قضايا فقهية معاصرة

مناقشة فتوى المجلس الأوروبي بجواز الاقتراض بالربا للمسلمين المقيمين في الغرب لشراء بيوت للسكنى

((وأخيرا نشير إلى الفتوى التي أثارت جدلا طويلا وهي فتوى المجلس الأوروبي بجواز الاقتراض بالربا للمسلمين المقيمين في الغرب لشراء بيوت للسكنى هناك، وقد استدل المجلس بعدة أدلة على قوله منها: أن المسكن حاجة من الحاجات الأصلية فيجوز شراؤه بالقرض الربوي للمسلمين المقيمين في الغرب، لأن الضرورات تبيح المحظورات و الحاجة تنزل منزلة الضرورة. وهذا الدليل هو محل بحثنا، فهل الحاجة هنا توفرت فيها الشروط التي سبقت؛ إن المجلس الأوربي حاول مراعاة تلك الشروط؛ فأما شرط كون الحاجة معتبرة شرعا، فالمسكن كذلك، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال:”وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا”(النحل80)، وجعل النبي السكن الصالح عنصرًا من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة[1]، ولم يوجب الفقهاء الزكاة في البيت الذي يسكنه صاحبه، لأنه من شرط الزكاة أن يكون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية، والمسكن ليس بمال فاضل[2] لذلك يجوز لصاحبه أن يأخذ الزكاة ولا يجب عليه الحج[3]. وأما شرط أن تكون متعينة، فهذا الشرط حدث فيه نزاع بين المجلس وغيره، فمن نازع المجلس قال: إن الحاجة إلى المسكن تندفع باستئجاره ولا تتعين في امتلاكه بالقرض الربوي، فالسكن والاكتنان حاجة مُسلّمة، ولكن هذه الحاجة لا تتعين بالتملك. ولو تعينت بالتملك لقلنا بجواز تملكها بالقرض الربوي[4]، وأما المجلس فيرى أن استئجار المسكن لا يلبي حاجة المسلم، إذ هو عرضة لأن يطرد في أي وقت ولاسيما إذا كثر عياله أو انقطع دخله، مع أن الأقساط التي تدفع عن طريق البنك لتملك البيت أقل من الإيجار الذي يظل يدفعه المسلم للمالك سنين طويلة ثم يطرد منه دون أن يملك فيه حجرا واحدا، فإذا حظرنا على المسلم التملك بالقرض الربوي، سيقع الظلم على المسلم بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبداً أن يظلم المسلم بالتزامه به ويتركه للكفار يمتصون دمه عليه غرمهم وليس له غنمهم. إلا أن المانعين عارضوا ذلك وردوه بأن المنافع التي ذكروها في التملك إنما هي من قبيل التحسينيات لا الحاجيات[5]، وهذا كما ذكر إمام الحرمين أن الحرام لو عم الأرض ولم يستطع الناس التحول عن مساكنهم إلى غيرها ولا إحياء مواتٍ وإنشاء مساكن سوى ما هم ساكنوها: اكتفوا بقدر الحاجة دون التنعم والترفه[6]، ولو فتحنا هذا الباب لرأينا المزارع والطبيب والتاجر وغيرهم: يتذرعون بحاجتهم إلى الاقتراض بالربا لتحسين أوضاعهم ودعم مشاريعهم[7]، على أنه لو سلمنا بوجود الحاجة فهي حاجة خاصة لا عامة بمعنى أنه قد يتصور انعدام البديل عن تملك البيت بالربا في حق شخص بعينه فيفتى له بالجواز، ولكن يبعد أن نتصور أن عموم المسلمين في الغرب تنعدم البدائل في حقهم، فإنهم باستطاعتهم مجتمعين أن يوفروها، فإفتاؤهم بالجواز يثبط هممهم بإيجاد البدائل عندهم فيما لو أرادوا وتعاونوا وتدبروا[8].

والحق أن المجلس دعا إلى إيجاد البدائل، ولم يطلق الفتوى بل قيدها بقيود كثيرة تضيق من تطبيقها، لذلك فإن الخلاف بين المجلس وبين من نازعه  قريب، فإن الكل متفق على حرمة ربا القروض من البنوك حتى مع البنوك الغربية، وإنما استأنس المجلس بقول أبي حنيفة في جواز الربا في دار الحرب، ولم يطلق المجلس جواز ذلك بل قيده بالحاجة[9]؛ والخلاف فقط في تحقق شروط الحاجة في مسألتنا، فالمجلس يرى تحققها، ومن نازعه لا يسلم بذلك، على أن الإشكال الوارد على المجلس حتى مع التسليم بتوافر شروط الحاجة هو أن القاعدة تقول ما حرم تحريم المقاصد لا يباح للحاجة، والربا كذلك. إلا أن المجلس رأى أن الربا إعطاء وأخذ؛ أما الأخذ فمحرم تحريم المقاصد وأما إعطاؤه فمحرم تحريم الوسائل فيباح للحاجة، ولكن هذا لم يُسَلّم من المنازع بل رد بأن الشارع سوّى بين آكل الربا وموكله في الإثم[10]؛ كما أن استئناس المجلس بقول أبي حنيفة لا يسلم من المنازعة إذ محل قول أبي حنيفة دار الحرب، وأما دار العهد كما هو حال الغرب الآن فالأمر مختلف، والذي أراه أن ما ذكره المجلس الأوربي لا يسوّغ القول بالإباحة، والحاجة التي ذكرها لم تتوفر شروطها، فالواجب الجزم بالتحريم، والله أعلم)) .

انتهى من بحثي المحكّم بعنوان: ضوابط الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة وتطبيقاتها على الاجتهادات المعاصرة

بحث مقدم لمجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية

إعداد: د.وليد بن صلاح الدين الزير


[1]  أخرج أحمد في مسنده 3/55 ط الرسالة، والطيالسي في مسنده برقم 210، والبزار كما في كشف الأستار برقم 1412، عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من سعادة ابن آدم ثلاثة ومن شقوة ابن آدم ثلاثة من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح ومن شقوة ابن آدم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء. وزاد ابن حبان في صحيحه (9 / 340) : الجار الصالح، وسند أحمد ضعيف، وإسناد ابن حبان صحيح.

[2]  حاشية ابن عابدين 2/284، ط دار الفكر في بيروت، شرح الوقاية لملا علي القاري (2 / 88)، الهداية وفتح القدير 1 / 487 . التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق 3/182 ط دار الكتب العلمية، كشاف القناع للبهوتي 2/168 ط دار الكتب العلمية.

[3]  انظر القواعد لابن رجب ص99 القاعدة 130،

[4] وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية ص62، الوقفة الرابعة، للدكتور محمد الصاوي، دار الأندلس الخضراء بجدة.

[5] المرجع السابق ص76.

[6]  الغياثي ص486.

[7] وقفات هادئة / ص77.

[8] وقفات هادئة ص84.

[9]  صناعة الفتوى ص238.

[10]  أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ” لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله “، صحيح مسلم  كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله – حديث:‏3079‏.

السابق
كيف تسربت الوهابية إلى حركة الإخوان المسلمين وربما التحمت بها؟ (منقول)
التالي
تنزيل كتاب: “المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية”، تأليف القاضي إسماعيل التميمي من علماء الزيتونة بتونس (ت 1248هـ، 1832م)