صفة الاستواء

عشرات النقول والنصوص عن العلماء في شرح قول الإمام مالك “الاستواء معلوم والكيف غير معقول” والرد على الوهابية في ذلك ج1

قال الأخ الفاضل الشيخ يوسف زمزمي في بحث له أرسله إلي بعنوان ” الأخبار المتشابهات سبيل سلف الأمة وطريق العلماء الأئمة، 500 نقل وإحالة عن السلف وعلماء المسلمين في فهم هذه الأخبار ” قال (ص: 55):

  • إمام دار الهجرة مالك بن أنس (179 هـ):
    والإمام مالك هو أكثر إمام يحتج الظاهرية بقوله في الاستواء، وهو أبعد الناس عن هذا الفهم الذي فهموه عنه ويروي له هؤلاء قوله هكذا: الاستواء معلوم المعنى مجهول الكيفية والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
    وهذا رواية لا سند لها عن مالك بالمرة.
    والرواية المسندة الصحيحة عنه في ذلك هي: عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج. (3)

(3) الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 304، 305 ط السوادي

هذا هو الذي ورد بإسناد صحيح عن مالك.
وكلمة مالك هذه تحتمل معان عدة، ومادمنا قد اختلفنا في تفسيرها، فنقول: هناك معايير وضوابط وأصول وقرائن يجب أن نلجأ إليها جميعا في فهم كلمة الإمام:
الأول: تفسير العلماء القدامى لكلمة مالك، إذ خير من يفهم كلام العلماء هم العلماء.
الثاني: ما ورد عن مالك من نصوص أخرى في الصفات.
الثالث: اعتبار نصوص أقران مالك وغيره من التابعين والأئمة الكبار المجمع عليهم.
فإذا ثبت بهذه القرائن الثلاثة أن المقصود من كلمة مالك تفسير خصومنا لها فيجب علينا أن نسلم لهم بتفسيرهم، كما يجب عليهم هم أيضا ذلك إذا ما ثبت العكس.
القرينة الأولى: علماء المسلمين يفسرون كلمة مالك:
الفريق الأول: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على معنى: غير مجهول أي غير منفي عن الله، الاستواء معلوم أي ثابت لله بطريق العلم، وإن كنا لا نعلم معناه.
الفريق الثاني: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على معنى: غير مجهول أي معناه في اللغة، وإن كنا لا نعلم معناه في حق الله.
الفريق الثالث: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على معنى: غير مجهول أي معناه في اللغة، وغير مجهول معناه في حق الله، وهذا المعني هو وجوه التأويل والمجاز.
وعلى هذا فالفريق الأول والثاني يستدل بكلمة مالك على مذهب التفويض، والفريق الثالث يستدل بكلمة مالك على التأويل.
وكلمة ” الكيف غير معقول ” له فهمان:
الأول: الكيف أي المعني المقتضي للتجسيم منفي عن الله مخالف للعقل مستحيل في الواقع … الثاني: الكيف أي تفسير الصفة ومعناها لا نستطيع أن نعقله ونعرفه.

وهناك فريق رابع: وهم الظاهرية، فهموا من كلمة مالك: أن الاستواء غير مجهول معناه في حق الله، وهذا المعنى المعروف في الذهن هو الظاهر اللغوي من جلوس الله على العرش واتخاذه مكانا له، وأنه استقر عليه بفوقية حسية بالجهة والحد بذاته، والشيء الوحيد المجهول لدينا من ذلك هو كيفية هذا الاستقرار أو القعود فقط. (1)
ولننظر في كلمات أئمة الإسلام:
الفريق الأول: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على المعنى الأول: غير مجهول أي غير منفي عن الله، الاستواء معلوم أي ثابت لله بطريق العلم، فهو معلوم الوجود، وإن كنا لا نعلم معناه.


(1) جدير بالذكر أن تفسير الاستواء بالعلو أو الفوقية لا يتعارض مع تفويض معناه، لأن العلو والفوقية هما المعني السياقي العام من آيات الاستواء، كما أن اثباتهما لله محل إجماع واتفاق فعلي، وإنما يكون تفسيرها به تجسيما إذا كان القائل بذلك يقصد العلو الحسي أو الفوقية الحسية، وأما إذا كان يطلقها دون تجسيم ولا تحديد، فلا شيء، فإن الذي يذهب لتأويل الاستواء يفسره هو الآخر بالعلو والفوقية، ولكنه يقصد بذلك المعنى المعنوي، فعلى هذا لا يتعارض التفسير بالعلو والفوقية مع التفويض إلا في مراعاة القصد.

