‘‘‘‘فأبو عبيد ـ رحمه الله ـ يَقصد بقوله ” ولكن إذا قيل كيف وضع قدمه؟ ” أي إذا جاء من قال لنا مستغربا من هذا الخبر: كيف يضع اللهُ قدَمه، والله ليس له قَدَمٌ أصلا؛ لأنه ليس مركبا من أعضاء؟!!!!! فحينها نقول له ـ أي يقول له أبو عبيد ـ: نحن لا نُفسِّر هذا الخبرَ، ولم نَسمع أحدا فسَّره’’’’
“ابن تيمية وأتباعه وموقفهم من مذهب التفويض في الصفات”[1]
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/posts/807445129323064
فتحصل مما سبق أن “كيف” تأتي لمعنيين غالبا؛ وهما:
الأول: هو السؤال عن الهيئة وعن حال الشيء، وذلك إذا كان ثمة هيئات وأحوال عدة ممكنة للشيء تريد أن تعرف أحدَها على وجه التعيين، وهذا كثير في اللغة، بل هذا هو الاستعمال الحقيقي لـ”كيف” كما سبق؛ ومن ذلك “أن نسأل غيرنا كيف حالك ؟ فإن حاله يمكن أن يكون سعيدا أو حزينا، مريضا أو سليما، عصبيا أو مرتاحا… وهكذا؛ فنحن عندما نسأله عن الكيف نعلم ضمنا أن حالته يجوز عليها عدة أوضاع وعدة كيفيات؛ ونحن إنما نسأله ليحدد لنا وضعا معينا منها”[2].
الثاني: تأتي للتعجب والاستغراب أو الاستنكار، كما في هذين المَثَلين: “كيْفَ أُعَاوِدُكَ وَهَذَا أَثَرُ فَأَسِكَ”؛ “كَيْفَ بِغُلاَمٍ أعْيَانِي أبُوه”[3].
فكلمة “كيف” في هذين المثلين للاستغراب والتعجب؛ وكذا جاء بهذا المعنى فيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا بن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي.اهـ
فـ “كيف” في هذا الحديث للتعجب والاستغراب قطعا … وإلا فهل يفهمُ الجاسمُ من هذا الحديث أن هذا العبد حَمَل المرضَ والطعام والشراب على ظاهره، وأن الله متصف بكل ذلك ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ وأن الله أراد من عبده أن يعودَه وأن يُطعمه وأن يسقيه حقيقة، بَيْد أن هذا العبد جهِل كيفيةَ عيادته وإطعامه وسقيه لله، فسأل العبدُ ربَّه عن كيفية تلك الأمور لكي يطبقها ؟!!!!!
فمثلا : هل فَهِم ذلك العبدُ من قوله تعالى ” مرضتُ فلم تعدني ” أن الله يمرض حقيقة، ويحتاج إلى من يعوده ـ والعياذ بالله ـ فسأل عن كيفية عيادته فقال : ” رب كيف أعودك ” فأثبت أصل الكيفية بقوله “كيف أعودك”[4]؛ ولكن جهل تعيينها فسألَ عنها ربَه فقال: كيف أعودك؟ أي: هل أعودك صباحا أم مساء؟ وهل أعودك بمفردي أم مع إخواني؟ وهل أجلب لك معي هدية أم أعودك من غير هدية؟ وهل أعودك وأنت على العرش أم وأنت في السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل؟ وماذا ألبس حين آتيك، وماذا أركب حتى أتيك هل بالطائرة، أم بمكوك فضائي؟!!!!!!!
وهل فهِم العبدُ من قوله “يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني” أن الله يجوع حقيقة، ويحتاج من يطعمه ـ تعالى الله عن ذلك ـ ولكن جَهِل العبدُ كيفيةَ إطعامِ ربّه فسأله قائلا: “يا رب وكيف أطعمك” أي هل تريد أن آتيك بالطعام فتأكله أنت بيدك، أم أطعمك بيدي؟ وهل أضع لك الطعام على السطح أم على رأس المئذنة ؟!!!!
وهل فهِم العبدُ من قوله: “من يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني” أن الله يعطش ويحتاج من يسقيه، ولكن جهل العبدُ كيفية ذلك فسأل ” يا رب كيف أسقيك” أي هل أسقيك بكأس أم بإبريق مثلا…. ؟!!!! إلى غير ذلك من هذه الأسئلة السخيفة التي قد لا تخطر على بال أشدِّ الناسِ حماقةً ؟!!!!!
ولكن هذا كله لازم للجاسم وأمثاله فيما لو حمَل “كيف” في هذا الحديث على ظاهرها وهو الاستفهام عن الحالة والهيئة كما فعل في كلام أبي عبيد السابق… بينما هي ـ أي: كيف ـ هنا للاستغراب والتعجب والدهشة بدليل أن العبد كان يقول : “قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين” أي أنت الله رب العالمين وخالقُهم وكافيهم والغني عنهم كيف تحتاج إليهم ليطعموك، وأنت القائل: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]….بل أنت الله الغني عن الطعام والشراب طُرّا لأن هذا شأن المخلوقات كالبشر وغيرهم كما قلتَ سبحانك: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } [المائدة: 75] …وأنت المنزّه عن أن يعتريك مرضٌ أو نَصَب أو سِنَة كما قلت في كتابك: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وكما قلت أيضا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } [ق: 38] ؟!!!!
