وبيان ذلك أن لدينا أقوالا كثيرة شنيعة جدا نسبها الله تعالى في كتابه للمشركين وذكر أنهم قالوها فعلا في حقه تعالى مرارا وتكرارا، ومع ذلك أعرض عنها ابن تيمية متمسكا بآيات الباب الثمانية التي غاية ما فيها أنهم لو سئلوا عن الخالق ليقولون الله!! وأورد هنا طائفة من تلك الأقوال الشنيعة:
- حكى الله عن المشركين بأنهم كانوا ينسبون إلى الله الولد ـ سبحانه ـ ، ويقولون عن الملائكة بنات الله، كما قال: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151، 152]، فترك ابن تيمية هذا القول الشنيع، الذي تحقق أنهم قالوه فعلا، وتمسك بقول مفترض لهم، وهو أنهم لو سئلوا عن الخالق لقالوا هو الله، واعتبره إقرارا من المشركين بتوحيد الربوبية ولم يعتبر قولهم السابق ـ أي أن الملائكة بنات الله ـ قادحا في توحيد المزعوم!! وكذا فعل ابن تيمية في سائر الأقوال الشنيعة التالية حيث أعرض عنها والتفت إلى آيات الباب الثمانية التي فيه قول مفترض كما سبق بيانه!! أي ترك المحقَّقَ للمفترض كما سيأتي!!!
- نقل الله عن المشركين أنهم كانوا يسبونه إذا سبُت أصنامهم: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108]!!
(اعتقاد المشركين أن أصنامهم ند لله تضر رسله وتنصرهم وتعزهم)
- ذكر الله أنهم اتخذوا الأصنام آلهة من أجل أن تعزهم فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } [مريم: 81]!!
- وذكر أنهم اعتقدوا أن آلهتهم تنصرهم من دون الله فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]!!
- وذكر بأنهم يزعمون أن آلهتهم تقدر على إلحاق الأذى برسله فقال: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود: 54]، ونحو ذلك قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36].
- وزعموا كذبا أن أوثانهم تشفع وتقرب إلى الله وتضر وتنفع من غير إذن الله، قال تعالى { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فقد اتخذوهم «شفعاء بينهم وبين الله واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه»[1]، فقد «أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله»[2]، “في جلب ما ينفعُهم ودفع ما يضرُّهم بذواتها وأنفسها بدون توقُّف ذلك على إذن الله ومرضاته لمن شاء أن يَشْفَعَ فيه الشافع»[3].
- وذكر عنهم بأنهم يعدِلون بربهم الأصنامَ فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام : 1].
- وأنهم يسوونها به: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 97 ، 98].
- وأنها عندهم نِدّ له، تعالى الله عن إفكهم، فقال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت : 9].
- 10) وذكر أنهم كانوا يحبونها كحب الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة: 165] فالمشركون “يحبون معبوداتهم مثل حب الله أو أشد منه، يعني: قد يجمعون مع حب الله حب المعبودات، وقد يفردون المعبودات بالحب والتعظيم دون أن يحبوا الله “[4].
(شكهم في قدرته تعالى ولذا أنكروا البعث)
- ذكر أنهم كانوا يشكّون في قدرته، ولذا “أنكروا البعث .. وجحدوا قدرة ربهم”[5]، فهُم “المنكرون لقدرته سبحانه على البعث..[6]“، حيث كانوا “يَدَّعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إماتتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء”[7] كقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77 – 79].
وبما أنهم منكرون للبعث فهذا يعود على إقرارهم بأن الله خالقهم بالنقض، وقد بين ذلك ابن القيم فقال: فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرد تكذيب الله ورسوله وتعجيز قدرته ونسبة علمه إلى القصور والقدح في حكمته، ولهذا يخبر الله سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه جاحد له لم يقر برب العالمين فاطر السموات والأرض”[8]، “وحديث البخاري[9] يدل على أن أشدَّ ما كان المشركون يعتَدُون فيه في حق الله تبارك وتعالى هو شكُّهم في قدرته على البعث، وقد أخبَرَ به، ونسبتُهم إليه الولد. والقرآنُ يؤيد ذلك، فإنه كرَّر تثبيتَ البعث ونفيَ الولد في مواضع كثيرة”[10].
ومنها بعض آيات الباب نفسها مثل ” قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)، والمراد بذلك إقامة الحجة عليهم في إنكار البعث، فطابق ذلك وناسبه..”
شكلهم في عموم سمعه تعالى
- فهم يشكون في سمعه لنجواهم كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] قال الطبري: أم يظن هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم، وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا[11].اهـ
ثم أخرج الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم : ترون الله يسمع كلامنا ؟ فقال واحد : إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم الآية[12].