1 – الإمام ابن الزاغوني الحنبلي (527 هـ) يقول في رواية أم سلمة: فإن قالوا فما معنى قول أم سلمة ” الاستواء معلوم والكيف مجهول ” إذا كان معلوما فكيف يكون من المتشابه، والمتشابه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، قلنا: المراد بقولها ” الاستواء معلوم ” أي هذه الصفة مضافة إلى الباري تعالى ثابتة له، ندرك ذلك علما بطريق مقطوع عليه، وهو أنا علمنا استحقاقه لهذه الصفة بالقرآن، الثابت بالتواتر، فنحن نعلم ثبوت هذه الصفة له بالقرآن الذي يثبت بمثله العلم، فأما الاطلاع على معناه، والوقوف على حقيقته فذلك أمر يعود إلى الكيفية، وهو الذي قالت فيه: والكيف مجهول. (1)
2 – الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي (620 هـ) يقول في تفسير كلمة مالك: وقولهم: الاستواء غير مجهول أي غير مجهول الوجود لأن الله تعالى أخبر به وخبره صدق يقينا لا يجوز الشك فيه ولا الارتياب فيه، فكان غير مجهول لحصول العلم به وقد روي في بعض الألفاظ الاستواء معلوم، وقولهم الكيف غير معقول لأنه لم يرد به توقيف ولا سبيل إلى معرفته بغير توقيف. (2)
فليس المقصود به كما زعمت الظاهرية: أي غير مجهول المعنى الظاهر، بل غير مجهول الوجود والثبوت كما قال ابن قدامة الإمام.
وذلك لأن إثبات الصفات لدى السلف إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد لتفسيرها ولا معناها، فهي معلومة أي أن الله أعلمنا به، لا أننا نعلم معناها.


(1) الإيضاح في أصول الدين لابن الزاغوني [335] ط مركز الملك فيصل، وابن الزاغوني له بعض مخالفات في الإثبات.
(2) ذم التأويل لابن قدامة [26] ط الدار السلفية

  • ولذلك يقول الحافظ ابن أبي يعلى الحنبلي (526 هـ): اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سبقه من الأئمة: أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد لها حقيقة في علمه. (1)
  • وقال في الحنابلة: واعتقدوا أن صفات الباري سبحانه معلومة من حيث أعلم هو، غيب من حيث انفرد واستأثر، كما أن الباري سبحانه معلوم من حيث هو، مجهول ما هو. (2) فقول مالك معلوم: أي أن الله أعلمنا بها وجودا وثبوتا لا علما ولا إحاطة ولا تفسيرا.
    3 – استدل الشيخ ابن شرف الدين الخليلي الشافعي (1147 هـ) بقول مالك على أن الأسلم تفويض معاني المتشابهات إلى الله، مع القطع الجازم بنفي المعنى الظاهر منها. وقال: ومعنى قوله ” الاستواء غير مجهول ” أنه غير مجهول الوجود؛ لأن الله تعالى أخبر به، وخبره صدق يقينا لا يجوز الشك فيه، وفي ذلك كلام طويل. (3)
    4 – الشيخ العلامة شهاب الدين الآلوسي (1270 هـ) يقول: وما روي عن مالك … ليس نصا في هذا المذهب (الاستقرار) لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول، ومن قوله: والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك. (4)
    الفريق الثاني: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على المعنى الثاني: غير مجهول معناه في اللغة، وإن كنا لا نعلم معناه في حق الله.

(1) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى [2/ 208] ط المعرفة
(2) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى [2/ 209] ط المعرفة
(3) فتاوي الخليلي على المذهب الشافعي [1/ 76 / 77] ط طبعة مصرية قديمة
(4) تفسير الآلوسي [4/ 374] ط الكتب العلمية

1 – فسر الإمام ابن العربي المالكي (542 هـ) قوله بتفويض التفسير قائلا في الاستواء بعد تنزيه الله عن التمكن والاستقرار: وإما أن لا يفسر كما قال مالك وغيره أن الاستواء معلوم يعني مورده في اللغة، والكيفية التي أراد الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة فمن يقدر أن يعينها؟ …. فتحصل لك من الكلام إمام المسلمين مالك أن الاستواء معلوم وأن ما لا يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه وتعين المراد بما لا يجوز عليه لا فائدة لك فيه إذ قد حصل لك التوحيد والإيمان بنفي التشبيه والمحال على الله سبحانه وتعالى فلا يلزمك سواه (1)
2 – وهذا هو المؤرخ الكبير ابن خلدون المالكي (808 هـ) يرد على المجسمة الذي يقولون ” معنى الاستواء معلوم الثبوت لله ” فيقول في المجسمة: وقد يحتجّون لإثبات الاستواء للَّه بقول مالك أنّ الاستواء معلوم الثبوت لله، وحاشاه من ذلك، لأنّه يعلم مدلول الاستواء. وإنّما أراد أنّ الاستواء معلوم من اللّغة، وهو الجسمانيّ، وكيفيّته أي حقيقته. لأنّ حقائق الصّفات كلّها كيفيّات، وهي مجهولة الثبوت للَّه. (2)
3 – الشيخ العلامة محمد بن عبد العظيم الزرقاني (1367 هـ) يقول في كلمة مالك: يريد -رحمة الله عليه- أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع، والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه، ولا سلطان لنا به والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين هذا المراد اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة. (3)


