حكم الاشتغال بعلم الكلام

هل صحيح أن أصل علم الكلام على طريقة الإمام الأشعري ومن تبعه من أهل السنة السادة الأشاعرة [=حدوث العالم وما يتبعه من حدوث الزمان والمكان و … الخ]: بدعة مذمومة وفق منظور السلف وأن موضوع هذا العلم لا أصل له في الشرع البتة؟ (منقول)

س: هل صحيح أن أصل علم الكلام على طريقة الإمام الأشعري ومن تبعه من أهل السنة السادة الأشاعرة [=حدوث العالم وما يتبعه من حدوث الزمان والمكان و … الخ]: بدعة مذمومة وفق منظور السلف وأن موضوع هذا العلم لا أصل له في الشرع البتة؟.
ج: روى الإمام البخاري في صحيحه (3190) في كتاب “بدء الخلق”: ((عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، فقال: “يا بني تميم أبشروا” فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجهه. فجاءه أهل اليمن، فقال: “يا أهل اليمن، اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم”، قالوا: قبلنا، فأخذ النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم يحدث بدء الخلق والعرش. فجاء رجل فقال: يا عمران راحلتك تفلتت، ليتني لم أقم)) ..
وفي الرواية التي تليها (3191): ((عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال: “اقبلوا البشرى يا بني تميم”، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا -مرتين-. ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: “اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم”. قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر؟ قال: “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض” فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت، فإذا هي يقطع دونها السراب، فو الله لوددت أني كنت تركتها)) ..
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت:852 هـ): ((قوله: “فجاءه أهل اليمن” هم الأشعريون قوم أبي موسى)) (1) الأشعري الصحابي، ومن سلالته علي بن إسماعيل الأشعري إمام أهل السنة والجماعة السادة الأشاعرة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: “اقبلوا البشرى يا أهل اليمن”، أي: ((اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا إذا أخذتم به بالجنة كالفقه في الدين والعمل به)) (2) ..
ثم قال الحافظ: ((قوله: “فأخذ النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم يحدث بدء الخلق والعرش”، أي: عن بدء الخلق وعن حال العرش، وكأنه ضمن يحدث معنى يذكر، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونوا سألوا عن أول جنس المخلوقات)) (3) فالقوم جاءوا إلى المعلم الأول صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمهم العقيدة الإسلامية في مسألة هذا العالم ..
وأما عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “كان الله ولم يكن شيء غيره”؛ فقال الحافظ: ((قوله: “كان الله ولم يكن شيء غيره”: في الرواية الآتية في “التوحيد”: “ولم يكن شيء قبله”، وفي رواية غير البخاري: “ولم يكن شيء معه”، والقصة متحدة فاقتضى ذلك أن الرواية وقعت بالمعنى، ولعل راويها أخذها من قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم في دعائه في صلاة الليل -كما تقدم من حديث ابن عباس-: “أنت الأول فليس قبلك شيء” لكن رواية الباب أصرح في العدم، وفيه دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، لأن كل ذلك غير الله تعالى)) (4) وقال أيضا في موضع آخر: ((قوله: “كان الله ولم يكن شيء قبله” تقدم في “بدء الخلق” بلفظ: “ولم يكن شيء غيره” وفي رواية أبي معاوية: “كان الله قبل كل شيء” وهو بمعنى: “كان الله ولا شيء معه”، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في “بدء الخلق” لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق)) (5) إلى أن قال: ((واستدل به على أن العالم حادث لأن قوله: “ولم يكن شيء غيره” ظاهر في ذلك فإن كل شيء سوى الله وجد بعد أن لم يكن موجودا)) (6) ..
فأنت ترى مدى أهمية هذه المسألة وقد زلت فيها الأقدام وضلت الأفهام، لأجل ذلك حرص المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الكرام على تلقين الصحابة الكرام عقيدة حدوث العالم وأن كل ما سوى الله تعالى فهو حادث سبق العدم عليه، إذا: فحدوث العالم من العدم دليل على وجود من أحدثه، ورجح كفة وجوده على عدمه ..
