(23) “ابن تيمية وأتباعه وموقفهم من مذهب التفويض في الصفات”[1]
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/835149503219293
..ننتقل إلى قول أبي القاسم الأصبهاني حيث عقّب على قول ابن عيينة “كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره” فقال أبو القاسم: أي هو على ظاهره لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل “.
والجواب من وجهين:
أولا: إن قول ابن عيينة :”كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره” من أوضح الواضحات فمعناه عينُ ما قاله وهو أن:”كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره”؛ وعليه فلا يحتاج إلى توضيح لا من الأصبهاني ولا من غيره ….وإلا فإن احتاج الواضح إلى توضيح فهذا يستلزم توضيحَ كلامِ أبي القاسم الأصبهاني الذي وضّح به كلام ابن عيينة الواضح مهما كان كلامُ أبي القاسم واضحا … وهكذا إلى ما لا نهاية …. وهذا عبث وسفسطة …!!!
ثانيا: قد يكون المراد بالظاهر في كلام أبي القاسم : ” هو على ظاهره ….” ظاهر اللفظ كما سبق بيان ذلك في كلام الأزهري والخطابي؛ ويؤيد ذلك قول أبي القاسم الأصبهاني نفسه في كتابه الحجة في بيان المحجة (1/ 459) في سياق كلامه عن المحكم والمتشابه: “وقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]؛ قال أهل التفسير : معنى آمنا به : صدقنا به ، ولم يقل علمناه….”اهـ
ثم ساق ما ينصر القولَ بأن المتشابه لا يعرفه الراسخون بالعلم، فقال في الحجة في بيان المحجة (1/ 459): وقال قوم : لو كان الراسخون يعلمون تأويله ، لم يكن في القرآن متشابه ، وكان جميعه محكمًا ، وقد أخبر الله تعالى : أن فيه محكمًا ، وفيه متشابهًا؛ لأنه لو حمل على العطف اقتضى إضافة هذا القول إلى الله يعني قوله : آمنا به ، ولا يجوز إضافة ذا القول إلى الله تعالى . فإذا قيل : إذا كان كذلك ولا يعلم تأويله ، فما الفائدة فيه ؟ قيل : الفائدة فيه اختبار العباد ليؤمن به المؤمن فيسعد ويكفر به الكافر فيشقى ؛ لأن سبيل المؤمن إذا قرأ من هذا شيئاً أن يصدق ربه ولا يعترض فيه بسؤال وإنكار فيعظم ثوابه .اهـ
فأنت ترى أن الأصبهاني صرّح ورجّح بأن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله.
لا يقال: ولكن الأصبهاني لم يقل بأن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
لأننا نقول: بل صرح بذلك فقال في الحجة في بيان المحجة (2/ 257) /طبعة دار الراية، تحقيق د.محمد أبو رحيم[2] : فصْل؛ قال أهل السنة : الإيمان بقوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) واجب ، والخوض فيه بالتأويل بدعة . قالوا: وهو من الآيات المتشابهات التي ذكرها الله تعالى في كتابه ورد علم تأويلها إلى نفسه، وقال : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) فأوجب الإيمانَ بقوله ( الرحمن على العرش استوى ) وبالآيات التي تضارع هذه الآية ، ومدح الراسخين في العلم بأنهم يؤمنون بمثل هذه الآيات ، ولا يخوضون في علم كيفيتها…[3]اهـ
وأما قول الذهبي في كتاب العلو: وكما قال سفيان وغيره “قراءتها تفسيرها”، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف….اهـ
فيقال هنا ما قلناه للتو وهو أن كلام سفيان : “قراءتها تفسيرها” واضح وضوح الشمس في رابعة النهار فلا يحتاج إلى توضيح لما سبق بيانه…. هذا أولا.
ثانيا: إن الذهبي قد صرح بخلاف ذلك في كتاب آخر، فقال في سير أعلام النبلاء (8/ 105) تعليقا على إنكار الإمام مالك لبعض أخبار الصفات: قلتُ (أي الذهبي): أنكر الإمامُ ذلك، لأنه لم يثبت عنده، ولا اتصل به، فهو معذور… إلى أن يقول الذهبي: فقولنا في ذلك وبابه: الاقرار، والامرار، وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم.اهـ
فتأومل قوله “وتفويض معناه” ….وهذا أولى من كلامه في كتابه العلو الذي ألفه في أوله حياته ثم رجع عنه كما قيل[4]، وهذا على مذهب الخصم أظهر؛ إذ لطالما احتج الخصمُ علينا بما زعمه من رجوع بعض الأشاعرة عن مذهبهم آخر حياتهم، كما زعموا ذلك في الأشعري نفسه، وإن كان هذا الزعم غير صحيح كما هو موضح في موضع آخر[5].
