ بعضُ أهل العلم = من الأكابِرِ لحزبِ جَهْمِ
    فاشدُدْ يديك أيُّها المحقُّ = على الذي سَمعتَ فهو الحقُّ
    ” ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير “
    كتبه الفقير إلى عفو ربه أبو بكر حسوني)).انتهى كلام المعترض.
    التعقيب:
    أوَّلًا: أرى أنه لا بد من تحرير بعض النقاط قبل الشروع في معالجة كلام الرجل:
    • الأصل العظيم الذي فارق به أهلُ الحق والتنزيه أهلَ الباطل والتشبيه من التيمية وغيرهم من أدعياء السلفية في مسألة “الصفات الإلهية”: صفاته جل وعلا صفات كمال أزلا وأبدا، لا نقص فيها من جميع الوجوه، قديمة قدم ذاته سبحانه وتعالى، لا حادثة ولا محدثة. فلا يجوز عليه تعالى التغير والتحول لا في ذاته ولا في صفاته.
    قال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ((مَا زَالَ [تَعَالَى] بِصِفَاتِهِ قَدِيْمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا، كَذَلِكَ لَايَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا. لَيْسَ بَعْد خَلْقِ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ “الْخَالِقِ“، وَلَا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ “الْبَارِي”. لَهُ مَعْنَى الْرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ. وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْـمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا، اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْـخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ)) [مَتْنُ الْعَقِيْدَةِ الْطَّحَاوِيَّةِ (ص:9-10)]، وقال الإمام البغوي في تفسيره: ((نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ النَّوْمَ لِأَنَّهُ آفَةٌ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْآفَاتِ، وَلِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ)) [تفسير البغوي (1/312)]..الخ كلام أيمتنا.
    نعم؛ فلو جاز اتصافه تعالى بصفة حادثة لجاز النقصان عليه قطعا، وهو باطل باتفاق. ووجه اللزوم: أن ذلك الحادث إن كان من صفات الكمال: كان خلوه تعالى عنه مع جواز اتصافه به: نقصا بالاتفاق، وقد خلا عنه تعالى قبل حدوثه!. وإن لم يكن من صفات الكمال: استحال اتصاف الواجب به للاتفاق على أن كل ما يتصف به تعالى يلزم أن يكون من صفات الكمال. هكذا قرر أيمتنا رضوان الله عليهم.
    • لأجل ما سبق بيانه باقتضاب، حرَّر جمهور أهل السنة قاعدة للتعامل مع الإضافات الموهمة للتَّشبيه والتي يوهم ظاهرها اللغوي نسبة الانفعال والتَّغَيُّر إلى الذات العليَّة كالغضب والرحمة والحياء والضحك…الخ، وقد أطلق أهل السنة على هذا الأصل في التنزيه: استحالة قيام الحوادث بالخالق..
    قَالَ الْحَافِظ جَلَال الدِّين السُّيُوطِي: ((وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تُفَسَّرُ بِلَازِمِهَا. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: جَمِيعُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ – أَعْنِي: الرَّحْمَةَ وَالْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالْغَضَبَ وَالْحَيَاءَ وَالْمَكْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ -: لَهَا أَوَائِلُ وَلَهَا غَايَاتٌ، مِثَالُهُ: الْغَضَبُ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ: غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَغَايَتُهُ: إِرَادَةُ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَلَفْظُ الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، بَلْ عَلَى غَرَضِهِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ. وَكَذَلِكَ: الْحَيَاءُ، لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ: انْكِسَارٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ، وَلَهُ غَرَضٌ وَهُوَ: تَرْكُ الْفِعْلِ، فَلَفْظُ الْحَيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لَا عَلَى انْكِسَارِ النَّفْسِ.انْتَهَى)) [الإتْقَانُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ (2/8)] فهذه القاعدة السُّنِّيَّة السَّنِيَّة حاصلها: أنَّ كل صفة يستحيل حملها على الحقيقة اللغوية – المقابلة للمجاز – في حقه جل وعلا؛ تفسَّر بلازمها، ومن هذا القبيل مثلا الرحمة والغضب في حقه تعالى..
    وهذه القاعدة التي نقلها الحافظ السيوطي عن علماء أهل السنة، هي هي محل اعتراض المدعي كما هو ظاهر من كلامه أعلاه، فهو بهذا – من حيث يدري أو لا يدري! – يتهم كبار أيمة الإسلام – فضلا عن متكلمة أهل السنة – بالتعطيل على حد قوله!، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى..