ثم ذكر الحافظ ما يستفاد من الحديث؛ فقال: ((وفي الحديث جواز السؤال عن مبدأ الأشياء والبحث عن ذلك وجواز جواب العالم بما يستحضره من ذلك، وعليه الكف إن خشي على السائل ما يدخل على معتقده. وفيه أن جنس الزمان ونوعه حادث، وأن الله أوجد هذه المخلوقات بعد أن لم تكن لا عن عجز عن ذلك بل مع القدرة، واستنبط بعضهم من سؤال الأشعريين عن هذه القصة أن الكلام في أصول الدين وحدوث العالم مستمران في ذريتهم حتى ظهر ذلك منهم في أبي الحسن الأشعري، أشار إلى ذلك ابن عساكر)) (7) ..
إذا؛ فالكلام في مسألة حدوث العالم، وأنه حادث كحدوث جنس الزمان وأفراده وكل ما سوى الباري جل وعلا، وهذا دليل افتقار كل محدث إلى من أحدثه، أمر قرره المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كما ترى، وتوارثه عنه صلى الله عليه وآله وسلم الصحب الكرام رضوان الله عليهم، فأئمة التوحيد من بعدهم السادة الأشاعرة ومن نسج على منوالهم، فمن هنا تدرك عمق نظر الحافظ البيهقي (ت:458 هـ) حين قال: ((في هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح من أوجه عن الأعمش وأخرج أوله في باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، وفي سؤالهم دليل على أن الكلام في علم الأصول وحدث العالم ميراث لأولادهم عن أجدادهم، وقوله: “كان الله ولم يكن شيء غيره” يدل على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما فجميع ذلك غير الله تعالى، وقوله: “وكان عرشه على الماء” يعني ثم خلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء)) (?? وكذلك قول الحافظ ابن عساكر (ت:571 هـ) في إمام السادة الأشاعرة حيث جاء فيه: ((وقدر أبي الحسن [الأشعري]-رحمة الله عليه- عما يرمونه به أعلى، وذكر فضائله والترحم عليه من الانتقاص له عند العلماء أولى، ومحله عند فقهاء الأمصار في جميع الأقطار مشهور، وهو بالتبريز على من عاصره من أهل صناعته في العلم مذكور، موصوف بالدين والرجاجة والنبل، ومعروف بشرف الأبوة والأصل، وكلامه في حدث العالم ميراث له عن آبائه وأجداده، وتلك رتبة ورثها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لأولاده)) (9) ..
وقال العلامة الأصولي الإمام الهمام بدر الدين الزركشي (ت:794 هـ): ((وقد برهن الأئمة على حدوثه [العالم] بالبراهين القاطعة، ومنها: أن تتغير عليه الصفات ويخرج من حال إلى حال وهو آية الحدوث، واقتفوا في ذلك بطريقة الخليل صلوات الله عليه، فإن الله تعالى سماها حجة، وأثنى عليها فاستدل بأفول الكواكب وشروقها وزوالها بعد اعتدالها على حدوثها، واستدل بحدوث “الأفل” على وجود المحدث، والحكم على السماوات والأرض بحكم النيرات الثلاثة وهو الحدوث طردا للدليل في كل ما هو مدلوله لتساويها في علة الحدوث وهي: الجسمانية، فإذا وجب القضاء بحدوث جسم من حيث إنه جسم؛ وجب القضاء بحدوث كل جسم، وهذا هو المقصود من طرد الدليل، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين: جاء نفر من اليمن، قالوا: يا رسول الله جئناك نتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر؟؛ فقال: “كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض”، وفي لفظ: “ثم خلق السماوات والأرض”.
قال أئمتنا: وهذا تلقين من النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم إياهم أصول الدين، وتعريف لهم حدوث العالم، ووجوده بعد أن لم يكن موجودا، وانفراد الرب بالوجود الأزلي دون ما سواه من سائر الموجودات)) (10) ..
وفي هذا القدر كفاية ..


(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 288)، المكتبة السلفية.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 288)، المكتبة السلفية.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 288)، المكتبة السلفية.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 289)، المكتبة السلفية.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (13/ 410)، المكتبة السلفية.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (13/ 410)، المكتبة السلفية.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 290)، المكتبة السلفية.
(?? تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري للحافظ هبة الله ابن عساكر (ص:66 – 67)، تقديم وتعليق: العلامة زاهد الكوثري، مطبعة التوفيق بدمشق: 1347 هـ.
(9) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري للحافظ هبة الله ابن عساكر (ص:28).
(10) تشنيف المسامع بجمع الجوامع للإمام الزركشي (4/ 633 – 634)، مكتب قرطبة: القاهرة، الطبعة الأولى: 1419 هـ-1998 م.

السابق
فرق المسلمين الثلاثة والسبعين باختصار (منقول)
التالي
كلمات في حكم معرفة الله تعالى شرعا (لأخينا العلامة نزار حمادي وفقه الله)