حكم الاستغاثة ودعاء غير الله

الفرع الرابع: أدلة الجمهور على جواز الاستغاثة / [1] الدليل الأول: استغاثة أهل المشهد بآدم (1)

الفرع الرابع: أدلة الجمهور على جواز الاستغاثة (وليد الزير آدمن 9)

استدل الجمهور على جواز الاستغاثة بعدة أدلة، وإليك تلك الأدلة مع مناقشة ما أُورد عليها.

[1] الدليل الأول: استغاثة أهل المشهد بآدم

جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه عند البخاري مرفوعا:”إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبيناهم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد”([1]).

وجه الدلالة: أن في هذا الحديث استغاثة الخلق بالأنبياء في ذلك الموقف العصيب ليكشفوا عنهم ما هم فيه[2].

واعترض السلفية على الاستدلال بالحديث ـ بعد أن وجهوا سيلا من الشتائم والسبائب([3]) لمن استدل به[4] من خصومهم ـ فقالوا: ليس في الحديث أنهم استغاثوا بالأموات، بل غاية ما فيه أنه استغاثة بالحي فيما يقدر عليه، وهذه خارج محل النزاع.

قلنا: بل هو في عين النزاع؛ فإن استغاثتهم بآدم ليكشف عنهم أهوال يوم القيامة، وهذه لا يقدر عليها إلا الله؛ إذ الكلام يوم القيامة يمتنع إلا لمن أذن له الرحمن كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ: 38] وكما في قوله: { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، فما بالك بكشف أهوال يوم القيامة؟ فهذا لا يقدر عليه إلا الله نفسه الذي خلق تلك الأهوال من تكوير الشمس وتسيير الجبال وكشط السماء، وتسعير الجحيم، ونحو ذلك من الأعاجيب كما في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) …… وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 1 – 13].

وما يحصل أيضا من تفجير البحار وبعث الأموات ونحو ذلك كما في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 1 – 4]، فهذا كله لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وكذلك فقد جاء في حديث أبي هريرة: ” فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون” كما سيأتي، ففيه تصريح أن الناس يقع عليها من الغم والكرب ما لا تطيقه ولا تقدر على رفعه فتذهب وتستغيث بآدم كما في حديث ابن عمر، وأنتم تمنعون من الاستغاثة بالحي فيما لا يقدر عليه، وكم كررتم أن كاشف الكربات ومزيل الغموم هو الله وحده ومن يطلبه من غيره فقد أشرك، وهذا ما دل الحديث على خلافه، فكيف زعمتم أن الحديث ليست في محل النزاع؟

فإن قلتم: استغاثتهم هذه من باب طلب الشفاعة وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وفيه “….وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام “.

وفي ذلك يقول ابن عبد الوهاب:”استغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف”([5]).

قلنا: هذا تسليم منكم بأن الشفاعة والاستغاثة كلاهما يراد منهما طلب الدعاء من المستغاث أو المتشفع به، فهما يأتيان لمعنى واحد إذن بدليل أن حديث ابن عمر السابق جاء بلفظ الاستغاثة وحديث أبي هريرة جاء بلفظ الشفاعة؛ وهذا ينقض مذهبكم من التفريق بين هذين اللفظين لغة وشرعا([6])، حيث أجزتم الشفاعة والتوسل بالدعاء، وأبطلتم الاستغاثة وجعلتموها شركا أكبر ولو كانت من قبيل طلب الدعاء، إلا بالحي فيما يقدر عليه، وأنكرتم([7]) من قبْل قولَ السبكي وغيره من أن الاستغاثة تؤول إلى الشفاعة والتوسل[8]، ثم سلمتم الآن بذلك؛ والمقصود بالاستغاثة أصلا من الحي أو الميت لا أن ينفّذ ما لا يقدر عليه إلا الله بل أن يدعو الله ليقضيه للمستغيث[9]، وهذا عين ما أنكرتموه، وهو عين ما حملتم عليه الحديث الحالي، فكيف يكون خارج محل النزاع؟!

فإن قلتم: لكن الاستغاثة بالميت بمعنى أن يدعو الله للمستغيث غير ممكنة عادة إذ الميت لا يسمع منْ دعاه.

قلنا: هذا غير مُسلَّم، بل إن الميت يسمع وهو في قبره كما جاءت بذلك الأحاديث ………انتظره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) صحيح البخاري(1405)، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثرا.

[2] انظر: شفاء السقام ص168.

([3]) فقد قال ابن عبد الوهاب في كشف الشبهات ص177، بتحقيق ناصر الطريم، ط1/ مطابع الرياض: والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه. فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها.اهـ وأما ابن قيصر الأفغاني ـ التكفيري الشتام ـ فانهال بسلسلة من الشتائم على من استدل بهذا الحديث، ومن جملتها قوله في كتابه جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (3 / 1257): إن القبورية في التشبث بهذه الآيات والأحاديث – محرفون الكلم عن مواضعه … وموردون للأدلة خارج محل النزاع. فهم في هذا الصنيع ملبسون، مدلسون، متلاعبون بالنصوص…كدأب أهل التحريف من اليهود.اهـ قال وليد: الله الموعد!!

[4] والمرء يحار من صنيع السلفية هذا، فهم إن استدل خصومهم عليهم بالكتاب والسنة أوسعهم السلفيةُ شتما بحجة أنهم حرفوا النصوص ووضعوها في غير موضعها، كما قالوا هنا في حديث الاستغاثة بآدم هنا، وإن استدل خصومهم عليهم بالعقل راح السلفيةُ يشتمونهم بحجة أنه تركوا الكتاب والسنة وأخذوا بالعقل والمنطق وفلسفة أرسطو…!! إذن خصومهم سواء احتجوا بالكتاب أو السنة أم لا فهم مذمومون على كل حال عند السلفية….!! ولا حول ولا قوة إلا بالله..!

([5]) كشف الشبهات لابن عبدالوهاب ص50

([6]) جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية – (3 / 1480).

([7])جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية – (3 / 1450)

[8] شفاء السقام 155، 165، 221، براءة الأشعريين 268.

[9] شفاء السقام ص166

السابق
[1] الدليل الثاني للسلفية على المنع من الاستغاثة: حديث “الدعاء هو العبادة”
التالي
(2) فتح العلّام في الرد على من قاس الاستغاثة بخير بالأنام على استغاثة المشركين بالأصنام.