الاجتهاد والتقليد واللامذهبية عند الوهابية

وجوب قص ما زاد عن القبضة من اللحية عند الألباني، والحويني يحكم بشذوذ قوله هذا!!

«الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات» (1/ 301):
«‌‌المبحث العاشر: وجوب قص ما زاد عن القبضة من اللحية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ محل الشذوذ
المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين
المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول
المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة

(يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل).
الشاطبي – رحمه الله – الموافقات (2/ 289)

‌‌المطلب الأول: صورةُ المسألةِ، وتحريرُ مَحَلِّ الشُّذوذِ:
القبضة لغة: مصدر قبض يقبض قبضاً، والقبض ضد البسط، ومنه قول الله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}، وقوله: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}، ويدل القبض: على التجمع في الشيء، وعلى شيء مأخوذ، و على جمع الكف على الشيء، (والقبضة: ما أخذت بجمع كفك كله، فإذا كان بأصابعك فهي القبصة)، ومنه قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}، أي: (أخذت ملء كفي من تُرَاب موطئ فرس جِبْرِيل -عليه السلام-.
والقبضة في الاصطلاح لا تختلف عن القبضة في اللغة وقرّبها بعضهم بأنها: (أربع أصابع مضمومة)، والقبضة من المقادير التي يُقدّر بها في مواضع يسيرة في الفقه منها: الأخذ من اللحية، وفي بعض مواضع الإطعام كما روي عن عمر، وابنه عبدالله -رضي الله عنهم- في صيد المحرم للجراد بأن فيه: (قبضة من طعام).
‌‌_
(1) انظر: مقاييس اللغة (5/ 50).
(2) من الآية (245) من سورة البقرة.
(3) من الآية (19) من سورة الملك.
(4) انظر: مقاييس اللغة (5/ 50)، لسان العرب (7/ 213 – 214).
(5) لسان العرب (7/ 214).
(6) من الآية (96) من سورة طه.
(7) غريب القرآن للسجستاني ص (376 – 377).
(8) حاشية ابن عابدين (1/ 196)، وانظر: أسنى المطالب (4/ 202)، وجاء في كشاف القناع (1/ 44): (والشبر ثلاث قبضات، والقبضة أربع أصابع).
(9) انظر: موطأ مالك (235)، مصنف عبدالرزاق (8244)، مصنف ابن أبي شيبة (15627)، السنن الكبرى للبيهقي (10012)، وجاء عن عمر -رضي الله عنه- أن فيها تمرة، قال ابن قدامة في المغني (3/ 441): (وعن أحمد: يتصدق بتمرة عن الجرادة. وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر. وقال ابن عباس: قبضة من طعام … والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير، وإنما أرادوا أن فيه أقل شيء)

====================

والمقصود بقدر القبضة في اللحية: (هو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد على قبضته قطعه).
ومما هو مهمٌ في فهم المسألة: معرفة مذاهب العلماء، وتحرير قول الأئمة الأربعة خاصة، في اللحية والسنة فيها، وحكم الأخذ منها، وهذا هو البيان المختصر لها:

  • السنة في اللحية عند الحنفية: ألا تجاوز القبضة فما زاد عن قبضته سُنّ له جزه، قال ابن عابدين: (قال أصحابنا: الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر والقص سنة فيها، وهو أن يقبض الرجل لحيته فما زاد منها على قبضة قطعها، كذلك ذكر محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة قال: وبه نأخذ)، وعند الحنفية قول غير مشهور بوجوب الأخذ تأوله بعضهم؛ لإشكاله على المذهب، قال ابن نجيم: (وقد صرح في النهاية [شرح الهداية] بوجوب قطع ما زاد على القُبضة بالضم، ومقتضاه الإثم بتركه)، فقال بعضهم: أن المقصود (يحب) وليس (يجب)، ورُد ذلك بأنه خلاف الظاهر والمعهود في مثله استمعال (يستحب)، وقال الحصكفي: (إلا أن يُحمل الوجوب على الثبوت)، قال ابن عابدين: (يؤيده أن ما استدل به صاحب
    ‌‌_
    (1) الاختيار لتعليل المختار (4/ 176) وقال: (لأن اللحية زينة وكثرتها من كمال الزينة وطولها الفاحش خلاف السنة).
    (2) منحة الخالق (3/ 12)، وانظر: البناية شرح الهداية (2/ 74)، رد المحتار (2/ 214).
    (3) البحر الرائق (2/ 303)، وصاحب النهاية هو السغناقي، ومن تلاميذ السغناقي الكاكي، انظر: العناية شرح الهداية (1/ 6)، وقد تابع الكاكي شيخه في هذه المسألة وقال بالوجوب. انظر: البناية شرح الهداية (4/ 27).
    (4) الدر المختار ص (148)

=====================

النهاية لا يدل على الوجوب … ولذا حذف الزيلعي لفظ يجب وقال وما زاد يقص)، وقال في منحة الخالق: (وظاهر قول الهداية: (ولا يفعل لتطويل اللحية إلخ) يفيد الكراهة).