(1) عارضة الأحوذي لابن العربي [2/ 236] ط العلمية
(2) تاريخ ابن خلدون [1/ 605] ط الفكر
(3) مناهل العرفان للزرقاني [2/ 207] ط الفكر

  • ولذلك يقول الحافظ ابن أبي يعلى الحنبلي (526 هـ): اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سبقه من الأئمة: أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هُوَ إثبات وجود لا إثبات تحديد لها حقيقة في علمه. (1)
  • وقال في الحنابلة: واعتقدوا أن صفات الباري سبحانه معلومة من حيث أعلم هُوَ، غيبٌ من حيث انفرد واستأثر، كما أن الباري سبحانه معلوم من حيث هُوَ، مجهول ما هُو. (2) فقول مالك معلوم: أي أن الله أعلمنا بها وجودا وثبوتا لا علما ولا إحاطة ولا تفسيرا.
    3 – استدل الشيخ ابن شرف الدين الخليلي الشافعي (1147 هـ) بقول مالك على أن الأسلم تفويض معاني المتشابهات إلى الله، مع القطع الجازم بنفي المعنى الظاهر منها. وقال: ومعنى قوله ” الاستواء غير مجهول ” أنه غير مجهول الوجود؛ لأن الله تعالى أخبر به، وخبره صدق يقينا لا يجوز الشك فيه، وفي ذلك كلام طويل. (3)
    4 – الشيخ العلامة شهاب الدين الآلوسي (1270 هـ) يقول: وما روي عن مالك … ليس نصا في هذا المذهب (الاستقرار) لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول، ومن قوله: والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك. (4)
    الفريق الثاني: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على المعنى الثاني: غير مجهول معناه في اللغة، وإن كنا لا نعلم معناه في حق الله.

(1) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى [2/ 208] ط المعرفة
(2) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى [2/ 209] ط المعرفة
(3) فتاوي الخليلي على المذهب الشافعي [1/ 76 / 77] ط طبعة مصرية قديمة
(4) تفسير الآلوسي [4/ 374] ط الكتب العلمية

الفريق الثالث: من فهم من علماء المسلمين كلمة مالك على المعنى الثالث: غير مجهول معناه في اللغة، غير مجهول معناه في حق الله، وهذا المعني هو وجوه التأويل والمجاز.
وهؤلاء فهموا من قول مالك أن الاستواء غير مجهول المعنى، لكن هؤلاء ذهبوا إلى أن المقصود بـ ” الكيف غير معقول ” أي أن المعنى الظاهر اللغوي مستحيل عليه تعالى غير متصور في حقه أصلا كالاستقرار والجلوس وتحيز الجهة واحتواء المكان.
وهذا فهم الإمام شهاب الدين القرافي (684 هـ) والإمام شمس الدين بن اللبان الدمشقي (749 هـ) والإمام تقي الدين الحصني (826 هـ)، والإمام شهاب الدين القسطلاني (923 هـ) والإمام شهاب الدين الرملي (957 هـ) والشيخ العلامة شهاب الدين الأزهري (1126 هـ) (1)
فهؤلاء استدلوا بقول مالك على صحة مذهب التأويل للنصوص المتشابهات وليس حملها على الظاهر اللغوي، فاستدلوا بها على مذهب التأويل في حين أن المجسمة يرومون الاستدلال بكلمة مالك على مذهبهم المنحرف!
لكن ماذا فهم غالبية العلماء لكلمة مالك؟
غالبية العلماء يفهمون من كلمة مالك التنزيه عن الكيفية والتجسيم والظاهر اللغوي، وتفويض التفسير والمعنى والتأويل:
1 – استدل الإمام أبو الليث السمرقندي (375 هـ) بقول مالك على أن مذهبه في النصوص المتشابهات: ” نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها “. (2)


(1) الذخيرة للقرافي [13/ 243] ط الغرب الإسلامي، اتحاف السادة المتقين للزبيدي [2/ 82] ط التاريخ العربي، دفع شبه من شبه وتمرد للحصني [18] ط المكتبة الأزهرية، إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني [10/ 473] ط الأميرية، فتاوى الرملي [4/ 273] ط المكتبة الإسلامية، الفواكه الدواني للأزهري [1/ 51] ط الفكر
(2) تفسير السمرقندي [1/ 65] ط الفكر

