مقالات في الصفات

تعريف الصفة عند المتكلمين والفرق بينها وبين الوصف….(مبحث هام)

تعريف الصفة عند المتكلمين والفرق بينها وبين الوصف….(مبحث هام)

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/766034880177203/
‘‘‘‘ومن أول ما يلزم في الكلام عن إثبات الصفات ونفيها بيان المقصود من “الصِّفَة”. والصفة: مصدر. يقال: وصفت الشيء وصفا وصفة، وقد بين شيخ المعجميين الأول الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) معنى الوصف بقوله: “الوصف: وصفك الشيء بحليته ونعته. ويقال للمُهْرِ إذا توجه لشيء من حسن السيرة: قد وصف المشي، أي وصفه لمن يريد منه … ” (1). وبين أن النعت هو وصف الشيء بما فيه، وذكر أن العرب العاربة تطلق النعت في أوجه الحسن والتمام خاصة (2).
وهذا يعني أن دلالة الوصف عند الخليل تنحصر في بيان الهيئة وإظهار الحال للشيء المراد وصفه، وهذا هو المعنى الذي قرره فيما بعد أحمد بن محمد بن علي المقري (ت770هـ) مستشهدا بمقولة العرب: وصف الثوبُ الجسم (3). على أن الخليل بن أحمد لم يشر إلى التفريق بين الوَصف والصِّفة من حيث الدلالة، وتبعه على ذلك ابن دريد أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي (ت321هـ) في “جمهرة اللغة” والأزهري أبو منصور محمد بن أحمد (ت370هـ) في “تهذيب اللغة” (4).


(1) – الخليل بن أحمد: العين ـ مادة (وصف) 7/ 162.
(2) – انظر السابق ـ مادة (نعت) 2/ 72.
(3) – راجع الفيومي: المصباح المنير ـ مادة (الوصف).

(4) – راجع ابن دريد: جمهرة اللغة ـ مادة وصف 3/ 83. وراجع الأزهري: تهذيب اللغة ـ مادة (وصف) 12/ 248.

ثم ظهر التمييز بين دلالة الوَصف ودلالة الصِّفَة عند الجوهري إسماعيل بن حماد (ت393هـ) وأبي الحسين أحمد بن فارس (ت395هـ)، فقال الجوهري: “وصفت الشيء وصفا وصفة، والهاء عوض من الواو … ، والصِّفَةُ كالعلم والسواد. وأما النحويون فليس يريدون بالصفة هذا؛ لأن الصِّفَة عندهم. هي النعت، والنعت هو اسم الفاعل نحو: ضارب، أو المفعول نحو: مضروب وما يرجع إليهما من طريق المعنى نحو مثل وشبه، وما يجري مجرى ذلك. يقولون: رأيت أخاك الظريف. فالأخ هو الموصوف، والظريف هو الصِّفَة؛ فلهذا قالوا: لا يجوز أن يضاف الشيء إلى صفته كما لا يجوز أن يضاف إلى نفسه؛ لأن الصِّفَة هي الموصوف عندهم .. ألا ترى أن الظريف هو الأخ” (1).
وقال ابن فارس: ” (الواو والصاد والفاء) أصل واحد هو تحلية الشيء. ووصفته أصفه وصفا. والصِّفَةُ: الأمارة اللازمة للشيء، كما يقال: وزنته وزنا، والزِّنَةُ: قدر الشيء” (2).
وهذا التمييز ـ في حقيقته ـ مذهب من عرفوا في تاريخ الفكر الإسلامي بلقب “الصفاتية أو مثبتي الصفات”، والذين لم يفرقوا بين الوصف والصفة في الدلالة هذا التفريق عرفوا بلقب “النفاة أو المعطلة” أي الذين لا يثبتون الصفات لله ـ عز وجل ـ باعتبارها معاني قائمة بذاته يلزم عنها وصفه ـ تعالى ـ بأنه قادر عالم حي، وإن قالوا: إن الله قادر عالم حي (3).