يقول ابن تيمية تعليقا على آية الزخرف هذه: “ولا ريب أن الاعتقادات الفاسدة، مثل اعتقاد الكفار في ربهم، وما يتبعها من الإرادات هي خيالات وأوهام باطلة كما قال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة”[13].
شكهم في علمه تعالى
- فالمشركون يشكّون في علمه تعالى “بل إن من العرب من كان يعطّل صفةَ العلم لله بكل شيء، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {.. ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}” [14]. وسبق آنفا قول ابن القيم:..فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرد تكذيب الله ورسوله وتعجيز قدرته ونسبة علمه إلى القصور والقدح في حكمته[15].اهـ
(شكهم في وجوده تعالى)
- بل هم شاكون في الله نفسه، قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} قال أبو حيان: (بل لا يوقنون: أي إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون)[16]. وقال الطبري: “إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم من أن ربكم رب السماوات والأرض “[17].
إساءتهم الظن بربهم وشكهم في حكمته
- فقد كانوا يسيئون الظن بالله، ويشكّون في حكمته وفي نفوذ قضائه وقدره، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [الفتح: 6]، قال ابن القيم: يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية.وقد فُسِّرَ هذا الظنُّ الذى لا يليقُ باللهِ، بأنه سبحانه لا ينصُرُ رسولَه، وأن أمْرَهُ سيضمحِلُّ، وأنه يُسلِمُه للقتل، وقد فُسِّرَ بظنهم أن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففسر بإنكارِ الحِكمة، وإنكارِ القدر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وهذا هو ظنُّ السَّوْءِ الذى ظَنَّهُ المنافقُونَ والمشرِكُونَ به سبحانه وتعالى فى “سورة الفتح” حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ..} [الفتح: 6][18].اهـ
- وأخرجوا المؤمنين لمجرد قولهم: الله ربنا، كما قال تعالى { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج: 40]، ولو كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ـ كما يدعي ابن تيمية ـ لكذبوا هذه الآية، ولقالوا نحن أيضا نقرّ بأن ربنا الله، بل نزيد فنقول: ربنا الله وحده، ولكن لا نسلم بأنه لا إله إلا الله!!!
- وكانوا يشمئزون من مجرد ذكره تعالى وحده أمامهم كما قال تعالى {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
خلاصة لأقوال المشركين الشنيعة في حق الله
وبعد فهذا غيض من فيض مما ذكره الله عن المشركين مِن أقوال شنيعة كانوا فعلا يقولونها ويعتقدونها في حقه تعالى؛ وهو أنهم اتخذوا من دونه الأصنام لتنصرهم وتعزهم وتلحق الأذى برسله وأوليائه تعالى، وجعلوها ندا لله وعدلا يساوونها بالله، بل كانوا يسبون الله انتصارا لأصنامهم إذا سُبّت، ويشمئزون من مجرد ذكره وحده!!
ونسبوا لله البنات وهو ما لا يرتضونه لأنفسهم، قال تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 57 – 59]!
وكانوا يسيئون الظن فيه، ويشكّون في وجوده وسمعه وعلمه وحكمته وقدرته تعالى، فهم يعتقدون فيه العجز ـ حاشاه تعالى ـ عن إحياء الموتى، وهذا بحد ذاته إنكار لوجود الله، كما أقر بذلك ابن القيم.
فكيف يقال بعد كل هذا أن المشركين موحدون في الربوبية بحجة أنهم لو سئلوا عن الخالق ليقولن الله؟! مع أنهم هم أنفسهم وبنص القرآن أخرجوا المؤمنين من ديارهم لقولهم : ربنا الله؟!!
[1] «إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله» (ص53) لابن باز.
[2] «مجموع الفتاوى» (3/ 105)
[3] «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» (3/ 1592 ط عطاءات العلم)
[4] شرح كشف الشبهات للحازمي (4/ 7، ت.ش)
[5] جامع البيان ط هجر (13/ 434)
[6] فتح القدير للشوكاني (3/ 81)
[7] القيامة الكبرى (ص: 71)، عمر الأشقر، دار النفائس بالأردن، ط6/ 1995 م.
[8] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (1/ 267)
[9] أي حديث ” كذَّبني ابنُ آدم، ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني” انظر: آثار الشيخ المعلمي اليماني (11/ 440)
[10] آثار الشيخ المعلمي اليماني (11/ 442)
[11] جامع البيان ط هجر (20/ 652)
[12] جامع البيان ط هجر (20/ 653)، الدر المنثور للسيوطي، ط/هجر (13/ 239)، وأصل الحديث في البخاري كما سيأتي، ججج إذا أخفينا.
[13] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 321)
[14] وانظر: الشرك في القديم والحديث ص443، والآية بتمامها {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت: 22]
[15] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (1/ 267)
[16] البحر المحيط (8/ 149)
([17])جامع البيان ط هجر (21/ 12)
[18] زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 228)