وبذلك نكون فندنا استدلال الخصم بهذه النصوص الأربعة وأثبتنا أنه استدلال باطل شكلا ومضمونا كما سبق بيانه.
وأنتقل إلى قول ابن تيمية ” فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة “
والجواب : أن هذا غير لازم….وانظر اللاحق:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/724286471018711/
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر السابق:
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/834691166598460/
[2] ومن ص110 بالترقيم العادي، و113 بالترقيم الآلي للبي دي إف من الجزء 16 من مخطوطة الحجة في بيان المحجة، الموجودة على شبكة الألوكة، انظرها على:
http://www.alukah.net/library/0/18565/
[3] وهذا عكس مذهب ابن تيمية الذي زعم أن آية الاستواء ونحوها من آيات الصفات الخبرية: آياتٌ محكمة. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1140)؛ و
http://www.dorar.net/enc/firq/291
ولكن لأبي القاسم الأصبهاني مواضع أخرى في كتاب الحجة ربما تخالف التفويضَ الذي ذهب إليه أعلاه؛ فمثلا يقول في تتمة الكلام على آية الاستواء في الحجة في بيان المحجة (2/ 275): قَالَ أهل السّنة: الاسْتوَاء هُوَ الْعُلُوّ: قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] وَلَيْسَ للاستواء فِي كَلَام الْعَرَب معنى إِلَّا مَا ذكرنَا، وَإِذا لم يجز الْأَوْجه الثَّلَاثَة لم يبْق إِلَّا الاسْتوَاء الَّذِي هُوَ مَعْلُوم كَونه مَجْهُول كيفيته، واستواء نوح عَلَى السَّفِينَة مَعْلُوم كَونه مَعْلُوم كيفيته لِأَنَّهُ صفة لَهُ، وصفات المخلوقين مَعْلُومَة كيفيتها. واستواء الله عَلَى الْعَرْش غير مَعْلُوم كيفيته لِأَن الْمَخْلُوق لَا يعلم كَيْفيَّة صِفَات الْخَالِق لِأَنَّهُ غيب وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله، وَلِأَن الْخَالِق إِذا لم يشبه ذَاته ذَات الْمَخْلُوق لم يشبه صِفَاته صِفَات الْمَخْلُوق فَثَبت أَن الاسْتوَاء مَعْلُوم، وَالْعلم بكيفيته مَعْدُوم فَعلمه موكول إِلَى الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله} .اهـ
فأنت ترى أن الأصبهاني بعد أن ذهب إلى أن آية الاستواء متشابهة لا يعلم معناها إلا الله، وذلك حين قال: ” وهو من الآيات المتشابهات التي ذكرها الله تعالى في كتابه ورد علم تأويلها إلى نفسه”، وحين قال أيضا: ” قال أهل التفسير : معنى آمنا به : صدقنا به ، ولم يقل علمناه “.اهـ كما في النص أعلاه…. رَجع فذهب إلى أن الاستواء هو العلو الحسي لأنه فسّر الاستواء المنسوب إلى الله بالاستواء المنسوب إلى نوح عليه السلام في سورة “المؤمنون”…!!!!
فكيف جَمع الأصبهانيُّ بين قوله بأن آيةَ الاستواء المنسوب إلى الله متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله…وبين زعمه بأن الاستواء هو العلو واستشهاده على ذلك بآية الاستواء المنسوب إلى البشر؟!!!!!
إلا أن يقال إنه قَصد بالتشابه والتأويل: الكيفية؛ أي أنها متشابهة من حيث الكيفية التي لا يعلمها إلا الله، وهذا هو التأويل المنفي عن الراسخين في العلم على أحد الوجهين في الآية… لذلك قال الأصبهاني : “ومدح الراسخين في العلم بأنهم يؤمنون بمثل هذه الآيات ، ولا يخوضون في علم كيفيتها” وقال أيضا : ” فَثَبت أَن الاسْتوَاء مَعْلُوم، وَالْعلم بكيفيته مَعْدُوم فَعلمه موكول إِلَى الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله} “. اهـ
فإن كان هذا مراده فهو أشد تهافتا وإشكالا؛ إذ إن إثبات الاستواء لله بالمعنى الحسي هو نفسه تكييف لله كما هو موضح في موضع آخر، فكيف يَزعم بأن الراسخين في العلم لا يخوضون في علم كيفيتها ؟!!!!
على كلٍ : فإن ما وقع للأصبهاني في كتابه الحجة في هذه الموضع وغيره بحاجة إلى مزيد نظر وبحث … قد نعود إليه لاحقا بعونه تعالى.
[4] انظر مقدمة العلو للشيخ حسن السقاف ص69
[5] انظر مقالا بعنوان: أسطورة رجوع الإمام ابي الحسن الأشعري!
على: