الاجتهاد والتقليد واللامذهبية عند الوهابية

هل يلزم العامي بمذهب معين من المذاهب الفقهية الأربعة أم يجوز له أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟

قال أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله في «أدب المفتي والمستفتي» (ص161):
«هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟ لينظر، إن كان منتسبًا إلى مذهب معين بنينا ذلك على وجهين2، حكاهما القاضي حسين: في أن العامي هل له مذهب أولا؟
“أحدهما”: أنه ‌لا ‌مذهب ‌له، لأن المذهب إنما يكون لمن يعرف الأدلة، فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من شافعي، أو3 حنفي، أو غيرهما4.
“والثاني”5: وهو الأصح6 عند القفال المروزي، أن “له مذهبًا”7 لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، ورجحه على غيره فعليه الوفاء بموجب اعتقاده ذلك.
فإن كان شافعيًّا لم يكن له أن يستفتي حنفيًّا، ولا يخالف إمامه، فقد8 ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه، وإن لم يكن قد انتسب إلى مذهب معين فينبني ذلك فيه على وجهين ابن برهان: في أن العامي: هل يلزمه9 أن يتمذهب بمذهب معين؟ يأخذ برخصه وعزائمه؟
أحدهما: لا يلزمه ذلك كما لم10 يلزم في عصر أوائل الأمة أن يخص

العامي عالمًا1 معينًا “بتقليده”2.
قلت3: فعلى هذا هل4 له أن يستفتي على أي مذهب شاء؟ أو يلزمه أن يبحث حتى يعلم علم مثله أسد المذاهب وأصحها أصلا فيستفتي أهله5؟
فيه وجهان مذكوران كالوجهين اللذين سبقا في إلزامه بالبحث عن الأعلم، والأوثق من المفتين.
“والثاني”: يلزمه ذلك، وبه قطع الكيا أبو الحسن، وهو جار “له”6 في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأرباب سائر العلوم، ووجهه أنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعًا هواه، ومتخيرًا بين التحريم والتجويز، وفي ذلك انحلال ربقة7 التكليف بخلاف العصر الأول، فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث حينئذ قد مهدت وعرفت، فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين، وهذا أولى بإيجاب الاجتهاد فيه على العامي مما سبق ذكره في الاسفتاء، ونحن نمهد له طريقًا يسلكه في اجتهاده سهلا، فنقول:
أولا: ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي، والميل إلى ما وجد عليه أباه، وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة، وغيرهم من الأولين، وإن كانوا

أعلم، وأعلى درجة ممن1 بعدهم، لأنهم لم يتفرغوا لتدوين2 العلم وضبط أصوله وفروعه، وليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين3 لمذاهب الصحابة والتابعين، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما4.
ولما كان الشافعي “رحمه الله”5 قد تأخر عن هؤلاء الأئمة ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم، فسبرها وخبرها وانتقدها، واختار أرجحها، ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتنقيح والتكميل، مع كمال آلته وبراعته في العلوم، وترجحه في ذلك على من سبقه، ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك، كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد، وهذا مع ما فيه من الإنصاف والسلامة من القدح في أحد من الأئمة جلي واضح، إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي والتمذهب به1. والله أعلم

=========

وقد لخص الإمام النووي رحمه الله كلام ابن الصلاح هذا وزاد عليه حيث قال في «آداب الفتوى والمفتي والمستفتي» (ص74): «هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء

قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح ينظر إن كان منتسبا إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا
أحدهما لا مذهب له لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما
والثاني وهو الأصح عند القفال له مذهب فلا يجوز له مخالفته
وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه وإن لم يكن منتسبا بني على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه
أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده عالما بعينه فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب

وأصحهما أصلا ليقلد أهله
فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتيين
والثاني يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين ونحن نمهد له طريقا يسلكه في اجتهاده سهلا فنقول أولا ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه آباءه وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين وإن

كانوا أعلم وأعلا درجة ممن بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة وغيرهما
ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة في العصر ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤونة التصوير والتأصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال معرفته وبراعته في العلوم وترجحه في ذلك على من سبقه ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد وهذا مع ما فيه من الإنصاف والسلامة من القدح في أحد من الأئمة جلي واضح إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي والتمذهب به.اهـ


‌‌_»

السابق
(2) ابن تيمية يستشهد بأثر ملفّق على مسائل القبور[1]
التالي
هل يجوز سؤال الناس وامتحانهم ب ((أين الله)) ؟ (منقول)