حكم الاستغاثة ودعاء غير الله

الطوفي الحنبلي يذكر أن ابن الجزري (ت 711) يرد على ابن تيمية قوله “لا يستغاث برسول الله” وأن هذا خلاف الإجماع، ويقلب عليه استدلاله بآية “فاستغاثه الذي من شيعته” بأنه إن جاز الاستغاثة بالحي فبالميت من باب أولى من وجهين! وبيان أن إثبات الصوت لله يستلزم الجسمية.

قال الطوفي في «الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية» (ص479):
«{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (15) [القصص: 15] احتج به الشيخ شمس الدين الجزري شارح المنهاج في أصول الفقه على الشيخ تقي الدين ابن تيمية-فيما قيل عنه إنه قال: لا يستغاث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الاستغاثة بالله-عز وجل-من خصائصه وحقوقه الخاصة به؛ فلا تكون لغيره كالعبادة.
وتقرير الحجة المذكورة: أنه قال: يجب أن ينظر في حقيقة الاستغاثة ما هي، وهي الاستنصار والاستصراخ، ثم قد وجدنا هذا الإسرائيلي استغاث بموسى ‌واستنصره ‌واستصرخه بنص هذه الآيات، وهي استغاثة مخلوق بمخلوق، وقد أقر موسى عليها الإسرائيلي، وأقر الله-عز وجل-موسى على ذلك، ولم ينكر محمد صلّى الله عليه وسلّم ذلك لما نزلت عليه هذه الآية. أي فكان هذا إقرارا من الله-عز وجل ورسوله على استغاثة المخلوق

بالمخلوق، وإذا جاز أن يستغاث بموسى فبمحمد صلّى الله عليه وسلّم/ [321 ل] أولى؛ لأنه أفضل بإجماع.
ومما يحتج به على ذلك حديث هاجر أم إسماعيل حيث التمست الماء لابنها؛ فلم تجد، فسمعت حسا في بطن الوادي، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث. وهذا في معنى الاستغاثة منها بجبريل، وقد أقرها على ذلك ولم ينكره النبي صلّى الله عليه وسلّم عليها لما حكاه عنها.
ولأن اعتقاد التوحيد من لوازم الإسلام، فإذا رأينا مسلما يستغيث بمخلوق علمنا قطعا / [153 أ/م] أنه غير مشرك لذلك المخلوق مع الله عز وجل، وإنما ذلك منه طلب مساعدة، أو توجه إلى الله ببركة ذلك المخلوق، وإذا استصرخ الناس في موقف القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم في التخفيف عنهم، جاز استصراخهم بهم في غير ذلك المقام، وقد صنف الشيخ أبو عبد الله بن نعمان كتابا سماه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» واشتهر هذا الكتاب وأجمع أهل عصره على تلقيه منه بالقبول، وإجماع أهل كل عصر حجة، فالمنكر لذلك مخالف لهذا الإجماع.

فإن قيل: الآية المذكورة في قصة موسى والإسرائيلي ليست في محل النزاع من وجهين: أحدهما أن موسى حينئذ كان حيا، ونحن إنما نمنع من الاستغاثة بميت. الثاني أن استغاثة صاحب موسى به كان في أمر يمكن موسى فعله وهو إعانته على خصمه وهو أمر معتاد، ونحن إنما نمنع من الاستغاثة بالمخلوق فيما يختص بالله-عز وجل-كالرحمة والمغفرة والرزق والحياة، ونحو ذلك: فلا يقال: يا محمد، اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو أجبني أو أعطني مالا وولدا؛ لأن ذلك شرك بإجماع.
وأجيب عن الأول بأن الاستغاثة إذا جازت بالحي فبالميت المساوي-فضلا عن الأفضل-أولى؛ لأنه أقرب إلى الله-عز وجل-من الحي لوجوه:
أحدها: أنه في دار الكرامة والجزاء، والحي في دار التكليف.
الثاني: أن الميت تجرد عن عالم الطبيعة القاطعة عن الوصول إلى عالم الآخرة، والحي متلبس بها.
الثالث: أن الشهداء في حياتهم محجوبون، ويعد موتهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وعن الثاني: أن ما ذكرتموه أمر مجمع عليه معلوم عند صغير المسلمين-فضلا عن كبيرهم-أن المخلوق على الإطلاق لا يطلب منه ولا ينسب إليه فعل ما اختصت القدرة الإلهية به، وقد رأينا إغمار النار وعامتهم وأبعدهم عن العلم والمعرفة يلوذون بحجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يزيدون على أن يسألوا الشفاعة والوسيلة: [يا رسول]، اشفع لنا، يا الله ببركة نبيك اغفر لنا: فصار الكلام في المسألة المفروضة فضلا لا حاجة بأحد من المسلمين إليه

وإذا لم يمكن بد من التعريف بهذا الحكم خشية أن يقع فيه أحد، فليكن بعبارة لا توهم نقصا في النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا غضا من منصبه، مثل أن يقال: ما استأثر الله-عز وجل-بالقدرة عليه، فلا يطلب من مخلوق/ [322 ل] على الإطلاق أو نحو هذا ولا يتعرض للنبي صلّى الله عليه وسلّم سلب الاستغاثة عنه مطلقا ولا مقيدا، ولا يذكر إلا بالصلاة والسّلام عليه، والرواية عنه، ونحو ذلك.
هذا حاصل ما وقع في هذه المسألة، سؤالا وجوابا، ذكرته بمعناه وزيادات من عندي.
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (15) [القصص: 15] يحتج به المعتزلة في نسبة خلق الأفعال إلى المخلوق: لأن موسى نسب قتله القبطي إلى الشيطان بأنه من عمله.
وأجيب بأن معناه، هذا من جنس عمل الشيطان، أو مما وسوس به [وزينه] الشيطان ونحو ذلك، وإلا فقتل القبطي مخلوق لموسى عندكم [على] الحقيقة، وعندنا الله-عز وجل-فلم يبق للشيطان إلا التزيين والوسوسة، ولموسى إلا الكسب عندنا.

{قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (16) [القصص: 16] أي بكسب القتل عندنا وبخلقه عندهم.

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} (18) [القصص: 18] فسّر الاستغاثة السابقة بالاستنصار / [153 ب/م] والاستصراخ فدل على أنها مترادفة على معنى واحد، كما سبق ذكره.

{فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (30) [القصص: 30] يحتج بها الصوتية لأن المنادي هاهنا هو الله-عز وجل-بنفسه، بدليل {فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (30) [القصص: 30] والنداء لا يعقل إلا بحرف وصوت وأجاب الخصم باحتمال أن النداء بواسطة ملك حاك؛ لقوله: {فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (30) [القصص: 30] أو يكون موسى غاب عن حسه فأدرك النداء بلا صوت ولا حرف في الخارج كما يدرك النائم الكلام كذلك، ولو صح قول الصوتية للزم أن الله-عز وجل-جسم في ذاته أو أنه يتطور في الأجسام إذا شاء ويتخذها مظهرا له على رأي الحلولية أو الاتحادية، وإنه باطل؛ لأن الجسمية من لوازم الصوت قطعا.اهـ

»

السابق
تهمة_القبورية! (منقول)
التالي
وهكذا انتهيت مع الأخ عثمان المكي إلى أن جعلته يرضخ إلى أنه تعالى على العرش بلا مكان