مقالات في العقيدة وعلم الكلام

التكفير بالإلزام ـ أي لا يجوز لأن لازم المذهب ليس بمذهب ـ (كتبه إبراهيم العلفي)

التكفير بالإلزام

السبب الأكبر في تبادل الفرق الإسلامية التكفير هو الزام كل فرقة للأخرى بالزامات ترى انها نتاج طبيعي لأقوالها وهو ما يعرف في علم الأصول ب(لازم القول) أو (لازم المذهب).
ومسالة هل لازم المذهب مذهب أم لا مسالة خلافية شهيرة بين علماء الأصول اكثر المحققين من اهل العلم خاصة من اهل السنة يقررون ان لازم المذهب ليس بمذهب لا سيما اذا نفى صاحب القول لازم قوله المستشنع والمعتزلة اكثر تكفيرا لخصومهم بلازم الاقوال ولذلك كان اكثر اهل السنة لا يرون التكفير بالتأويل بخلاف المعتزلة ومنهم الزيدية الذين افرطوا في التكفير بالتأويل وقد ذكر ذلك الامام المؤيد بالله يحيي بن حمزة في كتابه القيم (التحقيق في الاكفار والتفسيق).

  • مثال للازم المذهب:
    ذكر الامام الشاطبي في (الاعتصام) مثالا بينا للإلزام المستشنع على الأقوال وهو قول الامام مالك رحمه الله (: من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم خان الرسالة وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة: أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟)
    ثم عقب قائلا:( إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا لأنه يقول : قصدت إليه قصدا لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ولازم المذهب : هل هو مذهب أم لا ؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا : أن لازم المذهب ليس بمذهب فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار فإذا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر فكذلك البدع) الاعتصام

** مناظرة قديمة عن الالزام بالمذهب:
من اكثر مايوضح فكرة التكفير بالإلزام المناظرة التي حدثت بين الامامين القاضي عبدالجبار الهمداني شيخ المعتزلة والعلامة ابي إسحاق الاسفراييني شيخ الاشاعرة عندما دخل الهمداني على الصاحب بن عباد وعنده الاسفراييني فلما رأى الهمداني الاسفراييني قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء .
فقال الاسفراييني فوراً : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء .
فقال الهمداني : أيشاء ربنا أن يُعْصَى ؟
فقال الاسفراييني: أيُعْصَى ربنا قهراً ؟
فقال الهمداني: أرأيت إن منعني الهدى ، وقضى عَليَّ بالردى ، أحسن إليّ أم أساء ؟
فقال الاسفراييني: إن منعك ما هو لك فقد أساء ، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء.)
وهو حاور واضح في التشنيع على المخالف بلازم المذهب وفي النهاية لا القاضي عبدالجبار قال ان الله يعصى قهرا ولا العلامة الاسفراييني قال ان الله لا يتنزه عن الفحشاء.

• من اشهر مسائل التكفير بالالزام:
1- القول ب(الجهة):
وهي مسألة افرط المعتزلة والاشاعرة في تكفير الحنابلة بها بحجة ان لازم القول بها نسبة الجسمية والحد والحدوث الى الله عز وجل.
يقول الامام بدرالدين الزركشي في (المنثور) :
(فان قيل يلزم من الاختلاف في كونه سبحانه وتعالى في جهة كونه حادثا قلنا لازم المذهب ليس بمذهب لأن المجسمة جازمون بأنه في جهة وجازمون بأنه قديم أزلي ليس بمحدث) المنثور في القواعد – الزركشي
فبين الزركشي رحمه الله أنه لا تلازم لأننا نعلم يقينا أن من يقول بالجهة(العلو) يعتقد قديما أن الله عز وجل ليس بمحدث مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يلتزم بالقول بالجسمية ولا الحد ولا غيرها .
ويقول الامام بن نجيم الحنفي في ذلك أيضا:
(بقي أن يقال في كون هذا موجبا للكفر نظر لأن غاية ما يلزم عليه إثبات الجهة ومثبتها مبتدع لا كافر وإن لزم منه الجسم لما تقرر أن لازم المذهب ليس بمذهب ) غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر

2- اثبات الصفات يقتضي تعدد القدماء :
حيث يقرر المعتزلة أن الله عز وجل عليم بعلم هو عين ذاته وهكذا في القدرة وغيرها ويعللون لذلك أن لازم القول بأن الله عليم بعلم وقدرة زائدتان على الذات يقتضي القول بتعدد القدماء وهذا يضاهي قول النصارى بالتثليث.

