أدب ومُلح وطرائف

” حلمٌ لغويٌّ في سجونِ الأسدِ” (محمد علي النجار)

** حلمٌ لغويٌّ في سجونِ الأسدِ **

في #اليوم_العالمي_للغة_العربية رجعت بي الذاكرة إلى الخلف ثماني سنين بالتمام، نحو لوحة فنية رسمها شاعر أسير في مطار المزة العسكري بريشة لسانه لا بريشة ألوانه.. فإذا كان الفنانون في الحياة الطبيعية يرسمون بالألوان فقد طور السجناء السوريون فنّ الرسم بالكلمات. ينقشون بأقلام ألسنتهم على جدران الذاكرة قصصا لا تستطيع كل آلات الإجرام الأسدية والتبلد العالمية طمسها أو إجبار شعبنا على نسيانها.

في الممر الثاني الطويل كانت زنزانتنا ذات الرقم 35 آخر الزنازين على جهة اليمين في معتقل فرع التحقيق الجديد التابع للمخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، كنا اثني عشر شخصا في زنزانة لا تتجاوز مساحتها مترين ونصف، قضيت فيها قريبا من شهرين، حيث كان لكل منا مربع صغير يجلس فيه وينام ويقف ويأكل ويمرض و..

كانت جهود الجاسوس المحترف محمد جميل -المنحدر من إدلب، ومالك صالة لبيع الأجهزة الكهربائية بقرب جسر الزاهرة- قد فشلت تماما في إحداث اختراق في الزنزانة أو في الحصول على معلومات عن (الإيرانيين الأربعين) الذين اختطفوا من مطار دمشق بواسطة سائق منحدر من عائلة (أبو عدلة) من ريف جبل الزاوية، فقد اكتشفتُ جاسوسيته يوم إدخاله إلى زنزانتنا مصادفة بعد نهاية إحدى جلسات التحقيق، فقمت بالتحذير منه والاصطدام معه عدة مرات، فأُخِذَ قرار بنقلي إلى مكان مزود بجواسيس غير مكشوفين لهم أساليبهم المختلفة.

من بداية الممر جاء صوت أحد السجانين يصرخ باسمي: أين فلان؟ في أي زنزانة؟ لم أشعر بالخوف فجلسات التحقيق العشرة أورثتني نوعا من التبلد أمام الحوادث، ذلك التبلد الذي يرافق معظم السجناء السوريين حتى بعد نجاتهم. أخبره بعض من في الزنزانة أنني المقصود، أخذني إلى رئيسه، بعد كلام مقتضب وكلمة إهانة عابرة، قال لي: أنت ستُنقل إلى الجماعية رقم (5) هذه الجماعية اسمها جماعية جبهة النصرة، سأراقبك من خلال الكاميرات ممنوع أن تتكلم مع أي شخص أو يتكلم معك أي إنسان، هززت رأسي بما يوصل رسالة – لم نكن نملك غيرها هناك – مفادها أنني سألتزم بالأوامر الجديدة. فُتِح الباب فقفزت الأجسام العارية والتصقت بالجدران مطأطئة الرأس، في نظام للإذلال يعرفه من سقط في تلك الحفر يوما، دخلت إلى الجماعية، وأغلق الباب خلفي.

الجماعية اسم لزنزانة كبيرة بمساحة 30 متر مربع تقريبا تحوي 120 سجينا أو أكثر، يعيشون فيها وينامون جلوسا، وتتميز زواياها بكاميرات للمراقبة، بينما تطل نافذتها الممتدة أمتارا على شتاء المزة القارس الذي جاء بثلج كثيف في نهاية (2012) التصق بجدارها أياما، فرأيت رجالا أجسادهم مثل الحديد عالقون #تحت_الحياة_فويق_الممات – يبكون بصمت من شدة البرد الذي أكلهم وهم عراة إلا مما يستر السوأتين، بينما كان في قبو مغلق تحتنا مباشرة رجال آخرون يموتون من الاختناق.

على حذر تركت الالتزام بأوامر الحظر التي وجهها #رئيس_الدفعة لي، لقد كانت الزنزانة تغريني بالمخاطرة بأوامر السجان، فقد كانت مليئة برجال العلم والفكر من كل طبقات المجتمع الراقية.. وفي تلك الجماعية عرفت أشخاصا كثيرين منهم: أبو هايل اليبرودي الشاب المعيد في كلية الهندسة المعمارية رحمه الله، وتاجر العقارات الأردني أبو همام صاحب مشروع توليد الكهرباء من فتحة جبل الشيخ، وطبيب العظمية الفلسطيني الشهير عمر محيبيش، والطيار المقدم الحمصي المنشق موفق عبد الكريم حمزة، والطبيب أبو عبد الله وصديقه الصيدلي أبو نوري المتخرج من جورجيا والمنحدرَين من ريف دير الزور، وعضو إعلان دمشق المهندس أبو النور مروان العش، وآخرون كثيرون من كرام شعبنا.

