التلقِّي بالقَبول هو وصفٌ للمتون والكتب المعتمدة في كل فن وعِلم من العلوم الإسلامية، وهو عبارة عن كثرة الجهود التي يقوم بها علماء المسلمين حول هذه المتون والكتب، شرحا، وتدريسا، وتحشية، وتعقيبا، ونقدا، بحيث يستمر هذا كله على مر الأيام وتعاقُب الأزمان حتى يتخرج بها العدد الوفير من أهل العلم الذين تربَّوا على هذه الكتب وحصَّلوها وخبَروها ظهرا وبطنا، ولفظا ومعنى، وجوهرا وشكلا.
والتلقي بالقبول على هذا النحو السابق مِنةٌ إلهية وعطِية ربانية، يمنحُها المولى عز وجل للمصطَفينَ من خَلقه من أهل العلم، ممن عُرفوا بالعلم والإخلاص معا، وليس من شرط اعتماد الكتاب ولا تحقُّقِ اتصافه بالقبول عند أهل العلم : أن يكون خاليا من المآخذ العلمية، ولا يوجد مشتغل بالعلم يستطيع أن يزعم هذا الزعم الواهي، إذ الكمال المطلق لا يتحقق في غير كتاب الله عز وجل، وآية ذلك أنه ما من كتاب أُجمِع على اعتماده عند العلماء إلا ولبعضهم فيه آثار أيدٍ، من الاستدراك، والتعقيب، والتتميم، ولم يكن وجود هذه الهنات بداعٍ إلى نبذه واطراحه ولا الغضّ والانتقاص من شأن صاحبه، ولا بمؤثر أيضا في مسألة التلقي بالقبول والاعتماد في الدرس.
وأضرب لك بعض الأمثلة توضح المقصود :
– منظومة “ حرز الأماني ووجه التهاني” في القراءات السبع القرآنية المتواترة، المشهورة بالشاطبية، من نظمِ الإمام الشاطبي المقرئ، رحمه الله، هذه المنظومة لا يختلف اثنان من المشتغلين بهذا العلم أنها أعمَد الكُتب في علم القراءات، ولا يصح أن يحل محلها غيرها أصلا، ومع ذلك فإن الناظم التزَم طريقة الرموز في التعبير عن القراء السبعة، حتى لقد ذم صنيعه الإمام أبو حيان الأندلسي، ووصَف طريقته بالإغلاق والإلغاز، وألَّف هو منظومة أخرى صرَّح فيها بأسماء القراء ورواتهم، ولم يستخدم الرموز، ومع ذلك ظلَّت الشاطبية هي المعتمدة وهي المعوّل عليها، وهُجِرت منظومة أبي حيان ولم تشتهر، ولم يأخذ بها الناس.
– الآجرومية، وعلى كثرة متون النحو التي عُملت للمبتدئين، وعلى ما أخَذه بعض الشراح على مصنفها رحمه الله ظلَّت هي الطريق السهل المعبَّد لدارس هذا العلم، حتى لقد جاوزت شروحها مائتي شرح وأكثر، بين قديم وجديد.
– السمرقندية، في علم البيان، قام الشيخ العلامة خليل الإسعردي رحمه الله بتعديلها، وإضافة بعض الأمور فيها، ليكون متنا جديدا معدلا، ومع ذلك لم يغير من أمر اعتمادها شيئا من قريب ولا من بعيد، وظلت هي المتن المتين المعتمد في أبواب الاستعارة، وشروحها هي الميادين الرحبة التي يتجلى فيها تحقيق هذه الأبواب.
وكذلك فعل الشيح خليل مع إيساغوجي، ولم يستبدل به أيضا، وكذلك فعل ابن كمال باشا مع ” مفتاح العلوم ” و ” الوقاية” و ” السراجية ” فقد قام بتغييرها وإصلاح ما فيها من الخلل،
ومع ذلك فليس لهذه التغييرات التي عَدَّل بها على كتب أسلافه- رونقٌ وقَبول وسيرورةٌ عند العلماء؛ ولذلك يقول حاجي خليفة عن تغييره للتنقيح: ” ولكنَّ الناس لم يلتفِتوا إلى ما فَعله، والأصل باقٍ على رواجِه، والفرع على التنزُّل في كساده”.
وقال عن تغييره للوقاية : ” هذا وأنت تعلم أن الأصل مع ما ذَكَره مرغوب، ومستعملٌ عند الجمهور، والفرعُ وإن كان مفيدا راجحا، لكنه متروك ومهجور، وهذه سُنَّة الله – تعالى – في آثار المنتقدِين على المتقدِّمين”.
وفي كتب الأسلاف أسرار ومزايا وأنفاس اختصَّهم الله بها مع مزيد الإخلاص وصِدق التوجُّه.
ولا يعرف قدر العلماء إلا العلماء، وأما المتزببون وأهل البطالة فيطيرون بكل هفوة، ويستعظمون كل كبوة، ولو أن الله أحيا واحدا من هؤلاء الذين يلمزونهم ونظَر إليه من دون أن يتكلم لبالَ على نفسه.
كذا من الدُّرّ النَّثِير( كُنَّاشة سامي الأزهري ) على التلغرام