  • ويرد على ذلك الامام المؤيد بالله يحيي بن حمزة الزيدي المعتزلي ( من أشهر أئمة اليمن ت 749هـ) في كتابه (التحقيق في الاكفار والتفسيق) وهو كتاب حاول فيه التخفيف من غلواء التكفير بالتأويل ولازم المذهب،يقول رحمه الله:
  • ( الا ترى ان القائلين بالمعاني القديمة يلزمهم أنها تكون حاصلة على مثل صفات الله تعالى من القادرية والعالمية والحيية وأن تكون آلهة لاختصاصها بالصفات الإلهية لما كانت مشاركة له في القدم وهو أخص الصفات فهم اذا أنكروا ذلك فلا كفر به اجماعا وان التزموه كفروا بخروجهم به عن التوحيد كما نقول فيمن أثبت مع الله آلهة أخرى)
    فبين الامام المؤيد رحمه الله أن الزام المعتزلة لمن يثبت الصفات من أهل السنة باعتقاد تعدد القدماء الزام باطل فإن من يعتقد بوجود آلهة سوى الله عز وجل يعتقد في هذه الآلهة أنها مستحقة للعبادة والتعظيم ومن يثبت الصفات لا يعتقد شيئا من ذلك بل يعتقد أن الله هو وحده الخالق والمستحق للعبادة وهذه صفات اتصف بها ولم يزل.
    وفي ذلك يقول العلامة الحنبلي ابوالعلاء المرداوي نقلا عن البرماوي:( وشبهة المعتزلة: أن هذه الصفات إن كانت حادثة لزم قيام الحوادث بالقديم ، و قديمة لزم تعدد القديم ، والنصارى كفروا بالتثليث ، فكيف بادعاء تسمية الذات وثمان صفات ؟ وأجاب الرازي وغيره : أن النصارى عددوا ذوات قديمة لذاتها ، ونحن نقول : القديم واحد وهذه صفاته ، هي ممكنة في نفسها ، ولكن وجبت للذات لا بالذات ، فلا تعدد في قديم لذاته ، فلا قديم لذاته إلا الذات الشريفة ) التحبير شرح التحرير في أصول الفقه

3- نفي الصفات:
يقول الامام عضد الدين الإيجي في (المواقف):
(كفرت المعتزلة في أمور، الأول: نفي الصفات لأن حقيقة الله ذات موصوفة دائما بهذه الصفات الكمالية التي هي العلم والقدرة والحياة ونظائرها فمنكره أي منكر اتصافه بها جاهل بالله والجاهل بالله كافر
قلنا الجهل بالله من بعض الوجوه لا يضر وإلا لزم تكفير المعتزلة والأشاعرة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه أي لو كان الجهل بتفاصيل الصفات قادحا في الإيمان لكفر بعض الأشاعرة بعضهم فيما اختلفوا فيه من تفاصيلها وكذا الحال في معتزلة البصرة وبغداد فإنهم اختلفوا أيضا فيه)

4- نسبة القبيح الى الله تعالى:
وهو الزام تلزم به المعتزلة أهل السنة لقول اهل السنة بخلق أفعال العباد فيقولون يلزم من القول ان الله خالق الظلم وصفه بصفة الظالم ونسبة الظلم القبيح له وهكذا في باقي الأفعال
يقول الامام المؤيدبالله :(قولهم اذا كان الله تعالى هو فاعل لأفعال العباد على اصنافها ولا شك ان فيها الظلم والكذب والعبث،فاذا كانت واقعة بقدرة الله وخلقه وايجاده وجب ان يكون ظالما كاذبا عابثا ولا شك ان من جوز اطلاق ذلك فهو كافر)
ثم يرد المؤيد بالله على هذا الالزام بالقول:
(فهذا غير لازم لأمرين:أما أولا:فلأن الأسامي توقيفية……وأما ثانيا:فهب أننا سلمنا أنها غير توقيفية فانما لم نجز اطلاق هذه العبارات فلأنها توهم الخطأ في حقه فتوهم إما قيام الظلم به واما كونه مكتسبا له وما هذا حاله فلا يجوز اطلاقه مع ايهام الخطأ ثم لو قدرنا أن هذا الالزام متوجه عليهم لكنهم لم يلتزموه فلا يجوز اكفارهم)

5- تكفير من يكفر الصحابة (الرافضة):
والحجة في ذلك أن يلزم من يكفر بعض الصحابة (رض) أو أكثرهم انكار الصريح من القرآن الذي أثنى عليهم وشهد لهم بالايمان
ويرد على ذلك الامام المؤيد بالله في (التحقيق) قائلا:
(فهب أننا سلمنا ورود الثناء في الكتاب والسنة على أقوام معينين لكننا نقول ذلك مشروط بسلامة العاقبة ولم توجد سلامة العاقبة في حقهم فانهم اعتقدوا أنهم قد غيروا وحرفوا وبدلوا فلأجل هذا لم يكن القدح ردا للكتاب والسنة)
وهذا الكلام هو ذاته كلام الامام عضد الدين الإيجي في (المواقف) في التأويل للرافضة حيث يقول:( قد كفر الروافض والخوارج بوجوه الأول أن القدح في أكابر الصحابة تكذيب للرسول حيث أثنى عليهم وعظمهم
قلنا لا ثناء عليهم خاصة ولا هم داخلون فيه عندهم أو الثناء عليهم لشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم الثاني الإجماع على تكفير من كفر عظماء الصحابة
قلنا هو لا يسلم كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم الثالث قوله من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أحدهما قلنا آحاد والمراد مع اعتقاد أنه مسلم فإن من ظن بمسلم أنه يهودي أو نصراني فقال به يا كافر لم يكن ذلك كفرا بالإجماع) المواقف

والكلام في ذلك طويل الذيل نكتفي منه بما أردنا

والله من وراء القصد

كتبه /
إبراهيم العلفي
22/11/2016م

السابق
فائدة في الفرق بين الرحمن والرحيم
التالي
عمدا بترتُ الآيةَ منتظرا منك هذا الرد المتوقع، لأجيب بمثله عن الآيات المتشابهة التي تستشهدون بها وتبترونها