إحدى الشخصيات التي لم أنسها من تلك الجماعية كانت شخصية الشاعر الشاب (بشار م) كان نازحا من ريف القنيطرة المحتل، لعله إن لم تخني ذاكرتي المثقوبة من قرية اسمها (جباتا الخشب) بلدة الثائر أحمد مريود المهداوي الذي قتلته الطائرات الفرنسية سنة 1926م… كان شابا في الثلاثين من عمره تقريبا، درس في أحد الحقول العلمية، ونظرا لتفوقه وذكائه أوفد إلى الهند، حيث درس هناك في بعض المجالات الخاصة بالأبحاث الذرية السرية، وعاد ليكون موظفا في مركز للأبحاث الذرية في دمشق.. ثم اعتقل في أواخر 2012م بتهمة التخابر مع الجيش الحر.

رغم أن دراسته علمية بحتة إلا أنه كان شعلة تتقد بالعربية، وتتفجر شعرا ونثرا وتاريخا، كان يحفظ المعلقات، والكثير من الشعر وتاريخ الأدب من عصور اللغة المختلفة، قضينا معا 10 أيام فقط قبل أن يتم نقلي إلى سجن الشرطة العسكرية في القابون، كان حديثه ويقظته ونومه بالعربية، وكانت لديه مشاريع لغوية كثيرة قد بدأ بها، ويتمنى أن يخرج من السجن ليكملها.. سألته يوما وهو يحدثني عن مشروعه اللغوي الأكبر، ما هي الصورة النهائية لهذا المشروع؟ قال حتى أنا لا أعرف، عندما تكتمل سأعرف شكل نظريتي اللغوية التي أعمل عليها!

بهدف الاستفادة من ساعات السجن البطيئة كسلحفاة الكئيبة كليل امرؤ القيس؛ عقدنا اتفاقا يقتضي أن يحفِّظني المعلقات العشر مقابل أن أحفظه القرآن الكريم، وبالفعل بدأنا بذلك، حفظْت مطالع المعلقات وحفظ هو أكثر من جزء من القرآن، ثم نُقِلتُ إلى مكان آخر.

من مشروعه اللغوي الكبير بقيت في ذاكرتي خاطرة يمكن لها أن تكون مشروعا لغويا يستحق الكثير من الجهد، يتمثل برسم سيناريو متكامل عن الحياة العربية القديمة بما فيها من تعقيدات اجتماعية وأسماء أماكن ونمط عيش ومفردات لغوية ونسق أخرى تتداخل فيها اللغة بالحياة والجغرافيا بالأخلاق والمشاعر، بحيث تكون كل قطعة شعرية صغيرة عبارة عن لوحة زيتية مكتملة التفاصيل.

استوضحت منه أكثر عن مشروع اللوحات العربية الجاهلية، فرسم لي لوحة من مطلع معلقة زهير بن أبي سلمى أنقلها كما رسمها. فرغم مرور ثماني سنين على تلك اللحظة ما زالت كلماتها منقوشة في قاع الذاكرة عصية على الحفر أو النسيان، تصلي محاسنها في محراب الفكر أبدا كلما قرأت شعرا جاهليا. قال صديق الزنزانة بشار: قال زهير:

(أَمــِن أُمِّ أَوفى دِمنَـةٌ لَــم تَكَـلَّمِ — بِحَومـــانَــةِ الـــــدُرّاجِ فَالمُتَثلـمِ)

(وَدارٌ لَها بِــالرَقمَـتَـيــنِ كَأَنَّــــها — مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَـــمِ)

(بِها العَينُ وَالأَرآمُ يَمشينَ خِلفَةً — وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ)

(وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً — فَلَأيًا عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّمِ)

(أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَـرَّسِ مِرجَلٍ — وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ)

(فَلَمّا عَرَفـتُ الدارَ قُلـتُ لِرَبعِـهـا — أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ)

قال بشار يرسم لوحته:

زهير بن أبي سلمى شاعر عجوز، بعد عشرين عاما على آخر زيارة لديار محبوبته يحركه الشوق من جديد إلى ذكراها فيذهب إلى ديارها باحثا عن أثر لها بين العراق والحجاز، فيحكي لنا ما حدث قائلا:

(أمن أم أوفى دمنة؟) رأى الشاعر بقعة مسودة من الأرض تتناثر فيها أطلال ساكنيها، فسألها: هل أنت من آثار حبيبتي أم أوفى؟ ولكن هذه الدمنة (لم تتكلم!) نعم لقد سأل الآثار فلم تجبه! وقد حدد لنا موضع هذه الأطلال قرب موضعين: اسم الأول (حومانة الدراج) وثانيهما (المتثلم).