(1) – الجوهري: الصحاح ـ مادة (وصف).
(2) – ابن فارس: مقاييس اللغة ـ مادة (وصف) 6/ 115.

(3) – راجع الباقلاني: التمهيد ـ ص 213، 214. نشرة مكارثي.

والذي أريد أن أشير إليه هنا أن الفريق القائل بأن الله قادر عالم حي، دون أن يصدر في ذلك عن إثبات المعاني القائمة بالذات ـ لم يمتنع عن وصف الله ـ تعالى، ولم يجحد صفاته العلية، ولم ينف كونه ـ تعالى ـ موصوفا على الحقيقة بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم -، أو بما تثبته حجة العقل مما ظهر بأفعال الله ـ تعالى ـ وبديع صنعه؛ لكنهم ـ وفق أصولهم ـ تصوروا “الصِّفَة” تصورا قريبا من اصطلاح النحاة الذي سبقت الإشارة إليه في كلام الجوهري، وصرح بعضهم بأن الصفة تجري في إطلاق أهل اللغة على القول الدال على بعض أحوال الذات، كقولنا طويل، وقصير، وأحمق، وكريم (1).


(1) – انظر د/ أحمد محمود صبحي: الإمام يحيى بن حمزة وآراؤه الكلامية ـ ص 58.

والذي يترجح لدي أن التمييز بين الوَصف والصِّفَةِ في الدلالة ليس له أصل لغوي ولا شرعي، ولكنه صدر عن التأثر بالمذاهب الكلامية في مُنتهى القرن الرابع الهجري؛ لخلو المعاجم الأولى من الإشارة إليه، ولأنه ضرب من الكلام في بيان علاقة الصفات بالذات، ولم يثبت في رواية صحيحة أن أحدا من الصحابة والتابعين تكلم في هذا الباب قط، ولا روى فيه شيئا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. ولهذا ذهب ابن تيمية ـ مع شدة خصومته لفريق “النفاة” ـ إلى عدم التمييز بين الوصف والصفة لغة وشرعا، وإلى جواز إطلاق اللفظين على القول وعلى المعنى القائم بالموصوف؛ فقال: “الصفة مصدر وصفت الشيء أصفه وصفا وصفة؛ مثل: وعد وعدا وعِدة … ، وهم يطلقون اسم المصدر على المفعول، كما يسمون المخلوق خلقا، ويقولون: درهم ضرب الأمير فإذا وصف الموصوف بأنه وسع كل شيء رحمة وعلما؛ سمي المعنى الذي وصف به بهذا الكلام صفة؛ فيقال للرحمة والعلم صفة بهذا الاعتبار. ثم كثير من المعتزلة ونحوهم يقولون: الوصف والصفة اسم للكلام فقط من غير أن يقوم بالذات القديمة معان. وكثير من متكلمة الصفاتية يفرقون بين الوصف والصفة فيقولون: الوصف هو القول، والصفة المعنى القائم بالموصوف. وأما المحققون فيعلمون أن كل واحد من اللفظين يطلق على القول تارة وعلى المعنى أخرى” (1).


(1) – ابن تيمية: مجموع الفتاوى ـ6/ 340، 341.