  • وعند المالكية: لابأس بالأخذ من اللحية إذا طالت، بحيث خرجت عن المعتاد لغالب الناس، فيقتصر على ما تحسن به الهيئة، قال ابن عبدالبر: (روى أصبغ عن بن القاسم قال سمعت مالكاً يقول: لا بأس أن يأخذ ما تطاير من اللحية وشذ، وقال: فقيل لمالك: فإذا طالت جداً فإن من اللحى ما تطول؟ قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر)، قال النفراوي: (وحكم الأخذ الندب ف (لا بأس) هنا لما هو خير من غيره، والمعروف لا حد للمأخوذ)، هذا هو المعروف عند المالكية، قال العدوي: (ومقابل المعروف ما قاله الباجي: إنه يقص ما زاد على القبضة).
  • وعند الشافعية: أن الأخذ المستحب إنما هو في النسك لمن لم يكن له شعر، قال الشافعي: (وإن كان الرجل أصلع، ولا شعر على رأسه، أو محلوقاً، أمرّ الموسى على رأسه، وأحب إليّ لو أخذ من لحيته، وشاربيه حتى يضع من شعره شيئاً لله)، قال النووي: (ونقله الأصحاب واتفقوا عليه)، واعترض على ذلك بعضهم.
    ‌‌_
    (1) حاشية ابن عابدين (2/ 418).
    (2) (2/ 302).
    (3) الاستذكار (8/ 429).
    (4) الفواكه الدواني (2/ 307).
    (5) حاشية العدوي (2/ 445).
    (6) الأم (2/ 232).
    (7) المجموع (8/ 201).
    (8) قال الماوردي في الحاوي (4/ 163): (ويستحب أن يأخذ من شعر لحيته وشاربه، وإن لم يجب عليه … ومنع ابن داود من ذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإعفاء اللحية) انتهى، أي منع من الاستحباب ولا يلزم منه التحريم، و (ابن داود) أظنه محمد بن داود الصيدلاني الشافعي (ت 427) وله شرح على مختصر المزني، ولعل النقل الآتي فيه زيادة إيضاح قال الجويني في نهاية المطلب (4/ 306): (ونقل الصيدلاني عن الشافعي مع استحباب ما ذكرنا، استحبابَ الأخذ من الشارب، أو اللحية. ولست أرى لهذا وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثرٍ)
  • ======================
  • وأما في غير النسك؛ فلم أقف على نص فيه للشافعي، ونقل عنه العراقي بأنه خلاف الأولى، وصرّح النووي ومن بعده من الشافعية بالكراهة، قال النووي: (الصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً بل يتركها على حالها كيف كانت)، قال الهيتمي: (ظاهر كلام أئمتنا كراهة الأخذ منها مطلقاً).
  • وأما الحنابلة: فيجوز عندهم الأخذ مما زاد عن القبضة قال المرداوي: (ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة. ونصه: لا بأس بأخذ ذلك. وأخذ ما تحت حلقه. وقال في المستوعب: وتركه أولى. وقيل: يكره)، والكراهة وجه في المذهب.
  • أما نص أحمد فكما نقله المرداوي وغيره، و كما قال الخلال: (أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق [بن هانئ] حدثهم قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»؟ قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها ومن تحت حلقه)، وروى نحو ذلك
    ‌‌_
    (1) قال في طرح التثريب (2/ 83): (الأولى ترك اللحية على حالها وأن لا يقطع منها شيء، وهو قول الشافعي وأصحابه).
    (2) المرجع السابق (1/ 290).
    (3) تحفة المحتاج (9/ 376).
    (4) الإنصاف (1/ 121).
    (5) الترجل ص (114)، والوقوف والترجل ص (129)، وفي النقل عن ابن هانئ بعض الاضطراب في حكايته فعل أحمد: (ورأيت أبا عبدالله يأخذ من طولها)، فهي هكذا في رواية الخلال في المطبوع من الجامع لعلوم الإمام أحمد، وكذلك في كتاب الترجل بتحقيق: د. عبدالله بن محمد المطلق، وكتاب الوقوف والترجل بتحقيق: سيد كسروي حسن، يرويها الخلال عن محمد بن أبي هارون عن ابن هانئ، لكن في مسائل ابن هانئ المطبوعة بتحقيق الشاويش (2/ 152) برواية جعفر بن محمد القافلاني عن ابن هانئ: (ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه)، وهي التي نقلها ابن مفلح في الفروع (1/ 151) بقوله: (وأخذ أحمد من حاجبيه وعارضيه، ونقله ابن هانئ)، وتبعه من بعده من الأصحاب على هذا النقل ولم يفرعوا على هذا النقل حكماً، كما فرّعوا على الأخذ من القبضة؛ ولابد من الترجيح بين الروايتين لاتحاد المخرج والألفاظ، والذي ظهر لي ترجيح رواية محمد بن أبي هارون (من طولها)؛ لأن هذا هو الموافق للسياق حيث سئل أحمد عن الأخذ من عرضها؟ فأجاب بالأخذ من الطول، وحكى فعل ابن عمر في الروايات الأخرى وأخذه من القبضة، والأصل عدم مخالفة فعله لقوله، وعدم مخالفة ما يرويه عن ابن عمر، ولأن الأخذ من القبضة هو الذي فرّع عليه الأصحاب حكماً ونصوا على حكمه ولم أقف عند الحنابلة على حكم الأخذ من العارض، ولذلك أثبت في الجامع لعلوم الإمام أحمد الذي جمعه خالد الرباط وسيد عزت (13/ 380) لفظة: (طولها) مع أنه ينقل من مسائل ابن هانئ المفردة وهي التي رجعت إليها، فقد يكون ذلك خطأ وهذا أقوى، أو ترجيحاً منهم، أو أنهم وقفوا على نسخة فيها ذلك لكنهم لم يبينوا!، وهنا احتمال آخر للمنقول، وهو أن الإمام أحمد يرخّص في الأخذ مما زاد عن القبضة سواء كانت من الطول أو العرض وهذا يجمع بين الروايات، وإن كان لفظه هو في الترخيص من الأخذ من الطول، وأما الأخذ من العارض فهي محتملة من فعله، والفعل لا يصح نسبة المذهب فيه للإمام، وخاصة إذا تعارض مع نصه، والله أعلم

===============

حرب عن الإمام أحمد.

  • وخالفهما حنبل بن إسحاق فأغرب، حيث روى الخلال قال: (أخبرني عبد الله بن حنبل قال حدثني أبي قال: قال أبو عبد الله: ويأخذ من عارضيه، ولا يأخذ من الطول. وكان ابن عمر يأخذ من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، لا بأس بذلك)، وهذا مخالف للثابت عن ابن عمر- وعن أحمد، وحنبل بن إسحاق
    ‌‌_
    (1) أخرجه الخلال قال: (أخبرني حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه .. ). الترجل ص (113)، الوقوف والترجل ص (129).
    (2) الوقوف والترجل ص (130)
  • ==================

قال عنه الذهبي: (له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب)، ولذلك قال الألباني عن هذه الرواية: (هذه الرواية شاذة؛ إن لم أقل: منكرة عن الإمام أحمد).

  • ويمكن تلخيص المذاهب السابقة بما قاله القاضي عياض: (وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرةُ في تعظيمها وتحليتها؛ كما تُكره في قصِّها وجزّها، وقد اختلف السلف هل لذلك حَدٌّ؟ فمنهم: من لم يُحدِّد إلا أنه لم يتركها لحدِّ الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدًا، ومنهم: من حدَّد، فما زاد على القبضةِ فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا فى حج أو عُمرة).
    وبعد: فهذا هو تحرير محل الشذوذ، وتبيين محل النزاع في المسألة:
  1. نُقل الإجماع على تحريم حلق اللحية.
  2. وقيل عن الأخذ من اللحية بما دون القبضة: (لم يبحه أحد).
  3. واتفقوا على عدم تحريم أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية وخاصة
    ‌‌_
    (1) سير أعلام النبلاء (13/ 52).
    (2) السلسلة الضعيفة (13/ 439).
    (3) إكمال المعلم (2/ 64)، ونقله النووي في شرح مسلم (2/ 64).
    (4) انظر: مراتب الإجماع ص (157)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 299).
    (5) فتح القدير للكمال ابن الهمام (2/ 347)، ونقله غير واحد من الحنفية كابن عابدين في حاشيته (2/ 418)، ونُقل قوله: (لم يبحه أحد) في الموسوعة الفقهية الكويتية (35/ 225) عن ابن عابدين، في سياق الاستدلال بالإجماع، وفيه بعض التأمل؛ لما سبق من تقرير مذهب المالكية

===================

في النسك، وذهب بعض المعاصرين إلى تحريم الأخذ من اللحية مطلقاً، وذهب بعض المعاصرين في مقابله إلى وجوب أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية، وعدّ تركها من البدع، وهذا هو الرأي المراد بحثه وتحقيق نسبته للشذوذ من عدمه.
‌‌_
(1) هذا هو القدر المشترك، فقد صحت روايات بعضها مقيدة في النسك ومحددة في القبضة، وبعضها مطلقة غير محددة ولا مقيدة، ولم ينكر على ذلك منهم أحد فكان إجماعاً على عدم التحريم.
(2) أول من وقفت عليه يصرّح بالتحريم هو الشيخ محمد بن إبراهيم كما في فتاويه (2/ 53)، قال علوي السقاف في مقال له بعنوان: “مسألة الأخذ من اللحية وتقصيرها” منشور في موقعه الدرر السنية: (أقوال أهل العلم في جواز الأخذ مما زاد عن القبضة كثيرة جداً، ولم يأت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين -فيما أعلم- تحريم ذلك)، وقال الدبيان في “موسوعة أحكام الطهارة” (3/ 397): (والقول بتحريم أخذ مازاد على القبضة قول شاذ، لا أعلم أحداً من السلف قال به)، وقال عبدالله الجديع في كتابه “اللحية دراسة حديثية فقهية” ص (308): (ولم أجد من ذكر منع مسها وتهذيبها في رأي من سلف، سوى شيء شاذ محدث في زماننا)، وقد سبق قريباً في تحرير رأي الشافعية، رأي محمد بن داود الصيدلاني الشافعي الذي ظن بعضهم أنه الظاهري، وأنه سلف لمن قال بالمنع، وهو إنما كان في سياق استحباب الأخذ من اللحية في النسك فمنع هو من الاستحباب

========

‌‌المطلب الثاني: القائلون بهذا الرأي من المعاصرين:
القائل بهذا الرأي من المعاصرين هو:
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420) -رحمه الله
-.

