الدرس الرابع والثلاثون
الخوض في المتشابهات
أمثلة على حجج الزائغين عن الحق الخائضين في المتشابهات (تتمة الدرس الماضي)
- قولهم في مسألة الاستواء : إن الاستواء باق على حقيقته، يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم الجرمية والتحيز. وقـولهـم بعـد ذلك: ليس هذا الاستواء على ما نعرف، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم الجرمية والتحيز.
فكأنهم يقولون: إنه مستو غير مستو، أو متحيز غير متحيز، وجسم غير جسم، أو الاستقرار فوق العرش ليس هو الاستقرار فوقه، إلى غير ذلك من الإسفاف
والتهافت . نعم، إن أرادوا بقولهم: (الاستواء حقيقة) أنه على حقيقته التي يعلمها الله تعالى، ولا نعلمهـا نحـن، فقـد اتفقنا، لكـن يبقى أن تعبيرهـم هـذا مـوهـم ولا يجوز أن يـصـدر عـن مـؤمن خصوصاً في مقام التعليم، وفي موقف النقاش والحجاج، لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز، لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده، ولكن ينظر إلى المعنى الذي وضـع لـه اللفظ في عرف اللغة، والاستواء لغة: يدل على ما هو مستحيل على الله تعالى في ظاهره، فـلا بـد ـ إذن ـ مـن صرفه عن هذا الظاهر.
واللفظ إذا صرف عمـا وضـع لـه واستعمل في غير ما وضع له خرج عن الحقيقة ـ لا محالة ـ إلى المجاز، ما دامت ثمة قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. ثـم إن كلامهـم هـذا عـلى هذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم، فكيف يواجهونهم به، وفي ذلـك مـن الإضلال وتمزيق الأمـة مـا فيه؟ الأمر الذي نهانا القـرآن الـكـريـم عـنه، والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بابن صبيغ، وجعل مالكاً يقـول مـا يقـول، كـا مرّ في بحث سابق). ولو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الأخبار والآيات المتشابهات، واكتفوا بتنزيه الله تعالى عـا تـواهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه، وفوضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله تعالى وحده، لكنهم لم يسلكوا في النصوص المتشابهة مسلكاً واحداً: فتراهم يجنحون إلى تأويـل بعـضها، كقوله تعالى: «وهو معكم أين ماكنتم ﴾ [الحديد: 4]. وقوله تعالى: ( ونحن أقرب إليه منكم ) [الواقعة: 85]. وقوله تعالى: ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾ [الأنعام: 3].
ويتركون بعضها الآخر على ظواهرها، ابتغاء إثبات ما وقر في أنفسهم من عقيدة الجهة لله تعالى.
ولم يأتوا إلى النصوص المتشابهة وهـم منزهون، بـل هـم قـد اعتقدوا عقيدة وأرادوا إثباتها، فراحوا يتلمسون النصوص التي يوهم ظاهرها تأييداً لعقيدتهم.
أدلة تهافت مسلكهم
1 ـ إن الأخذ بظاهـر النصوص يـوجب تناقضاً، وتشبيها لله تعالى بالحوادث، وإليك أمثلة ذلك:
في النصوص الموهمة بالجارحة، قال العلامة فخر الدين الرازي في كتابه [ أساس التقديس]: واعلم أن نصوص القرآن لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه: الأول: أن ظاهـر قـوله تعالى: ﴿ ولتصنع على عيني )[طـه: 39]. يقتضي أن يكـون موسى الله مستقراً على تلك العين ملتصقاً بها مستعلياً عليها، وذلك لا يقوله عاقل.
والثاني: أن قوله تعالى: « واصنع الفلك بأعيننا» [هود: 37]. يقتضي أن تكون آلة تلك الصنعة الأعين.
والثالث: أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح، فثبت أنه لا بد من المصير إلى التأويل، أي يصرف النص عن ظاهره المحال في حقه تعالى. ويقال لهم: إذا كنتم تعملون النصوص على ظواهرها حقيقة فأخبرونا: أَله عين أم أعين؟!. كذلك ما تقولون في: قوله تعالى: «يد الله فوق أيديهم ﴾ [الفتح: 10 ] بإفراد اليد. وقوله تعالى: «لما خلقت بيدي ﴾ [ص: 75] بتثنيتها. وقوله تعالى: ( والسّماء بنيناها بأييد ﴾ [الذاريات: ٤٧])
بجمعها. أله يد أم يدان أم له أيد؟!. ويقال أيضاً: إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها، فكيف توفقون بين هذه النصوص.