ويؤكد هذا التحقيق التيمي ما استشهد به من رواية البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ ” فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها؛ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أخبروه أن الله يحبه” (1).
قال ابن تيمية: “فأقره النبي – صلى الله عليه وسلم – على تسميتها صفة الرحمن، وفي هذا المعنى أيضا آثار متعددة؛ فثبت بهذه النصوص أن الكلام الذي يخبر به عن الله صفة له، فإن الوصف هو الإظهار والبيان للبصر أو السمع” (2).
إن ابن تيمية بذلك يوافق الخليل بن أحمد وابن دريد والأزهري في التوحيد بين الوصف والصفة من حيث الدلالة، والمعنى هو الإظهار والبيان للبصر أو السمع.
وهذا يعني أن إطلاق الصفة على المعنى أو الشيء الذي يوجد بالموصوف مع إنكار إطلاقها على القول المعبر عن خصوصية للذات لا تستقل بنفسها، ويكفى في تصورها مجرد الذات ـ لا يعدو أن يكون تحكما اصطلاحيا يدل على فكرة مذهبية نشأت بعد عصر التنزيل، وكذلك حصر الإطلاق في الدلالة الثانية دون الأولى؛ إذ لا يمكننا أن ننسب أحد الاصطلاحين إلى دلالة اللغة في عصر التنزيل، وقد أشرت من قريب إلى أن أول من فرق بين دلالتي الوصف والصفة هو الجوهري (ت393هـ) أو ابن فارس (ت395هـ).


(1) – أخرجه البخاري: كتاب التوحيد ـ باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى. وأخرجه مسلم واللفظ له: كتاب صلاة المسافرين وقصرها ـ باب فضل قراءة “قل هو الله أحد”.

(2) – ابن تيمية: السابق ص 340.

وبناء على هذا لا يكون أحد الفريقين بادعاء إثبات الصفات الإلهية أولى من الآخر، ولا يمكننا أن نقبل اتهام المعتزلة العريض بأنهم “نفاة الصفات ومعطلة الذات عن صفاتها” على إطلاقه كما يورده خصومهم مذهبا لعموم المعتزلة ومن وافقهم؛ لأنهم في الحقيقة ـ وفق الاستعمال اللغوي الأول ـ لم ينفوا الصفات التي وصف الله ـ تعالى ـ بها نفسه، ولم يجحدوا كونه ـ تعالى ـ موصوفا بها على الحقيقة فيما لم يزل، ولكنهم نفوا وجود معان لهذه الصفات تقوم بالذات الإلهية مع استقلالها عنها في المفهوم؛ لشبهة تعدد القدماء المؤدية إلى التعدد في الألوهية وفق أصولهم وتحديدهم لدلالة “الغَيْرِيَّة”.
ومما يؤكد أن ذلك التمييز لايعدو أن يكون تحكما اصطلاحيا محدثا نص لأبي منصور البغدادي عبد القاهر بن طاهر (ت429هـ) .. قال: “اختلفوا في معنى الوصف والصفة؛ فزعمت الجهمية أنهما راجعان إلى وصف الواصف لغيره أو لنفسه، ولم يثبتوا صفة أزلية.
وقال أبو الحسن الأشعري: إن الوصف والصفة بمعنى واحد، وكل معنى لا يقوم بنفسه فهو صفة لما قام به ووَصْفٌ له ..
وقال أكثر أصحابنا: إن صفة الشيء ما قامت به، كالسواد صفة للأسود لقيامه به، ووصف الشيء خبر عنه، وقول القائل: زيد عالم. صفة للقائل لقيامه به، ووصف لزيد لأنه خبر عنه. والعُلوم والقُدَرُ والألوان والأكوان وكل عرض سوى الخبر عن الشيء صفات وليست بأوصاف” (1).


(1) – البغدادي: أصول الدين ـ ص 128، 129.