‌‌المطلب الثالث: وجه شذوذ هذا القول:

  • هو ما قاله تلميذه أبو إسحاق الحويني: (فتوى وجوب الأخذ
    ‌‌_
    (1) ذكر في سلسلة الأحاديث الضعيفة (5/ 5): (أن إعفاءها مطلقاً هو من قبيل ما سماه الإمام الشاطبي بـ “البدع الإضافية”) انتهى، وقد فصل ذلك في مواضع من هذه السلسلة منها: (5/ 375)، وله تصريح بوجوب أخذ مازاد عن القبضة كما في تسجيل صوتي منشور في الشبكة بعنوان: (حكم الأخذ من اللحية … نقاش علمي مع أبي إسحاق الحويني)، قال في الدقيقة (41: 20): (القول بالوجوب هو نتيجة هذا التسلسل العلمي المنطقي)، ولما قال أبو إسحاق الحويني في بداية النقاش عند الدقيقة (33): (بالنسبة لفتوى وجوب الأخذ من اللحية لكم)، قال الألباني: (نعم)، ثم قال أبو إسحاق: (هل يوجد في السلف من قال بوجوب أخذ ما زاد عن القبضة)، والنقاش حول هذه القضية، وهو نقاش ماتع مفيد، علماً أن الألباني في هذه المناقشة لم يذكر له سلف في هذا الرأي.
    (2) اشتُهر بهذا اللقب وهو من لقّب نفسه بذلك، والحويني نسبة إلى قريته (حوين) التي ولد فيها، واسمه: (حجازي بن محمد شريف) ولد عام (1375)، وبعد طلبه للعلم لزم دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي لأربع سنوات، ورحل للشيخ الألباني عام (1407)، وله قصة وحكاية في بداية ارتباطه بالألباني حكاها في كتابه تنبيه الهاجد (1/ 8_20) قال في بداية القصة: (فما أعلم أحداً -بعد والديّ- له عليّ يد مثل شيخنا الإمام، حسنة الأيام، وريحانة بلاد الشام، أبي عبدالرحمن محمد بن ناصر الدين الألباني … إذ الإطلاع على كتبه كان فاتحة الخير العميم لي)، وقد أثنى عليه الشيخ الألباني -رحمه الله- في عدد من المواضع كما في السلسلة الصحيحة (2/ 720): فقد وصفه بأنه من الأقوياء في علم الحديث، وقال (5/ 585): (ونبه على ذلك صديقنا الفاضل أبو إسحاق الحويني في كتابه القيم … )، وقال أيضا في السلسلة الصحيحة (7/ 1677): (أعترف له بالفضل في هذا العلم)
  • ==========================

من اللحية مما يجب تركه من فتاوى الشيخ … وهذه الفتيا بوجوب الأخذ ليس له فيها سلف يقيناً، إنما الاقتصار على القول بأن ابن عمر كان يأخذ وهذا فعل لا قول … وأنا -وهذا مبلغ علمي- أرى أن هذه الفتوى شاذة).
‌‌_
(1) هذا الكلام منشور في الشبكة في تسجيل صوتي بعنوان: (أسئلة وأجوبة] 2 [) لأبي إسحاق الحويني، عند الدقيقة (35: 15) منه، واللقاء موجود في موقع إسلام ويب، صوتياً ومفرغاً

===================

‌‌المطلب الرابع: الأدلة والمناقشة، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أدلة القائلين بمشروعية الأخذ مطلقاً أو في النسك خاصة ولم يروا وجوب الأخذ:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1/ قول جابر بن عبدالله -رضي الله عنه-: «كنا نُعفي السِّبالَ إلا في حجٍّ أو عمرة»، وقال عطاء بن أبي رباح (ت 114): (كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)، وقال إبراهيم النخعي
‌‌_
(1) أخرجه أبوداود (4201)، قال: حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان، وقرأه عبد الملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير، عن جابر به، وسكت عنه أبوداود، قال ابن حجر في الفتح (10/ 350): (وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة … السِبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سَبَلة بفتحتين: وهي ما طال من شعر اللحية)، وقد تعقبه الحويني في بذل الإحسان (1/ 172) بقوله: (كذا قال! وأبو الزبير مدلسٌ، وقد عنعنه)، فأشار إلى إعلاله بعنعنة أبي الزبير، وهذا غير مقبول حتى يثبت تدليسه هنا أو مخالفته أو نكارة ماذكره، وقد أخرج مسلم في صحيحه لأبي الزبير المكي عن جابر أكثر من (130) حديثاً كلها معنعنة وأكثرها من غير طريق الليث، ولم يتعقبه الدارقطني في “الإلزامات والتتبع” إلا في حديث واحد ولم يذكر في إعلاله العنعنة أو التدليس.
(2) عطاء بن أبي رباح واسم أبيه (أسلم القرشي مولاهم)، أحد الأعلام من التابعين في مكة، لقي جمعاً من الصحابة وروى عنهم، وكان من أعلم الناس بالمناسك، ومن المحدثين الفقهاء، ونُقل في صفته أنه كان مفلفل الشعر، أسود أفطس أشل أعور ثم عمي، ومما يدل على كثرة من لقيه من الصحابة قوله كما في سنن البيهقي الكبرى (2455): (أدركت مائتين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المسجد … )، غير الذين لقيهم في الحج وقد حج أكثر من سبعين حجة، ومات سنة (114) هـ -رحمه الله-. انظر: طبقات الفقهاء ص (69)، سير أعلام النبلاء (5/ 78).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (25482) وسنده صحيح يرويه غندر عن شعبة عن منصور سمعت عطاء به