2 – استدل الإمام أبو بكر الكلاباذي الحنفي (380 هـ) بقول مالك على أن مذهب كثير من العلماء في ” الأخبار المتشابهة ” قولهم: آَمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمَا قَالَ، وَوَكَلْنَا عِلْمَ تَأْوِيلِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (1)
3 – وهذا الإمام القاضي عبد الوهاب المالكي (422 هـ) يستشهد بكلمة مالك على أن ” الوصف له تعالى بالاستواء اتباع للنص، وتسليم للشرع، وتصديق لما وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشيء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن، وذلك يؤول إلى التجسيم، وإلى قِدم الأجسام، وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام. (2)
4 – استشهد الإمام أبو عمرو الداني (444 هـ) بقول مالك في إثبات الاستواء: بغير كيفية، ولا تحديد، ولا مجاورة ولا مماسة. (3)
ومعلوم أن المجسمة يبدعون من صرح بهذا النفي التفصيلي كما نصوا على ذلك.


(1) معاني الأخبار للكلاباذي [354] ط العلمية
(2) شرح عقيد مالك الصغير [28] ط الكتب العلمية
(3) الرسالة الوافية للداني [130] ط دار الإمام أحمد

5 – استدل الإمام أبو المعالي الجويني الشافعي (478 هـ) بقول مالك على استحالة فحوى الظواهر وامتناع إجرائها على ما تبتدره أفهام أرباب اللسان إليها وتفويض معاني المتشابهات إلى الله … (1) واستدل بها على أن مذهب مالك هو تنزيه الله عن الجهات والكمية والكيفية والمحاذاة مع تفويض التأويل إليه سبحانه. (2)
6 – الإمام أبو حامد الغزّالي الشافعي (505 هـ) بعد أن قال أن العوام يُلجموا بكلمة مالك قال: فيعلم قطعا أنه ما أراد الجلوس والاستقرار الذي هو صفة الأجسام، ولا ندري ما الذي أراده ولم نكلف معرفته. (3)
7 – استدل الإمام محيي السنة البغوي (510 هـ) مالك على أن مذهبه في النصوص ” المتشابهات “: الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَكِلُ الْعِلْمَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (4)


(1) العقيدة النظامية للجويني [32 – 34] ط الأزهرية … ولا وجه لفرج الخصوم بكتاب الجويني هذا، فهو قد نص في غير كتاب له بأن التفويض مذهب جمهور السلف، وقد صرح إمام الحرمين في ” الشامل” بأن الخلاف بين المفوضة وأهل التأويل هو تعيين المعنى مع الاتفاق على التنزيه عن الظاهر، وقال رحمه الله إن الخلاف في هذا سهل لا إشكال فيه، بل قال إن المفوضة بهذا يدخلون في جملة أهل التأويل لقطعهم بتنزيه الله عن الظاهر وقال إن من أثبت الظاهر فليس منا ولسنا منهم، الشامل للجويني [512، 551، 552] ط المعارف …. فعلى هذا لا داعي لفرح الخصوم بقول الجويني إذ عند التحقيق المفوضة والمؤولة متفقون على التنزيه عن قول المجسمة!، وأما تعيين المراد فلا بأس من الخلاف فيه على المعتمد.
(2) الشامل للجويني [550، 551] ط المعارف بالأسكندرية
(3) إلجام العوام للغزالي [24 ظ / مخطوط] وفيها ” حظ الأجسام “.
(4) تفسير البغوي [3/ 235] ط طيبة
وفي هذا رد على الخصوم حيث يقولون: هذه ليست بنصوص متشابهات. بل هي متشابهات ومن اتبع ظاهر معناها فهو زائغ صاحب فتنة بنص القرآن، وهذا محيي السنة البغوي ينص على أنها متشابهات.
8 – وهذا الإمام ابن رشد المالكي الجد (520 هـ) جعل كلمة مالك في إثبات علو الذات الإلهية مع القطع ببطلان الظاهر اللغوي وهو الاستقرار والمكان والجلوس والتحيز والمماسة. (1)
9 – استدل الإمام ابن عطية المالكي (542 هـ) بقول مالك في سياق من اعتقد أن آية الإستواء: من متشابه القرآن يؤمن به ولا يعرض لمعناه. (2)
10 – الإمام أبو بكر الأزدي الشافعي (550 هـ) بعد أن قال هو: وأن ما ورد من الأخبار الصحيحة بنقل العدول الثقات تجرى على ظاهرها (3)، ويؤمن بجميعها، ويوكل معانيها إلى الله تعالى، من غير تمثيل ولا تكييف (4) وكلمة الجويني ” تفويض معانيها إلى الرب ” (5) عضد ذلك بكلمة مالك، وقال: فليجر آيات القرآن والأخبار الصحيحة الواردة في الصفات على ما ذكرنا، ونقتصر منها على التصديق والتسليم مع التنزيه، فهو الطريق الأسلم والمنهج الأقوم، وهو مذهب الفقهاء الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين. (6)
وهذا يدل على أنه فهم من كلمة مالك التنزيه وتفويض المعنى.


