التأويل

التأويل مذهب سلفى وعربى أصيل يستخدموه في كلامهم (منقول)

الحلقة الحادية والستون

🌺التأويل مذهب سلفى وعربى أصيل يستخدموه في كلامهم .

قد يظن البعض وذلك بسبب الرهج الذي يثار أمام البصائر والعقول في هذه القضية أن التأويل مذهب مبتدع ومنهج ضلال، لا سيما إذا مثل له بتأويلات المبتدعة من الفرق الباطنية وتعطيلات الجهمية وغيرها من الفرق التي اتخذت التأويل المتكلَّف مركباً وجسراً تعبر منه لهدم الدين ونقض الشريعة، والحق الذي لا يماري فيه منصف عاقل أن التأويل منهج سديد لابد منه لفهم الكتاب والسنة، ومذهب ثابت عن جماعات من السلف كما نقل ذلك علماء الأمة وأئمتها. وقد نقلنا جانب من أقوال العلماء في الحلقة الماضية

ونحن نقول: لنفترض أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح التصريح بتأويل شيء من ذلك، أي حرج على من سلك سنن العرب في فهم الكلام العربي، وحمل هذه النصوص على ما تجيزه لغتهم، والعرب شائع في لسانهم تسمية الشيء باسم غيره إذا كان مجاوراً له أو كان منه بسبب، كتسمية المطر بالنوء، والقوة باليد، وشائع أيضاً عندهم نسبة الفعل إلى غير فاعله، إذا كان برضاه أو بأمره ونحو ذلك، كأن يقال: فعل الأمير كذا، وضرب الأمير فلاناً، والفاعل والضارب حقيقة عامله، وإنما نسب الفعل إليه لأنه أمر به أو رضي به، وعلى الجملة فإن هذا ونظائره كثير دارج على ألسنتهم، ولا سبيل إلى إنكاره وجحده، والقرآن وأحاديث الرسول ‘ جاءا بلسان العرب ولغتهم.
على أن الكلام إذا خلا من المجازات والاستعارات سمج وأصبح فجاً ثقيلاً لا تقبله الأسماع ولا تهضمه.

قال الحافظ: (قال المازري كان النبي ‘ يخاطب العرب بما تفهم، ويخرج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس ليقرب تناولهم لها، فعبر عن زوال المانع ورفعه عن الأبصار بذلك) اهـ.
ثم قال الحافظ ابن حجر
(قال عياض: كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيراً، وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى: ( جناح الذل ) فمخاطبة النبي ‘ لهم بـ ” رداء الكبرياء على وجهه ” ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يتضح له، وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها، وإما أن يؤولها، كأن يقول: استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله المانعِ إدراكَ أبصارِ البشرِ مع ضعفها لذلك رداءَ الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته وموانع عظمته) اهـ.
ورجّح الإمام العزبن عبد السلام – رحمه الله – طريقة التأويل فقال (إتحاف السادة المتقين 2 / 109):
(طريقة التأويل بشرطها أقربها إلى الحق) وعلق الإمام الزبيدي رحمه الله تعالى على قول العز بقوله (ويعني بشرطها أن يكون على مقتضى لسان العرب) اهـ.

وقال الإمام العلامة الآلوسي رحمه الله تعالى (روح المعاني 3 / 89) حاثاً على حمل المتشابه على المجاز: (الحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول) اهـ.
وقال أيضاً (والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف) اهـ.
فأثبت رحمه الله للسلف تأويل بعض الآيات وأنها مما أُجمِع على تأويلها.

فالملخص :
(مذهب السلف هو عدم الخوض في أي تأويل أو تفسير تفصيلي لهذه النصوص، والاكتفاء بإثبات ما أثبته الله تعالى لذاته، مع تنزيهه عزّ وجلّ عن كل نقص ومشابهة للحوادث، وسبيل ذلك التأويل الإجمالي لهذه النصوص وتحويل العلم التفصيلي بالمقصود منها إلى علم الله عزّ وجلّ، أما ترك هذه النصوص على ظاهرها دون أي تأويل لها سواء كان إجمالياً أم تفصيلياً فهو غير جائز، وهو شيء لم يجنح إليه سلف ولا خلف…. ولكنك عندما تنزه الله حيال جميع هذه الآيات عن مشابهة مخلوقه في أن يتحيز في مكان وتكون له أبعاد وأعضاء وصورة وشكل، ثم أثبتَّ لله ما أثبته هو لذاته على نحوٍ يليق بكماله وذلك بأن تكِلَ تفصيل المقصود بكلٍّ من هذه النصوص إلى الله جلّ جلاله سَلِمْتَ بذلك من التناقض في الفهم وسَلَّمْتَ القرآن من توهم أي تناقض فيه، وهذه هي طريقة السلف رحمهم الله ألا تراهم يقولون عنها ” أمروها بلا كيف ” إذ لولا أنهم يؤولونها تأويلاً إجمالياً بالمعنى الذي أوضحنا لما صحّ منهم أن يقولوا ذلك…

