الجصاص: فالظن على أربعة أضرب: محظور ومأمور به ومندوب إليه ومباح ….
(د 9، آيات الأحكام، أنواع الظن)
قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص في كتابه أحكام القرآن: وقوله تعالى – {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} اقتضت الآية النهي عن بعض الظن لا عن جميعه ; لأن قوله: {كثيرا من الظن} يقتضي البعض وعقبه بقوله {إن بعض الظن إثم} فدل أنه لم ينه عن جمعيه وقال في آية أخرى: {, وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} وقال: {وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} فالظن على أربعة أضرب: محظور ومأمور به ومندوب إليه ومباح فأما الظن المحظور فهو سوء الظن بالله – تعالى –
حدثنا عبد الباقي …. عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل}. وحدثنا عبد الباقي ….. سمعت واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: {أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء.} …..
فحسن الظن بالله فرض، وسوء الظن به محظور منهي؛ وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور مزجور عنه , وهو من الظن المحظور المنهي عنه.
وحدثنا محمد بن بكر …. عن صفية قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية بنت حيي قالا: – سبحان الله – يا رسول الله قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجري الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال سوءا}.
وحدثنا عبد الباقي …. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث} فهذا من الظن المحظور , وهو ظنه بالمسلم سوءا من غير سبب يوجبه , وكل ظن فيما له سبيل إلى معرفته مما تعبد بعلمه فهو محظور ; لأنه لما كان متعبدا تعبد بعلمه ونصب له الدليل عليه فلم يتبع الدليل وحصل على الظن كان تاركا للمأمور به ; وأما ما لم ينصب له عليه دليل يوصله إلى العلم به , وقد تعبد بتنفيذ الحكم فيه فالاقتصار على غالب الظن , وإجراء الحكم عليه واجب. وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول شهادة العدول وتحري القبلة وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف , فهذه وما كان من نظائرها قد تعبدنا فيها بتنفيذ أحكام غالب الظن.
وأما الظن المباح فالشكاك في الصلاة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتحري والعمل على ما يغلب في ظنه , فلو غلب ظنه كان مباحا , وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا , ونحوه ما روي عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية , وإنك لم تكوني حزتيه ولا قبضتيه , وإنما هو مال الوارث , وإنما هما أخواك وأختاك , قال: فقلت: إنما هي أسماء فقال: ألقي في روعي أن ذا بطن خارجة جارية فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه.
وحدثنا عبد الباقي ….. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا ظننتم فلا تحققوا} فهذا من الظن الذي يعرض بقلب الإنسان في أخيه مما يوجب الريبة فلا ينبغي أن يحققه.
وأما الظن المندوب إليه فهو حسن الظن بالأخ المسلم , هو مندوب إليه مثاب عليه.
فإن قيل: إذا كان سوء الظن محظورا فواجب أن يكون حسن الظن واجبا قيل له: لا يجب ذلك ; لأن بينهما واسطة , وهو أن لا يظن به شيئا فإذا أحسن الظن به فقد فعل مندوبا إليه.اهـ