(1) البيان والتحصيل لابن رشد [16/ 368] ط الغرب الإسلامي، والمدخل لابن الحاج [2/ 149] ط التراث
(2) المحرر الوجيز لابن عطية [4/ 37] ط الكتب العلمية
(3) الظاهر ظاهران: ظاهر يليق بالمخلوق، وهو المعني اللغوي الحقيقي، وظاهر يليق بالخالق، وهو المعنى الذي لا يعلمه إلا الله، فالمجسمة يثبتون الأول، والمفوضة يثبتون الثاني.
(4) منازل الأئمة الأربعة للأزدي [110] ط الملك فهد
(5) منازل الأئمة الأربعة للأزدي [152] ط الملك فهد
(6) منازل الأئمة الأربعة للأزدي [156] ط الملك فهد

11 – الإمام عبد القادر الجيلاني الحنبلي (561 هـ) يستدل بكلمة مالك على أن السلف أطلقوا صفة الاستواء ولم يحددوا لها معنى ولا تفسيرا. (1)
12 – الإمام أحمد الرفاعي الشافعي (578 هـ) استدل بكلمة مالك على أن مذهب السلف التنزيه عن سمات الحدوث، ورد العلم إلى الله في المتشابهات، وعدم تأويلها، والسكوت عن تفسيرها. (2)
13 – استدل الإمام ابن الجوزي الحنبلي (597 هـ) بقول مالك على تفويض التفسير في النصوص المتشابهات كالإستواء. (3)
14 – استدل الإمام فخر الدين الرازي الشافعي (606 هـ) بقول مالك على صحة من ذهب إلى أن هذه النصوص المتشابهات لا تفسر ولا يعلم تفسيرها إلا الله. (4)
15 – الإمام أبو الحسن المراكشي (638 هـ) بعد أن بين أن فائدة المتشابه الامتحان بالإحجام عن التفكير فيه أورد كلمة مالك، فقال: فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة (5)
16 – أضف إلى ذلك الإمام الرسعني الحنبلي (661 هـ) فقد احتج بكلمة مالك على مذهب السلف، وفنَّد كل الأقوال والتفسيرات التي قيلت في معنى الاستواء، وقال لمن فسر بالاستقرار: وإن لم يفسروه بشيء فليقتصروا أولا على تلاوة الآية، والإيمان بالاستواء على المعنى الذي أراده الله، وقال أنه لا يقول في تفسير الاستواء أي تفسير إلا كلمة واحدة: استوى بلا حد ولا كيف. (6)


(1) الغنية لطالبي الحق للجيلاني [86، 87] ط إحياء التراث العربي
(2) البرهان المؤيد للرفاعي [17] ط الكتاب النفيس
(3) دفع شبه التشبيه لابن الجوزي [122] ط الرواس
(4) تفسير الرازي [7/ 154] ط الكتب العلمية
(5) نظم الدرر للبقاعي [4/ 243] ط الكتاب الإسلامي، وتراث أبي الحسن الحرالي [511] ط المركز الجامعي – الرباط
(6) رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز للرسعني [2/ 148 – 152] ط الأسدي

17 – استدل الإمام أبو عبد الله القرطبي المالكي (671 هـ) بقول مالك على أن الاستواء من النصوص المشكلات ” نَقْرَؤُهَا وَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُفَسِّرُهَا “. (1)
18 – استدل الإمام أبو القاسم بن جزي المالكي (741 هـ) بقول مالك على أن التابعين يحرمون مجرد السؤال عن الإستواء والكلام فيه، وأنهم أمسكوا عن الكلام في معناه، وقال: ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة (2)
19 – استدل الإمام أبو حيان الأندلسي الشافعي (745 هـ) استدل بقول مالك على أنه يفوض التفسير في هذه الآية، واستدل بقوله ” غير معقول ” على أنه: لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا هَذَا، مَعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَقَامُوهَا عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ. (3)
20 – الإمام ابن اللبان الدمشقي (749 هـ) يقول: قوله: ” الكيف غير معقول ” أي كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيجزم بنفيه عن الله تعالى. (4)
21 – استدل الإمام تاج الدين السبكي الشافعي (771 هـ) بقول مالك على أن: الْكَيْفِيَّة عَن صِفَات رَبنَا منفية. (5) وهذا قاطع في نفي الكيفية عن الله من الأساس – والكيفية عندهم هي نسبة أي معنى يقتضي التجسيم لله – فهذا منفي عن صفات الله قطعا.