ومذهب الخلف الذين جاءوا من بعدهم هو تأويل هذه النصوص بما يضعها على صراط واحد من الوفاق مع النصوص المحكمة الأخرى التي تقطع بتنزّه الله عن الجهة والمكان والجارحة…
واعلم أن مذهب السلف في عصرهم كان هو الأفضل والأسلم والأوفق مع الإيمان الفطري المرتكز في كلٍّ من العقل والقلب.
ومذهب الخلف في عصرهم أصبح هو المصير الذي لا يمكن التحول عنه، بسبب ما قامت فيه من المذاهب الفكرية والمناقشات العلمية…. والمهم أن تعلم بأن كلاًّ من المذهبين منهجان إلى غاية واحدة، لأن المآل فيهما إلى أن الله عزّوجلّ لا يشبهه شيء من مخلوقاته، وأنه منزّه عن جميع صفات النقص، فالخلاف الذي تراه بينهما خلاف لفظي وشكلي فقط) اهـ.
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى (تعريف عام بدين الإسلام ص/81):
(القرآن أنزل بلسان العرب، وخوطب به العرب، وكل ما يفهمه منه العربي الصميم وفق قواعد العربية ومصطلح أهلها – حقيقة حيث ينصرف إلى الحقيقة أو مجازاً حيث يفهم منه المجاز – يكون فهماً صحيحاً، ولكن اللغات كلها إنما وضعت للتعبير عن المعاني الأرضية المادية، فلا تستطيع أن تحيط بالمشاعر الإنسانية فضلاً عن الصفات الإلهية) اهـ.

وهذه حقيقة لا ريب فيها بين العقلاء، إذ الكلام يتعين في الحقيقة والظاهر متى أمكن ذلك، وإلا فبالمجاز مندوحة وسَعة، وبما أن هذه الألفاظ حقائقها مادية حسية إذن من الخطأ بمكان حمل اللفظ عليها، بل يتعين الانصراف إلى المجاز.
فإذا كان الأمر كذلك، فلا ملامة ولا حرج حينئذ على علماء الأمة إذا فسروا كلام الله تعالى وكلام رسوله ‘ العربيين على طريقة العرب وحسب أسلوب تخاطبهم وتحاورهم وبما يليق بجلال الله تعالى، وبما يدفع شبه المشبهين، وهل هم في هذا إلا مهتدون بهدي جمهور السلف الذين فهموا عن الله تعالى وعن رسوله ‘، لكنهم – كما ذكرنا – لم يتطرقوا – في الغالب – لإعلانه والتصريح به لعدم الحاجة إلى ذلك في عصورهم، ومضى قرنهم على هذا.

وهكذا كان الحال مع الذين جاءوا من بعدهم، إلى أن جاء زمن نبتت فيه رؤوس البدعة، ورفع فيه أهل الزيغ عقيرتهم، وجابهوا الناس بما لم يكن لهم به عهد، واستولوا بمقالاتهم الفاسدة على عقول العامة، وحملوا كلام الله تعالى وكلام رسوله ‘ على ما لا يجوز حملهما عليه من المعاني، حينها تعين على علماء أهل السنة الذود عن عقائد المسلمين، وغاية ما فعلوه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ هو أنهم جهروا بما كان يجتنب جمهور السلف الصالح من الصحابة والتابعين الجهر به، لعدم الحاجة إليه في أزمنتهم.
قال الإمام العز بن عبد السلام (فتاوى العز بن عبد السلام ص / 22) رحمه الله تعالى:
(وليس الكلام في هذا – يعني التأويل – بدعة قبيحة، وإنما الكلام فيه بدعة حسنة واجبة لَمَّا ظهرت الشبهة، وإنما سكت السلف عن الكلام فيه إذ لم يكن في عصرهم من يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما لا يجوز حمله عليه، ولو ظهرت في عصرهم شبهة لكذبوهم وأنكروا عليهم غاية الإنكار، فقد رد الصحابة والسلف على القدرية لما أظهروا بدعتهم، ولم يكونوا قبل ظهورهم يتكلمون في ذلك) اهـ.
(1/183)

وقال الشيخ الإمام القدوة الرباني عدي بن مسافر الشامي – رحمه الله تعالى – (اعتقاد أهل السنة والجماعة ص / 26):
(ونؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، فإن كل ما تمثل في الوهم فهو مُقدِّرُه قطعاً وخالقُهُ، وهذا الذي درج عليه السلف قبل ظهور الأهواء وتشعب الآراء، فلما ظهرت البدع وانتشر في الناس التشبيه والتعطيل فزع أهل الحق إلى التأويل)’اهـ.
وهذا الذي قاله رضي الله عنه هو عين ما يراه الأشاعرة ويعتقدونه، إذ لولا ظهور الفتن ومقالات أهل الزيغ وتشويشهم على عقائد العامة ما صرحوا وبينوا ما كان السلف يعتقدونه إجمالاً ويمرون عليه مروراً.

وقال العلامة ملا على القاري – رحمه الله تعالى – معتذراً عن علماء الأمة لأخذهم بالتأويل (مرقاة المفاتيح 2 / 136): (ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح – معاذ الله أن يظن بهم ذلك – وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك، لكثرة المجسمة والجهمية وغيرها من فرق الضلال، واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم، ومن ثم اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك) اهـ.
وقال الإمام الزركشي – رحمه الله تعالى – (البرهان في علوم القرآن 2/ 209):
(قلت وإنما حملهم على التأويل وجوب حمل الكلام على خلاف المفهوم من حقيقته، لقيام الأدلة على استحالة المشابهة والجسمية في حق البارئ تعالى) اهـ.
وقال الحافظ بن حجر – رحمه الله تعالى – (مرقاة المفاتيح 1/134):

السابق
سلسلة تأويلات السلف لنصوص الصفات ١ (منقول)
التالي
التحقيق المبارك فيما روي في الحد عن ابن المبارك ـ رحمه الله ـ