مقالات قيمة في التفويض

[7] ابن تيمية ومذهب التفويض في الصفات

خامسا: أثر أبي جعفر الترمذي: “النزول معقول، والكيف مجهول”

قال الخطيب البغدادي: حدّثني الحسن بن أبي طالب قال: نبّأنا أبو الحسن منصور بن محمد بن منصور القزاز قال: سمعت أبا الطيب أحمد بن عثمان السمسار والد أبي حفص بن شاهين (ت 327هـ)[1] يقول: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا … “، فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علوّ؟!، فقال أبو جعفر الترمذي: “النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”[2].اهـ

قال وليد: الواقع أن هذا القول إن صح عن أبي جعفر الترمذي ففيه أمران:الأمر الأول: أنه يغاير سائر الآثار السابقة الواردة ـ لا سيما الصحيحة ـ عن مالك وغيره، فمعظمها ورد بصيغة: والكيف غير معقول، أو “وكيف عنه مرفوع”.وأما لفظ “الكيف مجهول” فلم ترد إلا في روايتين ضعيفتين عن ربيعة، ورواية موضوعة عن وهب بن منبه كما سبق بيانه.

هذا بالنسبة للشطر الثاني وهو”والكيف مجهول”؛ وأما بالنسبة للشطر الأول وهو: “النزول معقول” فيغاير الشطرَ الأول المروي في كل الروايات السابقة عن مالك وغيره وهو: “الاستواء غير مجهول”؛ وكأن أبا جعفر الترمذي أراد أن يقلد الإمامَ مالك في جوابه عن الاستواء فيجيب السائلَ بنحوه عن نزول الباري؛ ولكن أبا جعفر تصرف باللفظ كما ترى، لأنه لم يضبطه عن مالك رحمه الله، فرواه بالمعنى الذي ظنه أنه مساو للفظ مالك، فقال: “النزول معقول”؛ بينما كان المفروض أن يقول: “النزول غير مجهول”..!!

ويؤيد ذلك أن أبا جعفر الترمذي مع أنه ثقة مأمون ناسك كما قال الدارقطني، إلا أنه هذا اختلط بآخره، فقد جاء في ترجمته في تاريخ بغداد (2/ 233): وكان قد اختلط في آخر عمره اختلاطا عظيما[3].اهـ ويعزز هذا أيضا ما ذكره الدارقطني عن أبي جعفر الترمذي أنه قال “وسمعت مسائلَ مالك وقولَه”؛ ثم حكى أبو جعفر أنه اختار فيما بعد مذهبَ الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ وأتقنه بعد منام رأى فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشجّعه على ذلك[4]، ثم قال أبو جعفر الترمذي:” فخرجت فى أثر هذه الرؤيا إلى مصر وكتبت كُتب الشافعى”.

فواضح أن أبا جعفر سمع في أول أمره بأقوال مالك ومسائله، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي وعكف على كتب الإمام الشافعي بعد أن سافر إلى مصر ليأخذها من موطنها الجديد ومن تلامذة الإمام الشافعي، ومن ثَمّ ليتقنها ويصير إمام الشافعية في وقته كما قال الدارقطنى عنه: ولم يكن للشافعيين بالعراق أرأس منه ولا أشد ورعًا، وكان من التقلل فى المطعم على حال عظيمة فقرًا، وورعًا، وصبرًا على الفقر.اهـ[5]

وفرق كبير بين أن يَسمع مسائلَ مالك وأقواله سماعا عابرا في أول أمره، وبين أن يسافر إلى مصر ليعكف على كتب الشافعي ويكتبها ويصير إماما في مذهبه، فلا شك أنه إن حكى أو حاكى قولَ مالك ولو بالمعنى فلن يضبطه لا سيما إذا طال به العهد بما سمعه من أقوال مالك، وهذا كله بخلاف ما لو حكى مذهبَ الشافعي، فإنه سيكون ضابطا له تماما لكونه أتقنه غاية الإتقان حتى صار إمام الشافعية في العراق كما تقدم.الأمر الثاني ـ وهو الأهم ـ : أن جواب أبي جعفر الترمذي هذا في النزول لا ……انتظره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/469397416507619/

[1] انظر : تاريخ بغداد؛ ت : د. بشار عواد (5/ 488)

[2] تاريخ بغداد (2/ 234) . وأورده الذهبي في العلوّ، وقال الألباني – رحمه الله -: “وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات … ” انظر: مختصر العلوّ للألباني (ص:232)، والعلو للذهبي بتحقيق السقاف ص506.

[3] وانظر أيضا: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 188)

[4] قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/ 203): وذكر الدارقطنى عن أبى جعفر الترمذى، قال: كتبت الحديث تسعًا وعشرين سنة، وسمعت مسائل مالك وقوله، ولم يكن لى حسن رأى فى الشافعى، فبينا أنا قاعد فى مسجد النبى – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالمدينة، إذ غفوت غفوة، فرأيت النبى – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فى المنام، فسألته عن الأئمة إلى أن قلت: يا رسول الله، أكتب رأى مالك؟ فقال: منا وافق حديثى، قلت: أكتب رأى الشافعى؟ فطأطأ رأسه شبه الغضبان لقولى، وقال: ليس هذا بالرأى، هذا رد على من خالف سنتى، فخرجت فى أثر هذه الرؤيا إلى مصر وكتبت كُتب الشافعى.اهـ

[5] ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن أبا جعفر الترمذي هذا غير أبي عيسى الترمذي صاحب السنن؛ فالأول كما قال الذهبي سير أعلام النبلاء ط/ الرسالة (13/ 545) :هو: الإمام، العلامة، شيخ الشافعية بالعراق في وقته، أبو جعفر محمد بن أحمد نصر الترمذي، الشافعي….توفي سنة خمس وتسعين ومائتين (295هـ).اهـ وفي تهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 202): كان فقيهًا، فاضلاً، ورعًا، سديد السيرة.اهـوأما أبو عيسى الترمذي فهو محمد بن عيسى بن سَوْرة ، صاحب سنن الترمذي، توفي سنة (279هـ). فكلاهما من مدينة تِرمِذ، إلا أن أبا عيسى محدّث ومتقدم الوفاة، وأبو جعفر فقيه شافعي ومتأخر الوفاة عن أبي عيسى بـ 16 سنة؛ رحمهما الله تعالى.

وانظر أيضا :

السابق
(3) “حسن المقالة في حديث كل بدعة ضلالة”
التالي
سلسلة افتراءات وجهالات وتلبيسات الدكتور الوهابي فركوس: