[1] (( تحقيق ما اتُهم به ورُمي ، عثمان بن سعيد الدارمي ))
(مقال لأحد الإخوة في موقع الأصلين)
إخواني الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أكتب هذا للمهتمين من طلاب العلم بقضايا الاعتقاد والدفاع عن السنة ، وأنا مضطر هنا لتوجيه كلامي لمن يعرفون كتاب النقض على بشر المريسي والمنسوب إلى أبي سعيد عثمان بن سعيد الدرامي، وكل ما نقوله عن النقض فهو صادق على الكتاب الآخر المنسوب له والمسمى بالرد على الجـهـمـية .
وقبل الولوج في لجج الكلام يحسن التنبيه إلى أمر هام ، وهو أن الإمام الدارمي صاحب السنن غير الدارمي الذي نحن بصدد الحديث عنه وعن كتابيه، فصاحب السنن هو الإمام عبدالله بن عبدالرحمن بن بهرام السمرقندي الدارمي الحافظ المتوفى سنة 255هـ ، وأما صاحبنا فستأتي ترجمته، فلينتبه إلى هذا.
إخواني ، تعلمون جميعا ما حواه كتاب النقض من عبارات ، وهذا يغنيني عن سردها هنا لتذكيركم بها ، وبسببها تم منعه من قبل الأزهر الشريف لما ظهر أول مرة، ولم يجاوز ظهوره حدود نجد، وقد تصدى لتفنيد ما فيه إبان ظهوره العلامة المحقق الأستاذ الزاهد الكوثري رحمه الله، وكلامه على هذا الكتاب مسجل في كتبه ومقالاته الشهيرة فليراجعها من شاء، ثم اختفى الكتاب مدة ليعود قريبا مطبوعا مجددا في نجد!! هذا مع أن من فيهم ميل إلى شيء من الحشو قد اعترفوا بأن الكتاب يشتمل على ما يسمونه (مبالغات) !!
فيقول الحافظ الذهبي رحمه الله عن هذا الكتاب:
(( وفي كتابه بحوث عجيبة مع المريسي يبالغ فيها في الإثبات ، والسكوت عنها أشبه بمذهب السلف في القديم والحديث )) اهـ
ثم إليك كلمة الألباني عن هذا الكتاب إذ يقول:
(( لا شك في حفظ الدارمي وإمامته في السنة ، ولكن يبدو من كتابه ( الرد على المريسي ) أنه مغال في الإثبات ، فقد ذكر فيه ما عزاه الكوثري إليه من القعود والحركة والثقل ونحوه!! وذلك مما لم يرد به حديث صحيح ، وصفاته تعالى توقيفية فلا تثبت له صفة بطريق اللزوم مثلا كأن يقال : يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة ، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق فالله ليس كمثله شيء فتأمل ن ))اهـ
كلام الألباني .
وأنتم تدركون تماما ـ أيها الإخوة ـ ماذا تعني كلمة الذهبي : ( يبالغ في الإثبات ) وكلمة الألباني : ( مغال في الإثبات ) ولا أدري ما معنى المبالغة والمغالاة لإثبات شيء غير ثابت باعتراف الألباني ؟!! فهل من المنطقي أن يقال بأنه يبالغ في الإثبات إذا كان ما يثبته ليس بثابت أصلا ؟؟!! إن المبالغة في إثبات ما ليس بثابت لا يجوز أن يقال عنها بأنها ( مبالغة في الإثبات ) بل هي مبالغة في الكذب والافتراء على الله .
والآن أيها القراء الكرام دعونا نتجاوز الحديث عما هو معروف من حال الكتاب للموافق والمخالف لنلقي الضوء على أمر آخر، وهذا الأمر الآخر قد كنت كتبت فيه كتابات تفرقت على صفحات النت، وهأنا أجدد كلمتي هذه فاحفظوها، لاسيما وأنا من المتصدين حاليا لمباحثة أهل الحشو، ولا أحب أن يحفظ عني أو ينسب إلي ما لم أقله قط من تضليل إنسان أو تكفيره، ودعوني أطرح هذا السؤال عليكم :
هل نملك الدليل الصحيح على صحة نسبة هذا الكتاب المليء بالحشو إلى أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي ؟؟؟؟؟ .