==============

(ت 196): (كانوا يطيبون لحاهم، ويأخذون من عوارضها)، وروي عن الحسن البصري (ت 110) قوله: (كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها).
وجه الاستدلال:

  • أن قول جابر -رضي الله عنه-: (كنا) يحتمل الرفع إن أضيف لزمن النبوة، أو الإجماع لإضافته للصحابة، يؤكد ذلك حكاية عطاء والحسن عنهم أيضاً بقولهما: (كانوا)، ثم حكاية النخعي عن التابعين بقوله (كانوا)، وقد قال النخعي: (ماقلت لكم: كانوا يستحبون، فهو الذي أجمعوا عليه)، ولعله يريد أصحاب ابن مسعود، والأخذ (في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج؛ لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج؛ لأنهم أمروا أن
    ‌‌_
    (1) إبراهيم بن يزيد النخعي، فقيه العراق، رأى عائشة وهو صغير، ولقي كبار التابعين، وكان بصيراً بعلم ابن مسعود -رضي الله عنه- لايخرج عن قوله وقول أصحابه كما ذكر ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (6/ 146)، و ابن مسعود لايكاد يخالف عمر -رضي الله عنه- كما نقله ابن القيم في الإعلام (1/ 16)، مات سنة 96 هـ. انظر: السير (4/ 520)، الكاشف (1/ 227).
    (2) أخرجه ابن أبي شيبة (25490)، والبيهقي في شعب الإيمان (6018) من طريق سفيان عن منصور عن إبراهيم به، وسنده صحيح، وقد صحح الألباني أثر عطاء وأثر النخعي كما في السلسلة الضعيفة (13/ 440 – 441).
    (3) أخرجه ابن أبي شيبة (25484) من طريق عائذ بن حبيب عن أشعث عن الحسن به، وسنده ضعيف بسبب أشعث بن سوار لكن ضعفه غير شديد، قال الذهبي في السير (6/ 276): (كان أحد العلماء، على لين فيه)، وفي تاريخ الإسلام (3/ 617): (قال الحافظ ابن عدي: لم أجد له حديثا منكراً … قال الدارقطني: يعتبر به)، فيشهد له ماتقدم.
    (4) نقله ابن رجب في الفتح (8/ 330) بقوله: (روى ابن أبي خيثمة في ” تاريخه ” من طريق الأعمش، عن النخعي).
    (5) قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 485): (وإذا قال: “كانوا” فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله)
  • ====================

يحلقوا أو يقصروا إذا حلوا محل حجهم ما نهوا عنه في حجهم).
2/ ومن أدلتهم: أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: (كان إذا أفطر من رمضان، وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً، حتى يحج)، و (كان إذا حلق في حج أو عمرة، أخذ من لحيته وشاربه)، وأنَّ أباهريرة -رضي الله عنه-: (كان يقبض على لحيته، ثم يأخذ ما فضل عن القبضة).
وجه الاستدلال:

  • أنَّ ابن عمر روى حديث: «أعفوا اللّحى»، وأبا هريرة روى حديث: «أرخوا اللحى» -رضي الله عنهم-، ومع ذلك صحّ عنهما الأخذ من
    ‌‌_
    (1) الاستذكار (4/ 317).
    (2) أخرجه مالك (186) عن نافع عن ابن عمر به، وسنده غاية في الصحة، وقال مروان المقفع: (رأيت ابن عمر يقبض على لحيته، فيقطع ما زاد على الكف). أخرجه أبوداود (2357) والنسائي في الكبرى (3315)، والحاكم (1536) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين)، ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه غيرهم.
    (3) أخرجه مالك في موطئه (187) عن نافع عن ابن عمر به، وعلّقه البخاري بصيغة الجزم (7/ 160).
    (4) أخرجه ابن أبي شيبة (25481)، (25488)، والخلال في الترجل ص (115)، من طريق شعبة، عن عمرو بن أيوب، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة به، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (13/ 440): (وإسناده صحيح على شرط مسلم)، قلت: لكنّ عمرو بن أيوب لم يخرج له الإمام مسلم، وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 224)، وابن قطلوبغا في “الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة” (7/ 332)، ومما يقوي توثيقه= رواية شعبة بن الحجاج عنه قال السخاوي في فتح المغيث (4/ 353): (كان متثبتاً لا يكاد يروي إلا عن ثقة، وكذا كان مالك)، قال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي ص (99): (الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم)، وأما شعبة و أبو زرعة بن عمرو فمن رجال الصحيحين.
    (5) أخرجه البخاري (5893) ومسلم (259).
    (6) أخرجه مسلم (260)

========================

اللحية فدلّ على أن ذلك لا ينافي الإعفاء والإرخاء، قال ابن عبدالبر عن فعل ابن عمر: (وهو أعلم بمعنى ما روى)، خاصة وأن المعنى يحتمل ذلك قال الطوفي: (إذا كان الخبر يحتمل وجوهاً، وتتجه له محامل، ففسره الراوي على بعضها; كان ما فسره الراوي عليه مقدماً على باقيها).
ونوقش هذا الاستدلال بأمور:

  • أنه مخالف للأحاديث المرفوعة، وهو اجتهاد من الصحابي، والعبرة بما روى لا بما رأى، (وقد اتفق المسلمون على أنه لا يعارض قول النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول أحد من الناس ولا فعله).
  • و النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أعفوا» فعمّم ولم يستثن حالاً من حال، ويؤيده حال النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث لم يثبت (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخذ من اللحية لا قولاً … ولا فعلاً).
  • ثم إن (ابن عمر لم يكن يفعل هذا دائماً، وإنما يفعله إذا حلّ من الإحرام)، و (لعلّ ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك … ليدخل في عموم قوله تعالى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}).
    ‌‌_
    (1) الاستذكار (4/ 317).
    (2) شرح مختصر الروضة (3/ 711).
    (3) فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة 2 (4/ 49)، وانظر: تحفة الأحوذي (8/ 39)، مجموع فتاوى ابن باز (8/ 370).
    (4) انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 128).
    (5) السلسلة الضعيفة (5/ 375).
    (6) فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة 2 (4/ 49).
    (7) نقله عن الكرماني ثم أجاب عنه في الفتح (10/ 350)، والآية من الآية (27) من سورة الفتح
  • ===================

وأجيب عن هذه المناقشة بأمور:

  • أن نصب الخلاف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته خطأ؛ فإن معنى الإعفاء هو التكثير، كما قال الله: {حَتَّى عَفَوْا}، (أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم)، وهذا مافهمه الصحابة والتابعون وأكثر العلماء، قال ابن حجر: (ذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وفروا أو كثروا وهو الصواب)، أما قَصْرُ معنى الإعفاء على الترك مطلقاً، فهذا لم يفهمه السلف فيما وقفت عليه، وهم أعلم بالشرع واللغة، وأكثر ديناً وورعاً.
  • أما كون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستثن شيئاً في الإعفاء؛ فهذا يعود إلى معنى الإعفاء، وسبق أن معنى الإعفاء هو التكثير فلاحاجة للإستثناء، أما من رأى أن الإعفاء بمعنى الترك مطلقاً؛ ففهم منه كراهة الأخذ في غير النسك، وفهم بعض المعاصرين التحريم مطلقاً.
  • والحق أن الإجمال في معنى الإعفاء، وتردد المعنى بين التكثير والترك، مفسّر بفهم السلف له بما يوافق اللغة، فارتفعت دلالة الإعفاء على التكثير من الظن إلى القطع.
  • أما الاستدلال بعدم أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا ممتنع حتى يثبت أن لحية
    ‌‌_
    (1) السلسلة الضعيفة (11/ 785)، وقال في (14/ 342): (وليس هذا من باب العبرة بروايته لا برأيه؛ كما توهم البعض، فإن هذا فيما إذا كان رأيه مصادماً لروايته، وليس الأمر كذلك هنا كما لا يخفى على أهل العلم والنهى).
    (2) قال أبوطالب المكي في قوت القلوب (2/ 242): (قوله: «وأعفوا اللحى» يعني كثروها، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثروا).
    (3) من الآية (95) من سورة الأعراف.
    (4) تفسير ابن كثير (3/ 450).
    (5) فتح الباري (10/ 351).
    (6) كما فهم ذلك النووي ومن تأخر من الشافعية، وسبق بيان مذهبهم
  • ===================

يسلّم بذلك، ويردّه أن ابن عمر كان يمسك عن الأخذ للإحرام فقط، فهو يأخذ قبل شوال للعيد، وبعد الحج قضاء للتفث، ودليله ما في الموطأ أن عبدالله بن عمر: (كان إذا أفطر من رمضان، وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً، حتى يحج)، قال الزرقاني: (طلباً لمزيد الشعث المطلوب في الحج)، قال ابن حجر: (الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه).

  • ومما يدل على أن وصف النسك غير مؤثر، ما أخرجه مالك بلاغاً: (أنَّ سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجلمين فقص شاربه. وأخذ من لحيته. قبل أن يركب. وقبل أن يهل محرماً).
  • وعلى فرض التخصيص بالنسك؛ فإنه إذا شرع في النسك فلا يكون محرماً في غيره كحلق الرأس أو تقصيره.
  • ثم إن سُلّم خصوصية ذلك بالنسك من فعل ابن عمر -رضي الله عنه-، فلا يُسلّم به من فعل أبي هريرة -رضي الله عنه-، ولا من قول الحسن والنخعي
    ‌‌_
    (1) أخرجه مالك (186) عن نافع عن ابن عمر به، وسنده صحيح.
    (2) شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 526)، قال ابن عبدالبر في الاستذكار (4/ 316): (إنما كان ابن عمر يفعل ذلك -والله أعلم- لأنه كان يتمتع بالعمرة إلى الحج فيهدي، ومن أهدى أو ضحى لم يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي عند طائفة من أهل العلم)
    (3) فتح الباري (10/ 350).
    (4) أخرجه مالك (190)، والجَلَمان: شفرتا الجلم وهو الذي يجز به الشعر والصوف. انظر: لسان العرب (12/ 102)
  • ========================

عن الصحابة والتابعين، ولا من فتوى بعض التابعين كما قال الحسن، وابن سيرين: (لا بأس به أن تأخذ من طول لحيتك)، قال ابن عبدالبر: (هذا ابن عمر روى «أعفوا اللحى» وفهم المعنى فكان يفعل ما وصفنا، وقال به جماعة من العلماء في الحج وغير الحج).