(1) تفسير القرطبي [1/ 245] ط الكتب المصرية
(2) تفسير ابن جزي [1/ 290] ط الأرقم
(3) البحر المحيط لأبي حيان [3/ 28، 5/ 66] ط الفكر
(4) اتحاف السادة المتقين للزبيدي [2/ 82] ط التاريخ العربي
(5) طبقات الشافعية للسبكي [4/ 287] ط هجر

22 – واستدل الإمام الغزنوي الحنفي (773 هـ) بكلمة مالك على إطلاق القول في الاستواء وعدم الكلام فيه تكييف حتى أنه أورده بلفظ: سُئِلَ عن معنى هذه الآية (1)
23 – استدل الإمام ابن عادل الحنبلي (775 هـ) بقول مالك على أنه يُقْطَعَ بكونه تعالى مُتَعَالِياً عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل الآية على التَّفْصِيل، بل نُفَوِّض عِلْمَهَا إلى الله – تعالى – ونَقُولُ: الاستواءُ على العَرَشِ صفةٌ لله – تعالى – بلا كيف يَجِبُ على الرَّجُلِ الإيمان به، ونَكِلُ العلم فيه إلى الله – عزَّ وجل. (2)
24 – استدل الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي (790 هـ) بكلمة مالك على تفويض معانى المتشابهات (3)
25 – استدل الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي (794 هـ) بكلمة مالك هذه على أنه يعتقد في النصوص المتشابهات: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ الشَّبَهِ وَالتَّعْطِيلِ وَنَقُولُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. (4)
26 – واستدل الإمام ابن ناجي التنوخي المالكي (837 هـ) بكلمة مالك في سياق من اعتقد أن الاستواء: من متشابه القرآن ولا يتعرض لمعناه. (5)
27 – واستدل الإمام زروق المالكي (899 هـ) بقول مالك على أن الاستواء: من المتشابه الذي ينزه عن المحال ولا يتعرض لمعناه. (6)


(1) تفسير القرآن العظيم المنسوب للطبراني / سورة الأعراف آية (54) ت هشام البدارني، والظاهر أن صواب نسبته للغزنوي.
(2) اللباب في علوم الكتاب لابن عادل [9/ 151] ط الكتب العلمية
(3) الموافقات للشاطبي [5/ 391] ط ابن عفان
(4) البرهان في علوم القرآن للزركشي [2/ 78] ط المعرفة – إحياء الكتب العربية
(5) شرخ التنوخي على الرسالة [1/ 25] ط العلمية
(6) شرح زروق على الرسالة [1/ 45] ط العلمية
28 – استدل الإمام جلال الدين السيوطي الشافعي (911 هـ) بكلمة مالك على أن مذهب السلف: الْإِيمَانِ بِهَا وَتَفْوِيضِ مَعْنَاهَا الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نُفَسِّرُهَا مَعَ تَنْزِيهِنَا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهَا. (1)
29 – استدل الإمام ابن أبي شريف الشافعي (923 هـ) بقول مالك على أن مذهب السلف أسلم وهو التأويل الإجمالي والتفويض التفصيلي. (2)
30 – استشهد الإمام شهاب الدين القسطلاني (923 هـ) بقول مالك على بطلان تفسير الاستواء بالاستقرار وأنه محال غير معقول وأن الله منزه عن الكيف (3)
31 – استدل الإمام علي بن خلف المالكي (939 هـ) بقول مالك على التفويض وقال في الاستواء: من المتشابه فمن العلماء كابن شهاب و مالك من منعوا تأويله وقالوا نؤمن به ولا نتعرض لمعناه. (4)
32 – استدل الإمام شهاب الدين الرملي الشافعي (957 هـ) بقول مالك على أن الأئمة الأربعة متفقون على عقيدة واحدة وهي التنزيه عن الجهة. (5)


(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي [3/ 14] ط الهيئة العامة للكتب المصرية
(2) فيض القدير للمناوي [2/ 379] ط المكتبة التجارية، الفواكه الدواني للأزهري [1/ 51] ط الفكر
(3) شرح القسطلاني على البخاري [10/ 391، 473] ط الأميرية
(4) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة القيرواني [1/ 76] ط الفكر
(5) فتاوى الرملي [4/ 267] ط المكتبة الإسلامية

33 – ولأن كلمة ” كيف استوى ” هي هي ” ما معنى استوى ” فإن الإمام أبا محمد الشعراني الحنفي (973 هـ) لما أورد كلمة مالك أوردها هكذا: سئل رضي الله عنه عن معنى قوله تعالى: ” الرحمن على العرش استوى “. (1)
34 – استدل الإمام شمس الدين الشربيني الشافعي (977 هـ) بقول مالك على تفويض التفسير إلى الله في النصوص المتشابهات. (2)
35 – استدل الشيخ علي القاري الحنفي (1014 هـ) بقول مالك على تفويض تأويل المتشابهات إلى الله ووكل علمها إليه. (3)
36 – استدل الشيخ العلامة نور الدين السندي (1138 هـ) بقول مالك في سياق حكاية من ذهب لتفويض تفسير المتشابهات. (4)
37 – واستدل الشيخ العلامة حسين بن ابراهيم المالكي (1292 هـ) بكلمة مالك على أن مذهب السلف في المتشابهات الإيمان مع القطع بنفي المكان والجهة، وتفويض علم تأويله لله. (5)
38 – واستدل الشيخ العلامة صالح بن عبد السميع الأزهري المالكي (1335 هـ) بقول مالك على أن آية الاستواء: من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. (6)


