الثورة السورية

ساعة على جدار التحقيق –محمد علي النجار

محمد علي النجار

ساعة على جدار التحقيق — ✍️محمد علي النجار

مطلع كانون الثاني من شتاء 2013م، الثلج ينتف والريح تقصف العظام، وأغلبنا عارٍ إلا مما يستر السوءتين. كنا حوالي 120 شخصا في غرفة واحدة، تسمى الجماعية الخامسة، في مقر المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، حيث يبنى المجد على جثثِ المعتقلين العزل، ويكتب التاريخ بدماء الأبرياء.

من الجماعية الخامسة أُخرجت لأجل التحقيق الثاني عشر معصوب العينين مكبَّل اليدين إلى الخلف، وعاريًا إلا مما يستر السوءتين. انتهى التحقيق فأخرجني المحقق وأوقفني باتجاه الجدار؛ بينما أحضَرت له زبانيته معتقلا آخر كان يملك صالون حلاقة كبير في مدينة قدسيا الواقعة في الغوطة الغربية لمدينة دمشق، واتهم بقتل رئيس بلديتها. كنت التقيته عندما كنت في الزنزانة رقم (35) الواقعة في نهاية ممر الزنازين الثاني، كان رجلا من عائلة “مستو” خمسينيا لطيفا فقد عقله تحت التعذيب وبدأ يتبول في ثيابه ويسقط أحيانا ويتكلم بكلام غير مفهوم، أو يطؤنا بأقدامه ليلا دون شعور منه، ويقول في وقت صحوِه: لم أقتله، كان أحيانا يأتي إلى صالوني ليحلق فأدَلِّلُه وأحترمه، لماذا أقتله؟

أحضر المحقق هذا الرجل الخمسيني الفاقد العقل وبدأ يسأله عن قضية رئيس البلدية؛ بينما تأكل سياطه المجرمة من لحمه وعظمه، ولسانه الآثم يأكل من عِرْضِه ودِينِه! أغمي عليه أكثر من مرة، وكلما أغمي عليه صبوا عليه دلو ماء فيصحو ليغمى عليه من جديد بين يدي هؤلاء المجرمين الذين لا يردعهم عن شتم الذات الإلهية والأديان والأعراض شيء. مشى الوقت بطيئا وانتهت جلسة تحقيق المسكين دون أن يأخذوا منه شيئا سوى كلمات استغاثة وبضع جمل غير مترابطة، لم يبق في ذاكرته المسكينة سواها. كان هذا الخمسيني متعلقًا بأمه كطفل، وما زلت أذكره؛ كأنه أمامي الآن يبكي كطفل صغير ويقول لنا “ابن الحرام! شتم أمي!”.

الريح الثلجية تضرب بعنف وتُحوِّل جسدي إلى قطعة جليد، والصقيع يدق مساميره في كل عظامي، بدأت عظامي تتراقص على أنغام الرياح الثلجية كعصي طبال إفريقي، وأحسست بكل مفصل ينفر من الذي يجاوره. وأنا مستغرق في مناجاة الله أن يخفف عني وعن ذلك الرجل المسكين.

خرج المحقق الخائب يزبد ويرعد، وصرخ في زبانيته ليحضروا له الجاسوس جميل محمد من الزنزانة (35)، ثم التفت إلى الجهة التي أقف فيها، وصرخ: ألم أقل لكم خذوه إلى جماعيته؟ ومضى. تجاهل الحراس أمره، وبقيت أتراقص من البرد، وأمسك نفسي حتى لا يشمت بي حرس آل الأسد الجالسين بقرب مدفأة صغيرة على بعد أمتار مني. لقد كانوا يخسرون في الميادين ويظهرون وَهْمَ بطولتهم الفارغة علينا، كان شباب مدينتَي داريا والمعظمية في تلك الحقبة من الثورة قد سلبوهم رجولتهم؛ فينتقمون منا لهزائمهم المتكررة أمامهم.

لا يتوفر وصف للصورة.

كان هواء المزة يأتي محملا برائحة الثلج الذي غطى السجن لأيام… مرت دقائق طويلة واستغرقتُ في عالمي الخاص، حاولت أن أغوص في داخلي كصوفي، وأعيد ترتيب ذاتي فأفصل إحساس روحي عن جسدي، لأتخلص من الألم! خفَّف ذلك عني قليلا، ولكن أنى لنا الهروب من هذا الجسم الذي يلبسنا؟

