التأويل

اختلاف السلف والسلفية في تأويل حديث “أتيته هرولة ” ينقله الدبيخي من الوهابية

«أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعا ودراسة» (ص178):
«‌‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
اختلف أهل العلم في معنى قوله: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) على قولين:
الأول: أن المراد به ضرب مثل لكرم الله وجوده على عبده، ومعناه: أن العبد إذا تقرب إلى الله تعالى بالطاعة والأعمال الصالحة، تقرب الله إليه بالثواب والرحمة والكرامة ومضاعفة الأجر، أو زاده قربًا إليه، فمثَّل القليل من الطاعة بالشبر -أي قدر شبر- والزيادة عليه بالذراع، وبذل الجهد من الطاعة بالمشي، وقابل كلًا منها بما هو أقوى وأزيد، تكرمًا منه وفضلًا.
وعليه، فلا يؤخذ من هذا الحديث إثبات الهرولة صفة لله تعالى.
وهذا التفسير للحديث هو ظاهر كلام قتادة -رحمه الله تعالى- حيث قال بعد روايته لهذا الحديث: “والله أسرع بالمغفرة”.
كما أنه مروي عن الأعمش وهو قول إسحاق بن راهويه وابن قتيبة
‌‌_
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (19/ 397)، وحكم المحقق -شعيب الأرنؤوط- على إسناده بالصحة، وأخرجه أيضًا البغوي في شرح السنة (5/ 23)، وقال عنه: “صحيح”، وانظر: إبطال التأويلات (2/ 450).
(2) هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد الكوفي، شيخ المقرئين والمحدثين، ثقة حافظ، كان من أقرأ الناس للقرآن، وأعرفهم بالفرائض، وأحفظهم للحديث، رأى أنس بن مالك وحدَّث عنه، لكنه مع إمامته كان مدلِّسًا، توفي رحمه الله سنة ثمان وأربعين ومائة (148 هـ)، وقيل غير ذلك. [انظر: تاريخ بغداد (9/ 4)، والسير (6/ 226)، وتذكرة الحفاظ (1/ 154)، وتقريب التهذيب (1/ 392)، وشذرات الذهب (1/ 220)، وتقدم ذكر شيء من أقوال أهل العلم عنه ص (130)]»

===================

وأبي يعلى وابن تيمية، عليهم رحمة الله، وإليه ذهب الشيخ عبد الله الغنيمان وعليه عامة أهل التأويل من شراح الحديث وغيرهم.
قال الترمذي: “ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، يعني: بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إليَّ العبد بطاعتي وما أمرت، أُسْرِع إليه بمغفرتي ورحمتي”.
وقال إسحاق بن راهويه في معنى هذا الحديث: “يعني: من تقرب إلى الله شبرًا بالعمل تقرب الله إليه بالثواب باعًا”.
وقال ابن قتيبة: “وإنما أراد: من أتاني مسرعًا بالطاعة، أتيته بالثواب أسرع من إتيانه فكنى عن ذلك بالمشي والهرولة”.
وقال أبو يعلى: “تقرب العبد إليه بالأعمال الصالحة، وأما تقربه إلى عبده فبالثواب والرحمة والكرامة”.
وقال ابن تيمية: “ولا ريب أن الله تعالى جعل تقربه من عبده جزاءً
‌‌_
(1) انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 271).
(2) انظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (3/ 94)، وأعلام الحديث للخطابي (4/ 2358)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 384)، وشرح السنة للبغوي (5/ 26)، والمعلم للمازري (3/ 184)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 174)، والمفهم للقرطبي (7/ 8)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/ 261)، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبي عبد الله القرطبي (152)، وشرح صحيح مسلم للنووي (17/ 6)، وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعة (192)، وفتح الباري (13/ 513 – 514)، ومنة المنعم في شرح صحيح مسلم لصفي الرحمن المباركفوري (4/ 332).
(3) جامع الترمذي (عارضة 13/ 81)، وانظر: شرح السنة للبغوي (5/ 26).
(4) مسائل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، رواية حرب الكرماني (345).
(5) تأويل مختلف الحديث: (209).
(6) إبطال التأويلات: (2/ 289)، وانظر: (1/ 231)، و (2/ 449 – 450)


لتقرب عبده إليه؛ لأن الثواب أبدًا من جنس العمل، كما قال في أوله: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم) … وإذا كان كذلك فظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة …
ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه، شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة، ولكن قد يقال: عدم ظهور هذا للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه”.
وقال أيضًا: “فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر زاده الرب قربًا إليه، حتى يكون كالمتقرب بذراع”.
واستدل هؤلاء بما يلي:
1 – دلالة السياق،
فإنه قال: (ومن أتاني يمشي … )، ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ لا يتقرب إليه بالمشي فقط، بل يكون تارة بالمشي كالسير إلى المساجد، ومشاعر الحج، والجهاد في سبيل الله ونحوها، وتارة يكون بغير المشي كالصيام، والركوع والسجود ونحوها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء)، رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صار المراد بالحديث: مجازاة الله تعالى العبد على عمله، وكان هذا هو ظاهر الحديث، بدلالة هذه القرينة المفهومة من السياق، وليس تفسيره بهذا خروجًا بالحديث عن ظاهره، بل هو ظاهره.
‌‌_
(1) بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 150 – 152).
(2) مجموع الفتاوى (5/ 510)، وانظر: (5/ 238)، و (35/ 371)، والفتاوى الكبرى (2/ 397)، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 268، 271).
(3) صحيح مسلم (4/ 445) ح (482).
(4) انظر: بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 152)، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى للعثيمين (71)