كانت هذه الدار التي وقف على آثارها في موضع يقع في الوسط بين مرتفعين سوداوين –أو رقمتين: حَرَّتين- مشهورتين أحداهما من جهة المدينة المنورة والأخرى من جهة العراق، وقد كانت الأطلال واضحة (كبقايا وشم جُدد مرارا في عروق المعصم) وشبه الشاعر الأطلال بالوشم لكون وشوم النساء ركنا من أركان الحياة الاجتماعية النسائية في الجاهلية فلا تكاد تخلو معلقة من ذكرها.

تخيل أن هذه الدار في موضع أخضر ممتد مملوء بالحياة وقطعان العين (أي: البقر الوحشي) والآرام (أي الغزلان) التي تمر في مجموعات كلما مضت منها واحدة خلفتها أخرى، كان الشاعر يمشي وصغار البقر والغزلان تتقافز حوله ترفع رأسها من (كل مجثَمِ) أي مكان جثوم أو جلوس، خلف حجر أو جذع شجرة أو دوحة عشب.

يقول الشاعر: لقد مضت عشرون سنة مذ زرت هذه الديار آخر مرة، -وكذلك العشق يفعل بأهله يعيش بالعربي من حيث يظنه قد مات،- وبعد طول تمعن وبحث وتعب وجهد وشَكٍّ، رأى من الآثار ما أكد له أنها دار محبوبته.. فما هذه الآثار؟

(أثافي سفعا في معرس مرجل) الأثافي هي ثلاثة حجار تنصب لتوقد النار بينها ويطبخ عليها، و(سُفَّعًا) محروقة مسودة لكثرة ما طبخ عليها، لا زالت موجودة في (معرس مرجل) والمعرس هو منزل الشيء، والمرجل: هو قدر الطبخ.. وليس العجب في وجود الأحجار فهي تقاوم السنين، ولكن العجب من بقاء الساقية الترابية الدقيقة التي كان يحفرها العربي على أطراف خيمته لتنساب مياه المطر والسيل فيها وتبتعد عن الخيمة، ويسميها العرب (نؤيا). إن الشاعر يريد أن يخبرنا أن محبوبته أم أوفى كانت من قوم كرام أهل إتقان في عملهم وحياتهم، فما زالت أطراف ساقيتهم الترابية قائمة واضحة لم تتغير وكأنها جدران حوض مبني بحجر، (كجذم الحوض لم يتثلم).

فلما تأكد الشاعر من أطلال محبوبته، حيَّا ديارها ودعا لها بالبقاء فقال: (فَلَمّا عَرَفــتُ الدارَ قُلـتُ لِرَبعِـهـا —أَلا عِم صَباحــاً أَيُّهـا الرَبعُ وَاِسلَمِ).

تخيل لوحة زيتية مرسومة بريشة فنان بارع لسهول خضراء ممتدة بين حرتين سوداوين تسكنها قطعان بقر وحشي واسعة العيون، ومجموعة غزلان رشيقة تتقافز صغارها من حولها، وفي وسط هذا الجمال كله بقعة رمادية تحوي آثار قوم كانوا قد سكنوها وخلفوا فيها حجارةَ قِدْرِهِمْ، وساقية خيمتهم المتقنة، وفي وسط كل ذلك عجوز قد أحرقته على كبر نيران الشوق، يكلم الجماد ويستنطق الأرض والحجارة.. قد بلغ به وفاؤه لعشقه بأن يقطع مفاوز وقفارا ليقول لأطلال محبوبته (ألا عم صباحا أيها الربع واسلمِ).. #انتهت_اللوحة.

رحمك الله حيا وميتا يا بشار، فقد بحثت عنك أو عمَّن يعرفك كثيرا ولم أجد لك أثرا.. ولكن بقي لك في وجداني أثران؛ لوحةٌ رسمتها بريشة لسانك، ومشروعٌ لغوي كبير عن حياة العرب قديما يحكي لنا الجمال والبساطة والأخلاق التي عاشها أجدادنا في زمن قاتم واهنٍ مليء بالعقد والآلام.

محمد علي النجار

إسطنبول: اليوم العالمي للغة العربية

18 – ديسمبر – 2020م

السابق
الدرس الثامن والعشرون/ تابع أمثلة على الآيات المتشابهة (قول اللقاني والغزالي والبيضاوي وابن كثير/ منقول)
التالي
(2) الرد على دمشقية في قوله بأن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة بحجة أنهم تأثروا في التنزيه بعقائد الشيعة!!! عبارة “كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان” ؟!!