لعلكم تدركون تمام الإدراك أن توجيه أمثال العلامة الكوثري الطعن والتهمة بالتجسيم والتشبيه والحشو للدارمي أو نسبته إلى المبالغة كما يقول الذهبي أو المغالاة كما يرى الألباني إنما كان سببه تصور ثبوت نسبة كتاب النقض المذكور إلى الدارمي، وبالتالي فهو مؤاخذ بما فيه، فالطعن في الدارمي فرع عن صحة نسبة الكتاب المذكور برمته إليه، والسؤال القائم أمامنا الآن : هل لدينا الدليل الصحيح على ثبوت الكتاب برمته على عثمان بن سعيد الدارمي ؟؟؟.
عندما كنت أقرأ حملة الأستاذ الكوثري على الدارمي ضمن حملته على كتاب النقض المنسوب للدارمي أحببت أن أطالع ترجمة هذا الدارمي وأرى ماذا يقول العلماء فيه، ودعوني أختار لكم هنا ترجمة الدارمي لا أقول من كتب ابن تيمية أو ابن القيم لا، ولا حتى من كتب الذهبي وابن كثير، سأنقلها من كتاب (( طبقات الشافعية الكبرى )) للإمام الحافظ التاج السبكي رحمه الله ، قال:
(( عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد السجستانى الحافظ أبو سعيد الدارمى محدث هراة وأحد الأعلام الثقات ومن ذكره العبادى فى الطبقات قائلا الإمام فى الحديث والفقه أخذ الأدب عن ابن الأعرابى والفقه عن البويطى والحديث عن يحيى بن معين قلت كان الدارمى واسع الرحلة طوف الأقاليم ولقى الكبار سمع أبا اليمان الحمصى ويحيى الوحاظى وحيوة بن شريح بحمص وسعيد بن أبى مريم وعبد الغفار بن داود الحرانى ونعيم بن حماد وطبقتهم بمصر وسليمان بن حرب وموسى بن إسماعيل التبوذكى وخلقا بالعراق وهشام بن عمار وطائفة بدمشق روى عنه أبو عمرو أحمد بن محمد بن الحيرى ومؤمل بن الحسن الماسرجسى وأحمد بن محمد الأزهرى وأبو النضر محمد بن محمد الطوسى الفقيه وحامد الرفا وأحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفى وخلق ومن مشايخه فى الحديث أحمد بن حنبل وعلى بن المدينى وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وشيخه فى الفقه البويطى قال أبو الفضل يعقوب الهروى القراب ما رأينا مثل عثمان بن سعيد ولا رأى هو مثل نفسه وعن عثمان الدارمى من لم يجمع حديث شعبة وسفيان ومالك وحماد بن زيد وابن عيينة فهو مفلس فى الحديث يعني أنه ما بلغ رتبة الحفاظ فى العلم قال شيخنا الذهبى ولا ريب أن من حصل علم هؤلاء وأحاط بمروياتهم فقد حصل على ثلثى السنة أو نحوها توفى الدارمى رحمه الله فى ذى الحجة سنة ثمانين ومائتين قال الذهبى ووهم من قال سنة اثنتين وثمانين وللدارمى كتاب فى الرد على الجهمية وكتاب فى الرد على بشر المريسى ومسند كبير وهو الذى قام على محمد بن كرام الذى تنسب إليه الكرامية وطردوه عن هراة )) اهـ .
هذا مختصرا.