أقول: ولو كانت دلالة ” الصِّفَة ” المحددة أنها المعنى القائم بالذات دلالة شرعية زائدة على المعنى اللغوي كدلالة الصلاة والصوم والزكاة؛ لما اختلف أحد من المسلمين عليها. وإذا لم يُحَدَّد المعنى بنص شرعي يجعل للفظة “الصفة” دلالة جديدة؛ فإنها باقية على دلالتها اللغوية الأولى، خاصة إذا تعلق نفيها وإثباتها بالقرآن والسنة؛ فالأشاعرة ـ على سبيل المثال ـ لا يقولون: إن المعتزلة ينفون “الصفات الإلهية” وفق اصطلاحنا، وإنما يقولون: إن المعتزلة ينفون صفات الله القديمة على الإطلاق، وهذا يشمل ما وصف الله به نفسه في القرآن والسنة من الصفات الإلهية (1)، والماتريدية يلعنون المعتزلة ويصرحون بكفرهم في نفي صفات الله ـ جل وعلا (2).
وقبالة ذلك تقرأ في كتب المعتزلة تسفيه مثبتى المعاني القائمة بالذات؛ فالقاضي عبد الجبار في “شرح الأصول الخمسة” من تعليق الإمام الزيدي أحمد بن الحسين” مانكديم “يفصل آراء المتعزلة في وجه استحقاق الله ـ تعالى ـ لصفاته الذاتية؛ نحو: قادر، وعالم، وحي، وموجود. ثم يقول: “وعند الكُلَّابِيَّةِ أنه ـ تعالى ـ يستحق هذه الصفات لمعان أزلية، وأراد بالأزلي القديم، إلا أنه لما رأى المسلمين متفقين على أنه لا قديم مع الله ـ تعالى ـ لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك. ثم نبغ الأشعري وأطلق القول بأنه ـ تعالى ـ يستحق هذه الصفاتِ لمعانٍ قديمة؛ لِوَقاحته وقِلَّة مُبالاته بالإسلام والمسلمين” (3).
أريد أن أقول: إننا لو تأملنا أمر هذا الخلاف في ضوء الدلالة اللغوية في العصر الأول وَفْقَ ما تقدمه المعاجم الأولى من جهة، وفي ضوء نصوص المعتزلة أنفسهم بمعزل عن اتهامات خصومهم وإلزاماتهم الجدلية من جهة أخرى؛ فسنجد أن الخلاف في حقيقته لا يتعلق بمطلق إثبات صفات لله ـ عز وجل ـ وإنما يتعلق بتحديد علاقة هذه الصفات بالذات الإلهية، وبيان وجه استحقاق الذات الإلهية لصفاتها. وهذا المبحث برمته مُحدَثٌ لا يُعرَفُ أن أحدا من الصحابة أو التابعين لهم بإحسان خاض فيه ألبته. وآية ذلك ما جاء في كتاب “الحيدة” للإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني (ت240هـ) وهو من أصحاب الإمام الشافعي. وهذا الكتاب حكاية للمناظرة المشهورة بين الكناني وبشر المريسي في مجلس الخليفة المأمون (ت218). وقد التزم الكناني في كلامه منهج أهل الحق في الإثبات والنفي فقدم بين يديه بقوله: “وعلى الخلق جميعا أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله”(4)….’’’’
كذا من بحث بعنوان تأملات في مواقف المتكلمين من الصفات الإلهية والقدر (1 – 2)، إعداد د. مصعب الخير إدريس السيد مصطفى الإدريسي من قسم العقيدة والفلسفة ـ كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد ـ باكستان.


(1) – راجع الأشعري: الإبانة ـ ص 143، 158. والباقلاني: التمهيد ـ ص217 وما بعدها. والبغدادي: أصول الدين ـ ص90، والفرق بين الفرق ـ ص 114. والجويني: الإرشاد ص 79.
(2) – راجع ـ على سبيل المثال ـ أبا المعين النسفي: التمهيد ـ ص 167، 168.
(3) – القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة ـ ص 183.
(4) – عبد العزيز الكناني: الحيدة ـ ص 56.
وانظر مناظرة الكناني على

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/428498240597537/

السابق
ﺍﻟﻘﺎﺋﻠﻮﻥ ﺑﺠﻮﺍﺯ ﺇﺧﺮﺍﺝ ﺍﻟﻘﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﺯﻛﺎﺓ ﺍﻟﻔﻄﺮ من فقهاء السلف والخلف (منقول)
التالي
هل صحيح أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله تعالى قد مرّ في حياته بثلاث مراحل؟ (منقول)