(1) الطبقات الكبرى للشعراني [1/ 45] ط محمد المليجي الكتبي، ويقول الشعراني في المتشابهات: فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه ويكل معنى كلامه إليه عز وجل. روح المعاني للآلوسي [16/ 157] ط إحياء التراث العربي
(2) السراج المنير للشربيني [1/ 197] ط بولاق الأميرية
(3) مرقاة المفاتيح للقاري [1/ 236] ط الفكر
(4) حاشية السندي على ابن ماجة [1/ 88] ط الجيل
(5) قرة العين بفتاوى علماء الحرمين لحسين بن ابراهيم [276] ط المكتبة التجارية بمصر
(6) الثمر الداني لصالح بن عبد السميع الأزهري [11] ط المكتبة الثقافية
39 – الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور (1393 هـ) استدل بكلمة مالك على أن السلف كانوا يسمون هذه النصوص بالمتشابهات دون بحث وسؤال عنها ولا تأويلها مع العلم بالمقصود الإجمالي من الخبر (1)
40 – واستدل الشيخ العلامة محمد بن علي بن حسين مفتي المالكية بمكة (1376 هـ) بقول مالك على ” التَّأْوِيلِ الْإِجْمَالِيِّ وَيُفَوَّضُ عِلْمُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ تَفْصِيلًا إلَيْهِ تَعَالَى ” (2)
السؤال عنه بدعة:
الضمير في ” عنه ” عائد على الاستواء، فمذهب مالك أن مجرد السؤال عن الاستواء بدعة، وقد كان هذا هو السبب في زجره للسائل وتصببه عرقا من سؤاله.
ولذلك وجدنا:

  • الإمام ابن سريج (306 هـ) وقد سمى هذه الأخبار بالمتشابه يقول: الْإِيمَان بِكُل وَاحِد مِنْهُ كَمَا ورد وَأَن السُّؤَال عَن مَعَانِيهَا بِدعَة وَالْجَوَاب كفر وزندقة. (3)
  • والإمام ابن الصلاح يقول: ولا يَسأل عن معنى ذلك ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة، وإنه إذا شرع فيه فقد خاطر بدينه ولعله يكفر فيه أو يشارف الكفر فيه (4)

(1) التحرير والتنوير لابن عاشور [8/ 125] ط التاريخ العربي، وقال ابن عاشور: فكان رأي فريق منهم الإيمان بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلف علمائنا. التحرير والتنوير لابن عاشور [3/ 26] ط التاريخ العربي
(2) الفروق للقرافي بحاشية ابن الشاط ومحمد بن علي بن الحسين [4/ 295] ط عالم الكتب
(3) العلو للعلي الغفار للذهبي [208] ط أضواء السلف
(4) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح [1/ 115، 116] ط العلوم والحكم – عالم الكتب، وهناك تفسير آخر لكلمة ” السؤال عنه بدعة ” من مدرسة التأويل، دفع شبه من شبه وتمرد للحصني [18] ط المكتبة الأزهرية.

وهذا فهم علماء المسلمين لمقولة مالك، ولم يقل العلماء: معلوم المعنى على ظاهره.
ومع كل هذا الاختلاف في تفسير كلمة مالك، فقد أجمعوا كلهم على أن مالكا عنى بقوله ” الكيف غير معقول ” أو الكيف غير مجهول ” نفي المعنى الذي يحمل الكيف وهو الظاهر اللغوي المتبادر إلى الأذهان من الاستقرار واحتواء المكان وتحيز الجهة والجلوس والقعود والحد والمماسة والمجاورة والحلول وغيرها من معاني التجسيم والتشبيه.
وإن تعجب – بعد كل ذلك – فاعجب من المجسمة حيث استدلوا بكلمة مالك على ما أُجمع على نفيه بكلمة مالك!
وهذا فهم الأئمة الأعلام القدامى من مختلف الأعصار والأمصار وشتى المذاهب والمشارب لكلمة الإمام مالك، وأما فهم متبعي المتشابهات واستدلالهم بكلمة مالك فهو من أبشع ما يكون من الفهم السقيم، إذ مع اختلاف العلماء في فهم كلمة مالك فهم اتفقوا على أن التكييف غير معقول في حق الله بل مستحيل عليه أن يُحمل الاستواء على المعنى الذي فيه تجسيم وتكييف، ونسبة الاستقرار والجلوس للباري – كما هو مذهب متبعي المتشابهات – من أشنع التكييفات والتشبيهات المستبشعة.
وفي ذلك يقول الإمام زروق المالكي (899 هـ): وفي بعض رواياته ” والكيفية مجهولة ” وقد عدلنا عنها للرواية التي ذكرنا؛ لأن غير المعقول لا يمكن العلم به. (1)