انظروا إلى هذه الترجمة التي أوردها الإمام الحافظ التاج السبكي ماذا ترون فيها ؟؟ هل ترون طعنا عليه ورميا بالتجسيم ؟؟ لا ، بل نجد فيها ما قيل من أنه هو من أخرج محمد بن كرام السجستاني المجسم من هراة ، وهذه منقبة للدارمي ، نعم ذكر التاج نسبة كتاب النقض إليه ولكنه لم يشنع عليه ولم يرمه بالتجسيم والتشبيه ! فماذا يعني هذا ؟؟ هل يعني أن السبكي راض عن كتاب النقض ؟ كلا قطعا ، فنحن نجزم أن التاج لا يمكن أن يرضى عن كتاب كهذا ولا عن مؤلفه، وأقرب شيء عندي أن التاج نسب الكتاب للدرامي تبعا لشيخه الذهبي لا غير، والظاهر أنه لم يطالع هذا الكتاب الذي وقف عليه شيخه الذهبي ووصفه بما تقدم من اشتماله على ( مبالغة ) ولو كان التاج قد اطلع على هذا الكتاب لما ترك الكلام والتعليق عليه بما يستحق كما فعل ذلك في تراجم متعددة من الطبقات، والآن هل مجرد نسبة التاج السبكي الكتاب للدارمي تعني ثبوت نسبة الكتاب لأبي سعيد الدارمي ؟؟؟ .
كلا أبدا ، فإننا نعرف أن نسبة كتاب معين لمؤلف معين لا تعني بالضرورة الاطلاع على صحة تلك النسبة، فكم من مؤرخ قلد من قبله في بناء التراجم ونسبة الكتب، فتقليد السبكي لشيخه الذهبي في نسبة كتاب النقض للدارمي أمر لا بعد فيه أبدا، بالإضافة إلى أن التساهل في نسبة الكتب للمؤلفين مما هو معروف عن أهل القرن السابع فضلا عمن بعدهم كما سجله عليهم الحافظ ابن الصلاح والنووي وغيرهما ، فإنهم يقولون قال فلان، وألف فلان، وهذا التصنيف لفلان، لمجرد وجود نسخة تحمل اسمه!! لكن هل هذه النسخة تتوفر لها شروط النسخة الصحيحة تلك الشروط التي نص عليها علماء مصطلح الحديث؟؟ هذا شيء آخر لم يمنع المؤرخين والمعتنين بالتراجم والطباق من التساهل في نسبة الكتب للمؤلفين، ثم قد تصح هذه النسبة وقد لا تصح ، نعم كان هذا حال كثير من المعتنين بالعلم في القرن السابع الهجري بشهادة مثل ابن الصلاح والنووي فكيف يكون حال من جاء بعدهم ؟؟ وهذا شيء معروف حاصل، وعليه فهل تسجيل كتاب النقض ضمن مؤلفات أبي سعيد الدارمي يكفي لإدانته ؟؟؟؟
الجواب: لا، لا يكفي وإن وجدنا نسبة هذا الكتاب إليه عند التاج السبكي وشيخه الذهبي، بل وعند ابن القيم وابن عبدالهادي وابن كثير وشيخهم ابن تيمية، بل ولا يكفي كذلك وجودها عند الحافظ ابن حجر وتلميذه السخاوي ولا غيرهم من أمثال الزاهد الكوثري والمعلمي والألباني، فكل هؤلاء اعتمد بعضهم على بعض في نسبة الكتاب للدارمي ، وما عسى الكوثري أو الألباني أو غيرهما أن يصنع وهو يرى كل هؤلاء المؤرخين والمترجمين يذكرون أن النقض هو من تآليف أبي سعيد الدارمي ؟! إن مكانة هؤلاء ربما دفعت من جاء بعدهم إلى تقليدهم، والإعراض عن التفحص والتحقق من نسبة الكتاب إلى الدارمي تأثرا بهم ، ولكن هل هذا هو المنهج الصحيح؟؟ لو كان كذلك فما بالنا لا نرضى بتصحيح حديث أو تضعيفه حتى نرجع إليه بأنفسنا لنلمس صحته من ضعفه طبقا لما بين أيدينا من قواعد عظيمة هي زبدة علم عظيم من علوم المسلمين علم الرجال والجرح والتعديل؟! على أن مجرد عد كتاب من الكتب ضمن مؤلفات إنسان ما لا يعني تصحيح نسبة الكتاب إليه كما أسلفنا فافترق هذا عن مسألة تصحيح حديث أو تضعيفه من هذا الوجه .