كان خلفي على الجدار الآخر معتقل مسكين أحس بأنفاسه ولا أراه، انطلق صوته مرتجفا “يا سيدي أريد أن أبول” كان رجلًا عجوزًا يبدو من صوته وكأنه تجاوز الستين، استهزأ أبطال النظام الطائفي بضعفه وعجزه، فأعاد الطلب متوسلا بصوت أقرب إلى البكاء مرات ومرات، والسجانون يقابلون رجاءاته باستهزاء وشتائم قذرة، فجأة توقف فم السجانين عن السباب والشتائم، لينقض أحدهم بعصا ثخينة يعزف بها على ظهر الرجل أشد الأنغام ألما وأعظمها بؤسا في هذا العالم. كانت عصا السجان تسقط على ظهر العجوز بلا توقف، فتُصدر صوتا كأنه صوت إطلاق الرصاص، وتنطلق معها أناته المكبوتة تحكي أكثر الأصوات حزنا وقهرا في هذه الدنيا. لم أعرف ماذا حدث بالضبط، لكني رأيت من أسفل العصابة التي تغطي عيني مزيجا متدفقًا من الدماء والبول يجري من خلفي وقريب قدمي… سمعت السجان بعدها يأمره بالذهاب إلى الخلاء. لم ولا أدري هل الدم الذي ساح في الأرض بثوانٍ قليلة كان نتيجة انفجار جروح سابقة في جسم الرجل، أو كان نتيجة شقوق مباشرة سببتها عصا المجرم. آهٍ يا عماه! كنت أبيًّا كريما ترفض أن تصرخ أو تتوسل ليكفوا عن تحطيم جسدك، كنت تئن وتئن فقط.

مر وقت طويل ومر كبيرهم وأشار إلي آمرا إياهم بأخذي إلى الجماعية، ولكنهم تجاهلوا أمره للمرة الثالثة، يبدو أنه ليس من طائفة بشار الأسد، ولهذا يمكنهم تجاهل أوامره لبعض الوقت، في حين لا يستطيعون ذلك لو كان منهم. كانوا يلبسون المعاطف الجلدية السميكة ويلوذون بمدفأة كهربائية بينما يستمتعون بالانتقام من سجين أعزل. لا أدري كم مر من الوقت كنت أسافر في شرق نفسي وغربها، مستنجدا بما بقي في فوضى مستودعها من قصص وذكريات ومعلومات، أقوم بإعادة تركيبها وأشغل نفسي بها، فأنجح في فصل روحي قليلا عن ألم جسدي، ولكن إلى متى؟ الصقيع والريح ما زالا يتعاونان على الفتك بآخر ما بقي فيَّ من طاقة، أحسست برأسي يكاد يتفجر وبعيني تدمعان وتكادان تخرجان من محجريهما، بينما أمسك نفسي خشية السقوط. كان السقوط يعني أنك تتحدى أمرهم بالبقاء واقفا، وهذا سيعطيهم دافعا لاستباحة جسدك بعصيهم حتى يتحول إلى خرقة بالية تنزف دما.

في غمرة الألم ومحاولات السيطرة على نفسي أيقظتني ضربة عصا السجان على جانبي، ووجَّه أمرَه إليَّ بالركض باتجاه “جماعيتي”، هناك حل أحد السجانين قيودي وعصابة عيني بينما كان يتناوب مع صديقه على ركلي، وأخيرًا فتحوا الباب ودفعوني إلى الداخل. كنت فاقد التوازن ولا أدري ما تحول إليه منظري، فلم يكن عندنا مرآة ننظر إليها، كان كل معتقل مرآة لأخيه المعتقل، لكني رأيت عيون المعتقلين تتسع حدقاتها وهي تنظر إلي بذعر وألم، تلقفني بعضهم وأسندوني إلى الجدار، بينما أخذ اثنان منهما يمسدان مكان القيد خشية موت أعصاب اليد وقد حفر في الجلد والعظم، وآخر يقودني إلى المغسلة لأغسل وجهي؛ بينما خلع صديقي الشاعر رحمه الله معطفا كان يملكه ووضعه على كتفيَّ ولفني به. جلست أحمد الله على أني لم أتعرض للعذاب الذي أصاب الآخرين، بينما تحلق حولي بضعة شباب وشيوخ يسألونني عما جرى في التحقيق أو رأيت هناك.

مرت سنون عديدة، وما زالت روحي، – كما أرواح الكثيرين ممن نجو – كلما أحست بلذة الدفء في شتاءات إسطنبول تطير ميمِّمةً صوب دمشق تتحسس إخوة السجن، وتتفقد عشرات الآلاف من أبناء شعبنا الذين ما زالوا يعانون كل يوم آلاما متجددة لا تحملها الجبال، في حين غضت مجمل التجمعات السورية عينها عن قضية المعتقلين، وكان ينبغي لها أن تكون أولوية لو كانوا يفقهون!

إسطنبول 4 – نوفمبر – 2017

السابق
تنزيل كتاب “مسألة قيام الحوادث بذات الله تعالى في مذهب أهل الحديث والحنابلة” للشيخ عبد الفتاح قديش
التالي
لماذا لا يجوز وصفه تعالى بالحركة والسكون وغيره من سمات المحدثات؟! يجيبكم الإمام الفخر الرازي رحمه الله (منقول)