    • في أن التأويل بضوابطه منهج مرضي عند علماء أهل السنة:
    ونكتفي هنا بتقرير الْحَافِظ ابْن حَجَر الْعَسْقَلَانِي حيث قال: ((وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي “الْعَقِيدَةِ”: “تَقُولُ فِي الصِّفَاتِ الْمُشْكَلَةِ إِنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَأَوَّلَهَا نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِ الْعَرَبِ لَـمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ وَرَجَعْنَا إِلَى الْتَّصْدِيقِ مَعَ الْتَّنْزِيهِ. وَمَا كَانَ مِنْهَا مَعْنَاهُ ظَاهِرًا مَفْهُومًا مِنْ تَخَاطُبِ الْعَرَبِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾[الْزُّمَر:56] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي اسْتِعْمَالِهِمُ الْشَّائِعِ: حَقُّ اللَّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ فِي حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْله: “إِنَّ قَلْبَ بْنِ آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الْرَّحْمَنِ” فَإِنَّ الْـمُرَادَ بِهِ: إِرَادَة قَلْب ابْن آدَمَ مُصَرَّفَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَا يُوقِعُهُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾[الْنَّحْل:26] مَعْنَاهُ: خَرَّبَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾[الْإِنْسَان:9] مَعْنَاهُ: لِأَجْلِ اللَّهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ”)) ثُمَّ قَالَ الْحَافِظ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا التَّحْقِيق مُبَاشَرَةً: ((وَهُوَ تَفْصِيلٌ بَالِغٌ قَلَّ مَنْ تَيَقَّظَ لَهُ)).انْتَهَى مِنْ: [فَتْح الْبَارِي (13/383)، الْمَطْبَعَة الْسَّلَفِيَّة]..
    هذا وقد ثَبَتَ تأويل السَّلَف لبَعْض الظَّوَاهِر الْـمُوهِمَة لِلتَّشْبِيه، فَقَدْ تَأَوَّل مَثَلا حَبْر الأُمَّة عَبْد الله بن عَبَّاس: الْسَّاق وَالْـمَجِيء…الخ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى التَّفْوِيض [أي: تفويض المعنى التفصيلي مع الجزم بالتنزيه ونفي معاني الجسمية]، وَتَأْوِيله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ فِي الْعَصْرِ الذَّهَبِي أَيْ: فِي وَسَطِ مَنْ يُتْقِنُونَ لُغَة الْقُرْآن بِالْسَّلِيقَةِ، وَكان مِنْ بَابِ الْتَّفْسِيرِ أَيْ: الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ، فَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الاضْطِرَارِ لِدَفْعِ الايْهَام عَنِ الْعَجَمِ، بَلْ هَذَا مَذْهبهُ الَّذِي كان يَرَاهُ وِفْقَ الْقَاعِدَةِ الْسَّابِقَة الَّتِي قَعَّدَهَا الإِمَام ابْن دَقِيق الْعِيد بِالاسْتِقْرَاءِ وَالتَّتَبُّعِ لِمَنْهَج الرعيل الأول، وَفِي ضَوْءِ هَذَا أَيْضًا يُفْهَمُ مَا جَاءَ عَنْ بَعْض السَّلَفِ مِنْ جُنُوحِهِم إِلَى التَّفْوِيض..
    • في أن حمل الظواهر الموهمة للتشبيه على ظاهرها اللغوي المعروف هو مذهب المجسمة والمشبهة:
    قال الإمام العلامة بدر الدين الزركشي: ((فِي حُكْمِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ: وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَارِدِ مِنْهَا فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ:
    أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا؛ بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا تُؤَوِّلُ شَيْئًا مِنْهَا، وَهُمُ: الْمُشَبِّهَةُ.
    وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ الشَّبَهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَنَقُولُ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ.
    وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ، وَأَوَّلُوهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ.
    وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، وَالْأَخِيرَانِ: مَنْقُولَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ
    )) [البرهان في علوم القرآن (2/78)].
    يتبع…
    اللاحق:
  • https://web.facebook.com/yacine.ben.rabie/posts/3155635001337781
  • https://www.facebook.com/yacine.ben.rabie/posts/3154960721405209
السابق
المسائل التي رجحها الشافعية من المذهب القديم للإمام الشافعي (منقول)
التالي
تفسير الصفات المتشابهة بلازمها وهي التي ظاهرها حلول الحوادث بذاته تعالى (3)/ منقول