  • وهذا هو المشهور عند الفقهاء في مختلف الأمصار، فعطاء في مكة، وطاووس في اليمن، والحسن في البصرة، وإبراهيم النخعي في الكوفة، ثم الأئمة الأربعة من بعدهم.
    المسألة الثانية: أدلة القائلين بوجوب الأخذ من القبضة:
    استدل الألباني على الوجوب بقاعدة هي:
    (أن الفرد من أفراد العموم إذا لم يجر العمل به، دليل على أنه غير مراد منه)، أي: من العموم، فالأخذ من اللحية كان معروفاً عند السلف، وفيهم من روى الأمر بالإعفاء، فدل على أن عموم الترك، أو الترك المطلق للحية غير مراد شرعاً.
    ‌‌_
    (1) أخرجه ابن أبي شيبة (25489).
    (2) التمهيد (24/ 146).
    (3) قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-، صار الفقه في البلدان كلها إلى الموالي، فكان فقيه مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه أهل المدينة غير مدافع سعيد بن المسيب، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني). أخبار مكة للفاكهي (2/ 343).
    (4) السلسلة الضعيفة (5/ 380)، وقال: (وما أكثر البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ “البدع الإضافية” إلا من هذا
    القبيل).
    (5) قال في السلسلة الضعيفة (5/ 125): (السنة التي جرى عليها السلف من الصحابة وغيرهم إعفاؤها، إلا ما زاد على القبضة؛ فتقص الزيادة)، وقال أيضاً (11/ 786): (دون مخالف له منهم فيما علمنا)، وقال أيضاً (13/ 342): (فإن هؤلاء يعلمون أن العمل بالعمومات التي لم يجر العمل بها على عمومها هو أصل كل بدعة في الدين، وليس هنا تفصيل القول في ذلك، فحسبنا أن نذكر بقول العلماء وفي مثل هذا المجال؛ “لو كان خيراً؛ لسبقونا إليه”)
  • ====================

ونوقش هذا الاستدلال بأمور:

  • بأن هذه القاعدة: (قاعدة باطلة، ولا نعلم لها أصلاً … ، ودليل بطلانها عدم اطرادها في غالب فروعها بالإجماع، فإن من فروعها أن المتصدق مثلاً، يجب ألا يتعدى مقدار ما أنفقه أحد من السلف، ولا يقول بهذا أحد من المسلمين).
  • و (باستقراء سير السلف الصالح، وُجد من وصف بعضهم إطلاق لحاهم، ومنها الطويل وما يتجاوز السرة).
  • أن التبديع فيما لم يكن فيه تعبد ظاهر محل نظر وتأمل، وإعفاء اللحية عبادة، أما الأخذ من اللحية فالأقرب أنه من باب التحسين وعدم الشهرة، ومن أطال لحيته فليس ذلك من فعله، فكيف يأثم فيما ليس له فيه فعل.
  • ثم إن التأثيم ووجوب الأخذ ليس له فيه سلف، وقد قال عطاء:
    ‌‌_
    (1) فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الثانية (4/ 49).
    (2) المرجع السابق (4/ 50)، وقد جاء في وصف عثمان -رضي الله عنه- أنه كان: (طويل اللحية، حسن الوجه) أخرجه الطبراني في الكبير (92)، والحاكم في المستدرك (4532)، والبيهقي في شعب الإيمان (5778)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 80): (وإسناده حسن)، قلت: ومداره على عبدالله بن لهيعة وفيه ضعف.
    (3) قال ابن حجر عن ابن عمر: (كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه)، وقال القرطبي في “الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام” ص (444): (ينبغي أن توفر توفيراً لا يخل بمروءة الإنسان، ولا يخرج عن عادة الناس وخير الأمور أوساطها).
    (4) كما سبق عن الشيخ الحويني في: (أسئلة وأجوبة] 2 [)، واللقاء موجود في موقع إسلام ويب، صوتياً ومفرغاً
  • ======================

(كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)، وقال الحسن: (كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها)، فهم يحبون الإعفاء، و لا يوجبون الأخذ، ولايحرمون الترك بل يحبونه، و (يرخصون) فيما زاد عن القبضة بالأخذ مما يدل على أن ذلك رخصة جائزة لا واجبة، وقد كان طاوس: (يأخذ من لحيته، ولا يوجبه).

