(13) التقرب إلى الله زلفى في تفسير قوله تعالى “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى”*
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/453457751434919/
وهنا تجدر الإشارة إلى أمر هام جدا وهو أنه على الرغم من أن المشركين ارتكبوا شناعات وقبائح كثيرة، إلا أنه ليست كل هذه الشناعات والقبائح في سلة واحدة، أو بعبارة أخرى ليس كلها شركا كما ظن ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب وأتباعه؛ بل في الأمر تفصيل، فاتخاذهم الأصنام وتسميتها آلهة وأربابا من دون الله وعبادتهم لها وادعاؤهم فيها النصر والتدبير والضر والنفع والتأثير الذاتي ونحو ذلك: كله كفر وشرك أكبر.
وأما ادعاؤهم أن لها الجاه والمنزلة والشفاعة وأنها يُتوسل بها فهذا ليس شركا بحد ذاته كما ظن ابن عبد الوهاب ومن تبعه، ذلك لأن الشفاعة والوسيلة والجاه والمنزلة كلها أمور ثابتة شرعا من حيث الجملة، حيث ثبتت للأنبياء ولاسيما سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وثبتت أيضا للشهداء والأولياء والصالحين، كما سيأتي الدليل على ذلك؛ وإنما قَبُح ذلك من المشركين لأنهم نسبوا الشفاعة للأصنام كذبا وافتراء على الله وتقليدا أعمى لآبائهم، إذ إن الله لم يجعل لهذه الأصنام الشفاعة، وإنما هي كما قال تعالى عنها: { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم : 23]، لذلك نفى الله عنها الشفاعة فقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43]، فحين يتوسلون بمنزلتها إلى الله فمن أنبأهم أن لهذه الأصنام منزلة عند الله أصلا؟ وبم نالت هذه الأصنام المنزلة؟ ومَن أذِن لها بالشفاعة حتى تشفع؟ وماذا فعلت من الخيرات حتى يحبها الله ويقضي حوائج من عبَدها أو توسل بها؟!! كيف ؟ وهي مجرد جمادات وحجارة صماء لا تُحرك ساكنا؟ إن كل هذا محض افتراء من المشركين؛ لأن هذه الأصنام نحتوها بأيديهم من الحجارة أو التمر أو الذهب ثم اتخذوها آلهة تقليدا لآبائهم الجهلاء ، ثم ادعوا لها الشفاعة والمنزلة عند الله افتراء عليه.
إذن ليس كُفر المشركين ولا التشنيع عليهم أصالة من أجل التوسل والشفاعة بالأصنام كما ادعى ابن عبد الوهاب ومن تبعه[1]، بل كفرهم جاء بسبب اتخاذهم الأصنام آلهة وأربابا، ثم عبادتها من دون الله، ووصْفِها بصفات الربوبية من الخلق والنفع والضر الذاتي، وأما التوسل والشفاعة بالأصنام فهو وإن كان كفرا وشركا ولكن ليس من أجل التوسل بحد ذاته ولا من أجل الشفاعة بحد ذاتها بل لأنهم اتخذوها آلهة وأربابا من دون الله ثم زعموا لها الشفاعة افتراء منهم على الله؛ وعليه فلا يصح إناطة الكفر وربط الشرك بشفاعة المشركين وتوسلهم بالأصنام، وذلك لأمرين:
الأول: إن المشركين ارتكبوا صنوفا كثيرة من الكفر الصريح الذي لا يختلف فيه اثنان مثل تكذيبهم لله ورسوله ومحاربتهما والطعن في القرآن وقولهم إنه شعر وسحر، وتكذيبهم باليوم الآخر، وقولهم إن الملائكة بنات الله وسبّهم لله تعالى إلى غير ذلك مما سبق بيانه؛ وأما التوسل والشفاعة فمشروعان من حيث الجملة حتى عند ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وإن نازعا في بعض جزئياته وجعلا تلك الجزئيات شركا وأناطوا شرك المشركين بها؛ ولكن هذا لا يُسلّم لهما كما سيأتي، فتعليقُ كفر المشركين على تكذيبهم لله ورسوله ومحاربتهم لدينه ونسبة الولد إلى الله وإنكار البعث واليوم الآخر ونحو ذلك مما هو متفق على حصوله من المشركين ومتفق على كفر فاعله أولى من تعليق كفرهم على أمور مختلف فيها، بل بعضها جائز اتفاقا من حيث الجملة.