في النصوص الموهمة للجهة:
أ ـ ورد من الآيات التي يوهم ظاهرها أنه سبحانه وتعالى في السماء: قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى ﴾ [طه: 5]. وقوله: « بل رفعه الله إليه » [النساء: 158]. وقوله: «أأمنتم من في السماء ﴾ [الملك: 16]. وقوله: « وهو القاهر فوق
عباده) [الأنعام: 18].
ب ـ ومن الآيات التي يوهم ظاهرها أنه سبحانه وتعالى في الأرض: قوله تعالى: « وهو الله في السموات وفي الأرض ﴾ [الأنعام: 3]. وقوله: «وهو الذى في السماء إله وفي الأرض إله ﴾ [الزخرف: 84]. وقـوله: «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ [ق:16]. وقوله: «وهو معكم أين ماكنتم ) [الحديد: 4]. وقوله: ﴿ وإذا سألك عبـادي عني فإني قريب ﴾ [البقرة: 186]. وقوله: «فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [البقرة 115]. وقوله : ( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون )[الواقعة: 85]. أفتقولون: إنه في السماء حقيقة، أم في الأرض حقيقة، أم فيها معاً حقيقة؟ وإذا كان في الأرض وحدها حقيقة، فكيف تكون له جهة الفوق؟ وإذا كان فيها حقيقة، فلـماذا يقال: لـه جهـة الفوق، ولا يقال له جهة التحت؟! ثم ألا تعلمون أن الجهات أمور نسبية، فما هو فوق بالنسبة إلينا يكون تحتاً بالنسبة إلى غيرنا؟ فأين تذهبون؟!.
وإن رامـوا تأويل القسم الثاني من الآيات حتى يوافـق اعتقادهم الجهـة الله سبحانه فيسألون: كيف تسوغون تأويـل بعـض النصوص مع ترك النصوص الأخرى على ظاهرها، مع أنها كلها متشابهة، ومستحيلة الظاهر في حقه سبحانه؟!
أضف إلى ذلك أنه يلزمهم التأويل في كل النصوص إن أولوا بعضها، والعجيب أنهـم قـد أتـوا إلى النصوص التي تهدم معتقدهم فأولوها بما يتناسب مع أهوائهم، وإلى النصوص التـي يـوهم ظاهرها تأييداً لما انطـووا عليه من اعتقاد الجهـة الله سبحانه فتشبثوا بها، ولم ينظروا إلى النصوص المتشابهة كلها نظرة واحدة، كما عليه السلف والخلف ، بحيث يعتقدون استحالة ظواهـرهـا عـلى الله تعالى، ويفوضون المعاني المرادة منها إلى الله تعالى كما عليه السلف، أو يؤولونها كما هي طريقة الخلف. والحـق أنـه لـيس أحـد مـن الـسلف فعـل مـا فـعـلـوه، ولا أحد من الخلف ذهب إليه. كذلك وردت بعض الأحاديث الشريفة المتشابهة التي منها ما يوهم ظاهره بأنه سبحانه في السماء، ومنها ما يوهم ظاهره أنه تعالى في الأرض، فيقال فيها كما سبق وبيناه في الآيات، وإليك بعضها:
أ ـ قال رسول اللہ ﷺ: «ينزل ربنا تبارك وتعالى في ثلث الليل الأخير…» الحديث”” . وقد سأل ﷺ جارية مرة فقال لها: «أين الله»؟ فأشارت بإصبعها السبابة إلى السماء ).
ب ـ وقال ﷺ: «أقرب ما يكون العبد من ربه هو ساجد، فأكثروا الدعاء». وقال أيضاً: «إذا كـان أحـدكـم يـصـلي فـلا يبصق قبل وجهه، فإن الله ﷺ قبل
وجهه إذا صلى»
ويقال لمعتقدي الجهـة: كيف تأخذون بظاهر حديث النزول، وجلي أن الليل مختلف في البلاد لاختلاف المشارق والمغارب، وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولاً حقيقياً في ثلث ليلهم الأخير، فمتى يستوي على عرشه حقيقة ـ كما يزعمون ـ لأن الأرض لا تخلـو مـن لـيـل في وقت من الأوقات، وهذا لا يماري فيه إلا جهول، كذلك لو كان جل جلاله كما زعموا في جهة، فكيف يكون فيها ويكون بين المصلى وقبلته؟ وكم من المصلين في الزمن الواحد في أقطار الأرض مختلفين متباينين؟.
يتبع……..
انظر اللاحق