وعلى هذا المعنى جاءت “كيف” في قول أبي عبيد “ولكن إذا قيل: كيف وضع قَدَمه؟ وكيف ضَحك؟” فهي هنا للاستغراب والتعجب، لا للسؤال عن الهيئة وبيان الحالة؛ كما قلنا في أول هذا البحث.
فأبو عبيد ـ رحمه الله ـ يَقصد بقوله ” ولكن إذا قيل كيف وضع قدمه؟ ” أي إذا جاء من قال لنا مستغربا من هذا الخبر: كيف يضع اللهُ قدَمه، والله ليس له قَدَمٌ أصلا؛ لأنه ليس مركبا من أعضاء؟!!!!! فحينها نقول له ـ أي يقول له أبو عبيد ـ: نحن لا نُفسِّر هذا الخبرَ، ولم نَسمع أحدا فسَّره، وإنما نحن نرويه ونصدّق به فحسب؛ أما تفسيره وماذا تعني القَدَم هنا فلا نفسره، ولم نسمع أحدا يفسره.
فهذا هو معنى كلام أبي عبيد، فأين في هذا كله أن ما استنبطه هذا الجاسم الجهبذ حين قال: تعليقا على قول أبي عبيد السابق “وهذا ظاهر في أن الذي جهله السلفُ من صفات الله تعالى هو الكيفية لا المعنى، إذ كان مفهوماً لديهم بما يعرفون من لغة العرب التي خوطبوا بها” ؟!!!!
وهل أثبت أبو عبيد وغيره من السلف الكيفَ أصلا؟ وهل الخلاف الذي حدث في هذه الأخبار المتشابهة أصلا هو في تعيين الكيفية لهذه الأخبار ؛ أم الخلاف هو في معنى هذه الأخبار نفسها؟!!!!!
وبعبارة أخرى: هل الخلاف كان في شكل وكيفية اليد والعين والقدَم والجنب المضافة إليه تعالى …. أم أن الخلاف في معنى هذه الإضافات إليه تعالى، أي هل تُحمل على ظاهرها وأنها أعضاء وأبعاض وأجزاء له تعالى بغض النظر عن كيفيتها وشكلها، كما هو مذهب المجسمة؛ أم تحمل على أنها أمور معنوية ومعان مجازية كما هو مذهب بعض السلف وكثير من الخلف، أم يُفوّض معناها إلى الله بعد صرفها عن ظاهرها الحسي كما هو مذهب جمهور السلف وبعض الخلف؟
إن الخلاف كله في المعنى لا في تعيين الكيف، فمن ينفي عن الله الجسمية والتبعيض ينفي القَدم بمعنى الجارحة على أي كيفيّة كانت، ومن يعتقد بجواز اتصاف الله بالجوارح الأعضاء فهذا لا مشكلة عنده في أخبار الصفات بل جاءت على وفق عقيدته، فلن يسأل :كيف ذلك، لأن “كيف” هنا للاستغراب والاستنكار، وهذا غير مستغرِب ولا مستَنكِرٍ أصلا، بل هو يستغرب ويستنكر أن يكون الإلهُ بدون جسم أو بدون أعضاء أو بدون مكان، وإلا يكون الإله عنده معدوما كما هو مذهب المجسمة الذي ينصره ابن تيمية وأتباعه[5]…!!!!
والحاصل أن “كيف” في كلام أبي عبيد السابق هي للاستغراب والتعجب أو للاستنكار وليست هي للسؤال عن الهيئة والحالة حتى يستنبط منها الجاسم أن أبا عبيد يكون بذلك قد أثبت أخبار الصفات على ظاهرها الحسي، ولكن جَهِل أبو عبيد هيأتها وحالها فتورّع عن تعيين تلك الهيئة والحال والكيفية ففوض الكيفيةَ إلى الله، وكذا فعل سائرُ السلفِ على ما زعم الجاسم …!!!! ولا شك أن زعمه هذا باطل قطعا لما سبق بيانه.
كتبه وليد ابن الصلاح
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر السابق:
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/806348049432772/
[2] وهذا المثال لشيخنا د.سعيد فودة، انظر كلامه على:
http://www.aslein.net/archive/index.php/t-652.html
[3] انظر: مجمع الأمثال للميداني (2/ 139) و (2/ 145).
[4] تماما كما فهم الجاسمُ من قول أبي عبيد “ولكن إذا قيل كيف وضع قدمه؟” أن أبا عبيد أثبت القَدم على المعنى الحسي، لها ولكنه جهل كيفيتها وشكلها!!!!
[5] وفي ذلك يقول أحدهم وهو الشيخ عبد المحسن البدر في القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد (ص: 122): إذ من قال إنَّ ربه ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين العالم ولا عن شماله ولا داخله ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه فقد وصفه بالعدم بل ليس هناك وصف للعدم أبلغ من هذا الوصف الذي وصف به هؤلاء الجهمية ربهم، ومن هنا قال من قال من أهل السنة “والمعطل يعبد عَدَماً”.اهـ