  • ويقول الإمام تقي الدين الحصني الشافعي (829 هـ): وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك، وتبعه تلميذه مالك؛ لأن الإستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث، وهو سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى {ليس كمثله شيء} فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذرة جاء الكفر بالقرآن. (2)
    القرينة الثانية في فهم كلمة مالك: النصوص الأخرى الواردة عنه:

(1) شرح زروق على الرسالة [46] ط العلمية
(2) دفع شبه من شبه وتمرد للحصني [5] ط المكتبة الأزهرية.


مع كل ما سبق نحتاج لنص قاطع في فهم كلمة مالك أصرح من مما سبق ليصح الجزم بمراد مالك أنه تفويض تفسير المتشابهات والقطع بنفي المعنى الظاهر اللغوي التجسيمي التكييفي، إن وجود نصوص كهذه عن مالك نفسه سيكون فاصلا للخطاب وحاسما للنزاع فهل نجد؟
النص الأول: يقول شمس الدين الذهبي الشافعي (748 هـ): والمحفوظ عن مالك -رحمه الله- رواية الوليد بن مسلم أنه سأله عن أحاديث الصفات، فقال: أمرها كما جاءت بلا تفسير. (1)
وهذا نص عن الإمام نفسه يُنهي الخلاف من بابه ويحسم النقاش والجدال.
وبذلك نكون قد أزلنا الإشكال الأول في كلمة ” الاستواء غير مجهول “
النص الثاني: وَسُئِلَ مَالك بن أنس عَن قَوْله تَعَالَى {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} الْآيَةَ، أيعلم تَأْوِيله الراسخون فِي الْعلم قَالَ: لَا. (2)
وبذلك يكون مذهب مالك تفويض التأويل إلى الله.
يبقى إشكال آخر في كلمته ” الكيف غير معقول ” وهل المقصود بها إثبات كيف لله وصفاته مع تفويضه أم المقصود به رفع ونفي الكيف عن الله؟
ونحن بالفعل نحتاج لنص آخر لإزالة هذا الإشكال في الفهم ولتأييد ما فهمناه وفهمه أئمة الدين وعلماء المسلمين من كلمة الإمام، ولكن يشترط في النص الذي نريده أن يكون محفوظا ثابت الإسناد كالذي قبله ليكون فيه معنى إلزامي.
إن وجود نص كهذا سيكون هو الآخر فاصلا في الأمر، فهل نجده؟


(1) سير أعلام النبلاء ترجمة مالك [8/ 105] ط الرسالة
(2) فهم القرآن للمحاسبي [230] ط دار الفكر

النص الثالث: نقول: روى الإمام البيهقي بإسناد صحيح عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ، يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتِوَاؤُهُ؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَالِكٌ وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ، وَكَيْفٌ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، أَخْرِجُوهُ. قَالَ: فَأُخْرِجَ الرَّجُلُ. (1)
فهذا نص صريح في رفع الكيف عن الله وصفاته أصلا، فالكيف عن الله منفيٌ، وهو غير معقول أي مستحيل في حق الله غير متصور عليه.
والكيف – عند علماء أصول الدين – هو حمل اللفظة على المعنى الظاهر اللغوي الذي فيه يقتضي النقص والتجسيم.
وانظر رحمك الله ما حدث لمالك لما سئل عن الاستواء – علاه الرحضاء -!
يقول الراوي: فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء – يعني العرق – قال: وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه، فسُرِّىَ عن مالك. (2)
أصابه العرق من ذاك السؤال الخطير، لأنه يتكلم عن الذات المقدسة، فأين مالك من متبعي المتشابهات الذين يخوضون في تكييف الاستواء بالاستقرار واتخاذ المكان والجهة والجلوس والقعود؟! تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

انتهى كلام الأخ الزمزمي بطوله وبما تضمنه من نقول نفيسة فجزاه الله خيرا، وله تتمة نأتي عليها لاحقا بحول الله


(1) الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 305، 306 ط السوادي
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي [3/ 398] ط طيبة

السابق
تنبيه هام على خيانة الوهابية وكيدهم لمذاهب أهل السنة والجماعة (منقول)
التالي
القرافي: “والمصنفون لنفوسهم أحوال من القبض والبسط، بحسب عوارض الدنيا”