الثاني: إن المشركين كانوا يتخذون الأصنام آلهة وأربابا من دون الله وليس شفعاء فحسب، بل جعلوها أنددادا لله وساووها برب العالمين كما قال تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 98] ، فإذا كانت الأصنام عندهم تساوي الله فأي شفاعة هذه التي يتشفعون بها إلى الله؟ ومعلوم أن الشفيع أدنى منزلة من المشفوع عنده، فاتضح أن المشركين كاذبون في ادعائهم أنهم يتشفعون إلى الله بالأصنام بل هم يعبدونها ولا يتشفعون بها فحسب، لذلك كذّبهم الله في نفس آية الزمر كما سبق.
وكذّبهم اللهُ أيضا في آيات أخرى منها قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18]؛ قال القرطبي: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) وهذه غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال… وقيل: المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميّز ” ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فيَكذِبون، وهل يتهيأ لكم أن تنبئوه بما لا يعلم([2]).اهـ وقال القرطبي أيضا عند قوله تعالى {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس : 3]: فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل([3]).اهـ
وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر : 43 ، 44] قال الطبري عند هذه الآية: ” قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، ولا يعقلون شيئا، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك، وتشفع لكم عند الله، فأخلصوا عبادتكم لله، وأفردوه بالألوهة، فإن الشفاعة جميعا له، لا يشفع عنده إلا من أذن له، ورضي له قولا، وأنتم متى أخلصتم له العبادة، فدعوتموه، وشفّعكم ([4]).اهـ فانظر إلى قول الطبري “أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون”، ففيه إشارة إلى كذبهم في اتخاذهم الأصنام شفعاء لهم كما سبق بيانه.
والحاصل أن سبب إنكار الله على المشركين هنا هو ما زعموه من أن أصنامهم تلك تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى، وهذا محض كذب وافتراء منهم وتقليد لآبائهم الجهلاء.
وليس سبب إنكار الله على المشركين هنا ادعاءهم مطلق الشفعاء عند الله، لأن الله نفسه أثبت الشفاعة للأنبياء والأولياء وغيرهم حتى ولو عُبدت من دون الله بدليل قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف : 86]، قال قتادة: “الملائكة وعيسى وعُزير، قد عُبِدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة”([5]).
وقد جاء هذا صريحا في قوله تعالى عن الملائكة:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 28] قال الطبري: فأثبت جَلّ ثناؤه للملائكة وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه([6]).
وقال القرطبي في قوله تعالى: (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه):وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى([7]).
والحاصل أن الشفاعة لا يجوز أن تكون محل إنكار، لأنها ثابتة بالكتاب والسنة للأنبياء والأولياء والملائكة والصالحين والشهداء، فكل هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهل يُقال إن هذا القول شرك لأنه عين قول المشركين عن أصنامهم؟!!!
فإن قلتم: إن الشفاعة المثبتة للأنبياء وغيرهم هي في الآخرة فلا يجوز سؤالها من النبي في الدنيا بعد ….انظر اللاحق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/775805125820398/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/452076194906408/
[1] جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية – (1 / 286، 414)، (2 / 1026، 1034)، (3 / 1292)
([2]) تفسير القرطبي، ط/ الرسالة – (10 / 470، 471)، وانظر: جامع البيان (15 / 46)
([3]) تفسير القرطبي، ط/ الرسالة – (10 / 452)
([4]) جامع البيان للطبري (21 / 299)
([5]) جامع البيان (21 / 654)
([6]) جامع البيان (21 / 655)
([7]) تفسير القرطبي ط الرسالة – (4 / 271)