التأويل

تفسير الإمامين الرازي والقرطبي لقوله تعالى قوله تعالى: فإنما يقول له كن فيكون

تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (4/ 25)

 اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى: فإنما يقول له كن فيكون [آل عمران: 47] هو أنه تعالى يقول له: كن فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه. الأول: أن قوله: كن فيكون إما أن يكون قديما أو محدثا والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على كن إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قديما لوجوه. الأول: أن كلمة كن لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون، فالنون لكونه مسبوقا بالكاف لا بد وأن يكون محدثا، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثا. الثاني: أن كلمة إذا لا تدخل إلا على سبيل الاستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثا لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله كن مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال: فإنما يقول له كن والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون: كن قديما. الثالث:

أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله: كن بفاء التعقيب فيكون قوله: كن مقدما على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثا فقوله: كن لا يجوز أن يكون قديما، ولا جائز أيضا أن يكون قوله: كن محدثا لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: كن وقوله: كن أيضا محدث فيلزم افتقار: كن آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله: كن.

الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود، والأول: باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه، والثاني: أيضا باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجودا وذلك أيضا لا فائدة فيه.

الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جمادا، وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم.

الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات، فإذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله: كن فإما أن يتمكن من الإيجاد والإحداث أو لا يتمكن، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفا على قوله: كن وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ.

الحجة الخامسة: أن كن لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير، ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.

الحجة السادسة: أن كن كلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدما على النون، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما، فإن كان الأول لم يكن لكلمة كن أثر ألبتة، بل التأثير لأحد هذين الحرفين، وإن كان الثاني فهو محال، لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلا، وحين جاء الثاني فقد فات الأول، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.

الحجة السابعة: قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران: 59] بين أن قوله: كن متأخر عن خلقه إذا المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: كن في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب، وإذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل وهو من وجوه:

الأول: وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض: فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [فصلت: 11] من غير قول كان منهما لكن على سبيل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال: سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء: 44] . الثاني: أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا يحكى ذلك عن أبي الهذيل. الثالث: أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة خاسئين [البقرة: 65] ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم. الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول.اهـ

وقال الإمام القرطبي في تفسيره لآية {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة: 117]:  وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجئ بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة” كن”: هو قديم قائم بالذات. وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل: ففي أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة: أحدها- أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات.

الثاني– أن الله عز وجل عالم بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم. الثالث- أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، كقول أبي النجم:
قد قالت الأتساع للبطن الحق

ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقول عمرو بن حممة الدوسي:
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه … إذا رام تطيارا يقل له قَع
وكما قال الآخر:
قالت جناحاه لساقيه الحقا … ونجيا لحمَكما أن يُمزقا

السابق
اختلاف السلف والسلفية في تأويل حديث “أتيته هرولة ” ينقله الدبيخي من الوهابية
التالي
(2)وأين الذين تنمروا علينا وراحوا ينقلون لنا نصوص أئمتنا الأشاعرة كالغزالي والعز والتفتازاني … فهل هذا هو العقل والضرورة والفطرة وعقيدة العوام التي يحدثنا عنها ابن تيمية والوهابية ؟!!![1]