[1] “القول الجيد ببطلان التفريق في الاستغاثة بين الحي والميت”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وبعد فهذه رسالة سميتها : “القول الجيد ببطلان التفريق في الاستغاثة بين الحي والميت”.
أقول فيها وبالله التوفيق: إن ما ذهب إليه ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومن تبعهما من التفريق في الدعاء والاستغاثة بين الحي وبين الميت، وبين الحاضر وبين الغائب، وبين الحي فيما يقدر عليه وبين الحي فيما لا يقدر عليه: تفريق لا معنى له، بل هو من بدع ابن تيمية ومن تبعه؛ فيكون قوله مردودا عندنا وعندكم، أما عندكم فظاهر إذ أنتم تحظرون مطلق البدع ولا تستحسنون منها شيئا لعموم حديث “كل بدعة ضلالة” عندكم، وأما عندنا فلأن تفريق ابن تيمية ومن تبعه بدعة مخالفة للكتاب والسنة، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: إنكم قررتم أن دعاء الحي فيما لا يقدر وكذا دعاء الغائب والميت: عبادة لهم، لذلك قلتم إنه شرك، ثم قررتم أن دعاء الحي فيما يقدر عليه ليس بعبادة وليس بشرك؛ وطَرْدُ هذا الأصل يلزم منه أن دعاء الله فيما يقدر عليه الحي ليس بعبادة لله؛ بل يلزم منه أن دعاء الله مطلقا ليس عبادة، لأن الله حي قادر على كل شيء؛ وهذا اللازم إما أن يكون صحيحا أو يكون باطلا، وعلى كلا الاحتمالين فتفرقتكم باطلة، وبيان ذلك:
أن هذا اللازم إن كان صحيحا، وهو أن دعاء الله ليس بعبادة سواء فيما يقدر عليه الحي أو فيما لا يقدر عليه: بطل قولكم إن الدعاء عبادة، وبطل قولكم: “إن من يدعو غائبا أو ميتا فقد عبده وأشرك بالله، لأن الدعاء عبادة لا تصرف لغير الله”.
وإن كان هذا اللازم باطلا ـ وهو كذلك كما سيأتي ـ كان الملزوم وهو “دعاء الحي فيما يقدر عليه ليس بعبادة”: باطلا، ويصح حينئذ عكسه، وهو أن دعاء الحي فيما يقدر عليه عبادة له، وبالتالي بطل تفريقكم، بين دعاء الحي فيما لا يقدر عليه فاعتبرتموه عبادة له، وبين دعاء الحي فيما يقدر عليه فلم تعتبروه عبادة له، فصارت هذه التفرقة باطلة، بل صار كلا الدعاءين عبادة، ولزمكم تهمة عبادة غير الله قبلنا، لأنكم أجزتم دعاء الحي فيما يقدر عليه.
والواقع أن دعاء الله عبادة سواء فيما يقدر عليه سواه من الأحياء أو فيما لا يقدرون عليه، أما الأول وهو ” دعاء الله عبادة سواء فيما يقدر عليه سواه ” فلأن الشرع ندبنا إلى دعاء الله في كل شيء، كما في حديث أنس مرفوعا عند الترمذي: ” ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع “[1]، وهذا ما فهمه الصحابة فهذه عائشة تقول: “سلوا الله كل شيء، حتى الشسع، فإن الله إن لم ييسره، لم يتيسر[2].
وأما الثاني وهو “دعاء الله فيما لا يقدر عليه سواه” كالخلق والإحياء والإماتة ونحو ذلك مما تمثلون به : فهذا الدعاء عبادة باتفاق بيننا وبينكم، ولكنه عبادة لا لأن الله يقدر وسواه من الأحياء لا يقدر عليه، وإلا لكان دعاء الله فيما يقدر عليه سواه ليس بعبادة وهذا باطل لماسبق، ولكان دعاء الله مطلقا ليس بعبادة لأن الله حي قادر، وهذا أشد من بطلانا لما سبق أيضا.
بل إن دعاء الله فيما يقدر عليه سواه وفيما لا يقدر عليه سواه إنما كان عبادة إذا اقترن بشروط العبادة: وهو اعتقاد الربوبية أو أحد صفاتها في المدعو، والثاني: الخضوع التام، ولا بد أيضا من استحضار نية العبادة؛ إذ الصلاة والصيام وسائر العبادات ما لم تقترن بنية العبادة لا ثواب فيها لحديث “إنما الأعمال بالنيات”، وكذا الدعاء فيشترط فيه نية العبادة والخضوع والحاجة إلى الله، وبدون ذلك لا يعتبر عبادة، لأن الإنسان قد يدعو اللهَ مستهزئا، ومثال ذلك ما حكاه الله عن المشركين أنهم قالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. فالمشركون هنا في صورة من يدعو الله، بدليل تصديرهم لدعائهم بـ “اللهم” أي يا الله … ، ولكن دعاءهم هذا ليس عبادة منهم لله قطعا، بل هو سخرية منهم بالله وعدم اكتراث بعذابه، لذلك أجابهم الله بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]؛ وهذا قررنا في بحث العبادة في غير هذا الموضع.
والحاصل أن تفريقكم بين دعاء الحي فيما يقدر عليه حيث لم تعتبروه عبادة ولا شرك، وبين دعاء الغائب والميت والحي فيما لا يقدر عليه حيث اعتبرتموه عبادة وشرك، هو تفريق باطل، لأن مناط العبادة في الدعاء ليس هو القدرة وعدمها وإلا لكان دعاء الله ليس بعبادة لأن الله حي قادر تماما كما قلتم في دعاء الحي فيما يقدر عليه أنه ليس بعبادة؛ وإنما مناط العبادة هو اعتقاد ربوبية المدعو أو أحد صفاتها، بالإضافة إلى الخضوع التام، وقبل كل شيء اشتراط نية العبادة في الدعاء كما سبق.
الوجه الثاني: ما هو الضابط بين ما يقدر عليه الإنسان وما لا يقدر عليه، حتى يُسأل الأول…………….انتظره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سنن الترمذي برقم 3681، كتاب الدعوات، بَاب لِيَسْأَلِ الْحَاجَةَ مَهْمَا صَغُرَتْ. وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه (3 / 148)، وأبو يعلى في مسنده (6 / 130، شعب الإيمان – (2 / 369)، ط/ مكتبة الرشد؛ قال الترمذي: هذا حديث غريب، وصوّب إرساله، وفي سنده: قَطَن بن نُسير البصري، وهو صدوق يخطئ كما قال الحافظ في التقريب، ولكن قال الأستاذ حسين سليم أسد محقق مسند أبي يعلى: إسناده صحيح على شرط مسلم.اهـ وقد جاء الحديث من طريق آخر عند البزار مرفوعا، قال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد – (10 / 228): ورجاله رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة، وحسنه الحافظ ابن حجر؛ وقد حسنه أيضا الألباني في تعليقه على المشكاة ثم تراجع فضفعه في سلسلته الضعيفة. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (3 / 537).
[2] أخرجه أبو يعلى في مسنده (8 / 45)، وإسناده صحيح كما قال محقق المسند والألباني: انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (3 / 540).