=============

وأما أهل التأويل فإنهم قالوا بهذا القول: فرارًا من التشبيه والتمثيل، حيث زعموا -كعادتهم- أن حمل اللفظ على ظاهره وحقيقته يلزم منه التشبيه، ولذلك أوجبوا صرفه عن ظاهره على حد زعمهم.
فأهل التأويل، وإن قالوا: بهذا القول، إلا أنهم لا يجعلونه هو ظاهر الحديث بل يجعلونه مجازًا فيه، فمنزعهم في هذا القول يختلف عن منزع القائلين به من أهل السنة.
قال النووي: “هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره”.
وقال ابن حجر: “والحاصل أن
الثواب راجح على العمل، بطريق الكم والكيف، ولفظ القرب والهرولة مجاز على سبيل المشاكلة، أو الاستعارة، أو إرادة لوازمها”.
2 – استدل أبو يعلى -رحمه الله- بأن الحديث جاء مفسرًا في بعض ألفاظه، حيث روي بلفظ: (من جاء يمشي أقبل الله إليه بالخير يهرول)، لكن إسناده ضعيف. ولكن جاء هذا الحديث عند ابن حبان من طريق أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: (وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة، وإن هرول سعيت إليه، والله أوسع بالمغفرة).
‌‌_
(1) وقد وافقهم ابن قتيبة -رحمه الله- في كون الحديث إذا حمل على الصفة أفاد التمثيل، انظر: تأويل مختلف الحديث (209).
(2) شرح صحيح مسلم (17/ 6)، وانظر: (17/ 15).
(3) فتح الباري (13/ 514)، وانظر: (13/ 513).
(4) رواه أبو يعلى في إبطال التأويلات (2/ 443)، وانظر: (1/ 231) (2/ 290)، وسنده ضعيف، لأن فيه إسحاق بن إبراهيم الحنيني -أبو يعقوب المدني- قال عنه النسائي في الضعفاء والمتروكون (54): “ليس بثقة”، وقال البخاري: فيه نظر، وقال ابن عدي: ضعيف، ومع ضعفه يكتب حديثه. [انظر: تهذيب التهذيب (1/ 201)]، وقال ابن حجر في التقريب: (1/ 79): “ضعيف”.
(5) صحيح ابن حبان (2/ 100) ح (376)، وحكم عليه المحقق -شعيب الأرناؤوط- بالصحة

==============

وجاء عند الإمامِ أحمد من طريق أبي هريرة -رضي الله عنه- -أيضًا- بلفظ (وإن تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا جاءني يمشي جئته أهرول، له المن والفضل).
القول الثاني: أن (الهرولة) صفة فعلية خبرية، ثابتة لله تعالى بهذا الحديث: (وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).
وقد صرح بكونها صفة لله تعالى بعض العلماء المعاصرين، كأعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، والشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-، وقد أطال النفس في تقرير وإثبات ذلك.
وعلى هذا القول ظاهر كلام الهروي وأبي موسى المديني، عليهما رحمة الله:
أما الهروي فقد عقد بابًا بعنوان: “باب الهرولة لله عزَّ وجلَّ”، ثم ساق تحته هذا الحديث.
وأما أبو موسى المديني
فقد قال: “في الحديث عن الله تبارك وتعالى: (من أتاني يمشي أتيته هرولة)، وهي مشي سريع بين المشي والعدو”.
وأما اللجنة الدائمة فقد قالوا -بعد أن سُئلوا: هل لله صفة الهرولة؟ -: “نعم، صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به”.
وقد وقع على هذه الفتوى كل من: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ
‌‌_
(1) المسند (16/ 178) ح (10253)، وقال المحقق: “هذا إسناد حسن … قوله: (له المن والفضل) هو من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو من بعض الرواة، والله أعلم “.
(2) الأربعين في دلائل التوحيد (79).
(3) المجموع المغيث (3/ 496).
(4) فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 196)، وانظر: تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي للدكتور عبد الرزاق البدر (169)

======

عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الله بن قعود.
وقال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: “صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح … وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها، من غير تكييف ولا تمثيل، لأنه أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، فوجب علينا قبولها بدون تكييف، لأن التكييف قول على الله بغير علم، وهو حرام، وبدون تمثيل لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] “.
وأجاب رحمه الله عن استدلال أصحاب القول الأول، بأن التقرب إلى الله تعالى لا يختص بالمشي فقال: “الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر، فيكون المعنى: من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي، لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها، كالمشي إلى المساجد للصلاة، أو من ماهيتها، كالطواف والسعي، والله تعالى أعلم”.
وعمدة أصحاب هذا القول هو هذا الحديث، فقالوا: إن ظاهره يدل على إثبات هذه الصفة لله تعالى.


‌‌_
(1) إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار (24)، وانظر: صفات الله عزَّ وجلَّ الواردة في الكتاب والسنة لعلوي السقاف (262).
(2) القواعد المثلى (72).
(3) انظر: إزالة الستار (24 – 31)، والقواعد المثلى (70)

الكتاب: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعا ودراسة

المؤلف: د. سليمان بن محمد الدبيخي

أصل الكتاب: رسالة دكتوراه – الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية – قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين، ١٤٢٤ هـ

الناشر: مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية

الطبعة: الأولى، ١٤٢٧ هـ

عدد الصفحات: ٧٩٣

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

تاريخ النشر بالشاملة: ٢ ربيع الآخر ١٤٤٢

السابق
وأين الذين تنمروا علينا وراحوا ينقلون لنا نصوص أئمتنا الأشاعرة كالغزالي والعز والتفتازاني … فهل هذا هو العقل والضرورة والفطرة وعقيدة العوام التي يحدثنا عنها ابن تيمية والوهابية ؟!!! إن هذا أقرب إلى الهلوسة والهذيان من كونه عقيدة!!!
التالي
تفسير الإمامين الرازي والقرطبي لقوله تعالى قوله تعالى: فإنما يقول له كن فيكون