  • ثم إن المنقول عنهم هي الأفعال، وأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تدل على الوجوب إلا في حالات خاصة، فكيف بمن دونه، ولاشك أن أفعالهم لا تدل على الوجوب.
    ويمكن الجواب عن هذه المناقشة:
  • بأن تخصيص النص العام بعمل الصحابة مما هو معروف، وبخاصة إذا انتشر ولم يوجد مخالف أو كان هو الراوي، و (الخلاف فيه بما إذا لم يعلم انتشاره، وإن انتشر وانقرض العصر كان التخصيص به؛ لأنه إما إجماع أو حجة).
  • هذا إذا لم نقل بأن جواز الأخذ إجماع من السلف، وليس هذا ببعيد مع قول عدد من التابعين: (كانوا)، وقد قال القرافي عن الإجماع: (وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس)، وهذا التقديم باعتبار أن النص يقبل النسخ والتأويل بخلاف الإجماع،
    ‌‌_
    (1) أخرجه ابن أبي شيبة (25482).
    (2) أخرجه ابن أبي شيبة (25484).
    (3) أخرجه ابن أبي شيبة (25483).
    (4) تشنيف المسامع بجمع الجوامع (2/ 791)، وانظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة ص (84)، البحر المحيط (4/ 527).
    (5) شرح تنقيح الفصول ص (337)
  • =========================

ولأن دلالة الإجماع قطعية بخلاف القياس، وإن لم نجزم بالإجماع، لكنه مشهور فيهم قطعاً دون نكير.

  • أما القول بأنه: (ليس له فيه سلف)، فقد يقال: بأن الطبري، وقول عند الحنفية، لهم مايحتمل موافقة الشيخ فيه، وذلك أن العيني نقل عن الطبري أنه قال: (أن اللحية محظور إعفاؤها، وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده).
  • قلت: هذا النص يحتمل أنه منقول بالمعنى، خاصة وأن ابن حجر نقل عن الطبري هذا الكلام، والغالب أن العيني نقل عن ابن حجر كما هو مشهور، ومما قاله ابن حجر في مذهب الطبري: (واختار قول عطاء وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به)، وقول عطاء نقله العيني وليس فيه الوجوب، وسبق نقل حكاية عطاء عن الصحابة: (كانوا يحبون).
  • وأما الحنفية فالقول بوجوب الأخذ عندهم متأخر وغير مشهور وليس هو المعتمد، ولذلك قال ابن عابدين: (ما استدل به صاحب النهاية لا يدل على الوجوب … ولذا حذف الزيلعي لفظ “يجب” وقال: وما زاد يقص)، وقال في منحة الخالق: (وظاهر قول الهداية: “ولا يفعل لتطويل اللحية إلخ” يفيد الكراهة).
    ‌‌_
    (1) عمدة القاري (22/ 46).
    (2) فتح الباري (10/ 350).
    (3) قال العيني نقلاً عن الطبري: (وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشَّيء القليل من طولها وعرضها إِذا كبرت وعلت؛ كراهة الشهرة) عمدة القاري (22/ 47).
    (4) حاشية ابن عابدين (2/ 418).
    (5) (2/ 302)

=======================

المسألة الثالثة: حُكم نسبة هذا الرأي إلى الشذوذ:
بعد عرض هذا الرأي ودراسته، فالذي يظهر أن نسبة القول بوجوب الأخذ من اللحية إلى الشذوذ صحيحة؛ لأنه ليس له فيه سلف، و لا يعرف في الأقوال المعتبرة المنسوبة إلى الأئمة من يقول به، ولم أقف على من سبق الألباني إليه، ويقابل القول بوجوب الأخذ مما زاد عن القبضة، القول بتحريم الأخذ مطلقاً، وهو غير بعيد عنه في الشذوذ، وأول من وقفت عليه يصرّح بالتحريم هو الشيخ محمد بن إبراهيم (ت 1389)، ولا يستقيم القول بالتحريم مع فعل الصحابة والسلف بالأخذ، واشتهار ذلك، وعدم وجود المُنكر، وهو من الأمور الظاهرة غير الخفية.
وأعدل الأقوال فيما يظهر، هو القول باستحباب الترك مطلقاً، كما حكاه عطاء عن الصحابة بسند صحيح: (كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة)، واستحباب الأخذ مما زاد عن القبضة في النسك، كما فسّره ابن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، وأن الأخذ من التفث المأمور به، ويؤيده فعل ابن عمر -رضي الله عنهم-، والله أعلم.
‌‌_
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (25482) من طريق غندر، عن شعبة، عن منصور، سمعت عطاء به

===============

قال ابن سعدي -رحمه الله-: (من خواص الأقوال الضعيفة: وجود التناقض فيها، وعدم انبنائها على أصل متفق عليه، وصعوبة فهمها، وصعوبة العمل بها أو تعذّره … )، وقال: (من أعظم البراهين على صحة القول انضباطه، ويسر معرفته والعمل به).
المناظرات الفقهية – رحمه الله – ص (40)، ص (118)

الكتاب: الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات

المؤلف: علي بن رميح بن علي الرميحي

أصل الكتاب: رسالة ماجستير بقسم الفقه، كلية الشريعة – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بإشراف د سليمان بن أحمد الملحم ١٤٣٩ هـ

تقديم [المناقشَيْن]: أ د سعد بن تركي الخثلان – أ د أحمد بن محمد الخليل

الناشر: دار التحبير للنشر والتوزيع – الرياض، السعودية

الطبعة: الأولى، ١٤٤٠ هـ – ٢٠١٩ م

السابق
هل القول بجواز حلق اللحية قول شاذ؟ وهل مذهب الشافعية أن الحلق مكروه فقط؟ (منقول)
التالي
مدلول العام من قبيل الكلية لا الكل ولا الكلي/ أصول الفقه