من جناية أدعياء اللامذهبية على الدين : تجرؤ الجهال على الإنكار في مسائل الخلاف وتخطئة العلماء بزعمٍ أنّهم خالفوا الدليل…
فحينما تكتب مسألة على مذهب السادة المالكية مثلا يتهاطل عليك هؤلاء الجهال من كل مكان بتعليقات تجمع بين سوء الأدب و الجهل من قبيل “نحن نتبع الدليل لا المذهب” و”الحديث واضح”
و كأن جميع العلماء فاتهم الحديث ثم عرفه هذا الجهبذ العبقري فلتة الزمان ..
و رحم الله مالكا حين سئل : “يا أبا عبد الله هل عرفت حديث البيِّعان بالخيار !؟
قال له: نعم، وأنت تلعب مع الصبيان في البقيع”.
وقال له آخر:
“لِم رَويت حديث (البيعان بالخيار) في الموطأ ولم تعمل به ؟
فقال له مالك:
لِيعلم الجاهل مِثلك أنّي على عِلم تركته”.(1)
وهؤلاء لا يعرفون معنى”الدليل” الذي يلوكونه بألسنتهم ٫ ولا يعرفون الدلالة و الاستدلال ولا العلة ولا المناط و لا الخصوص ولا العموم ولا المقيد ولا المطلق …فهم اجهل الناس بأصول الفقه فقط يسارعون للاعتراض على كل متكلم.
و رحم الله البلقيني إذ قال”إن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض”(2)
و من مبرراتهم السخيفة لنقض أقوال المذاهب قولهم أن الأئمة أمروا بترك أقوالهم إذا عارضت “الدليل ” كقول مالك “كل يؤخذ من قوله و يرد إلا صاحب هذا القبر” و قول الشافعي “إذا رأيتم قولي خالف قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط” و نحو ذلك من كلام الأئمة ..
فلا يدري المساكين أن هذا الكلام ليس لهم إنما لمن له أهلية النظر والترجيح من المجتهدين فمالك لم يقل “كل واحد يأخُذ و يرُد بلا أهلية” و الشافعي إنما يخاطب المجتهدين المتأهلين للنظر الذي أحاطوا بالأدلة و عرفوا راجحها ومرجوحها و ناسخها و منسوخها و عمومها و خصوصها و مطلقها و مقيدها..
فالكلام لهؤلاء و لكن العامي المتجرئ ظن أن الكلام له!
قال العلامة القرافي رحمه الله في شرح تنقيح الفصول:
“ومما شنع على مالك رحمه الله مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، ولا يوجد عالم إلاّ وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أدلة كثيرة ولكن المعارض راجح عنها عند مخالفتها، وكذلك مالك ترك هذا الحديث لمعارض راجح عنده وهو عمل أهل المدينة فليس هذا باباً اخترعه ولا بدعاً ابتدعه، ومن هذا الباب ما يروى عن الشافعي – رضي الله عنه – أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي أو فاضربوه بمذهبي عرض الحائط، فإنه كان مراده مع عدم المعارض، فهو مذهب العلماء كافة وليس خاصاً به، وإن كان مع وجود المعارض فهذا خلاف الإجماع فليس هذا القول خاصة بمذهبه كما ظنه بعضهم.
و كثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا ويقولون: مذهب الشافعي كذا لأن الحديث صح فيه وهو غلط فإنه لا بد من انتفاء المعارض والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة حتى يحسن أن يقول لا معارض لهذا الحديث، وأما استقراء غير المجتهد المطلق فلا عبرة به، فهذا القائل من الشافعية ينبغي أن يحصل لنفسه أهلية هذا الاستقراء قبل أن يصرح بهذه الفتوى لكنه ليس كذلك فهو مخطئ في هذا القول”(3)
فهم يظنون ان كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم يُعمل به دون نظر وهذا خطأ عظيم جعل العوام يتجرؤون على الشرع و العلماء
قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني :” قال ابن عيينة:( الحديث مضلة إلا للفقهاء )
يريد أن غيرهم قد يحمل شيئا على ظاهره، وله تأويل من حديث غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر في الفقه”(4)
و قال ابن وهب:”لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.
فقيل له: كيف ذلك؟
قال: أكثرت من الحديث فحيرني.
(و في رواية :كنت أظن ان كل حديث يروى يُعمل به)
فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا.”(5)
فهؤلاء الذين يعترضون على كل كلام ويزعمون أنه مخالف للكتاب و السنة هم أجهل خلق الله بالكتاب و السنة وبعضهم لا يحسن حتى الكتابة السليمة ثم يعترض على الأئمة المجتهدين ..
قال الشيخ علّيش في فتح العلي المالك :
وقولهم لمن قلد مالكا مثلا نقول لك قال الله أو قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنت تقول قال مالك أو ابن القاسم أو خليل. . . إلخ
جوابه أن قول المقلد قال مالك إلخ معناه : قال مالك فاهما من كلام الله أو كلام رسوله أو متمسكا بعمل الصحابة والتابعين الفاهمين كلام الله أو كلام رسوله أو المتأسين بفعل رسوله، ومعنى قوله قال ابن القاسم إنه نقل عن مالك ما فهمه من كلام الله إلخ أو أنه فهمه نفس ابن القاسم من كلام الله إلخ ومعنى قوله قال خليل مثلا أنه ناقل عمن ذكر مالك وابن القاسم مجمع على إمامتهما ومن خير القرون والتارك للتقليد يقول قال الله أو قال رسول الله مستقلا بفهمه مع عجزه عن ضبط الآية، والحديث ووصل السند فضلا عن عجزه عن معرفة ناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده ومجمله ومبينه وظاهره، ونصه وعامه وخاصه وتأويله وسبب نزوله ولغاته وسائر علومه فانظر أيهما يقدم قول المقلد قول مالك الإمام بالإجماع أو قول الجهول قال الله أو قال رسول الله. إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.”(6)
وقال أيضا :
“وأمر عوام الناس باتباع الكتاب والسنة كلمة حق أريد بها باطل، إذ مراده ترك المذاهب المتبعة وأخذ الأحكام من الكتاب والسنة بلا واسطة وهذا ضلال والأمر به أدل دليل على الجهل إذ من المعلوم لكل أحد أن النصوص منها المنسوخ ومنها المردود لطعن في رواته ومنها ما عارضه أقوى منه فتُرك ومنها المطلق في محل وقد قُيّد في محل آخر، ومنها المصروف عن ظاهره لأمر اقتضى ذلك ومنها ومنها… ولا يحقق ذلك إلا الأئمة المجتهدون وأعظم ما حرر من مذاهب المجتهدين مذاهب الأئمة الأربعة المتّبَعين لكثرة المحققين فيها مع سعة الاطلاع وطول الباع فالخروج عن تقليدهم ضلال والأمر به جهل وعصيان”(7)
فلو حققنا النظر في هؤلاء الذين يظنون أنهم يتبعون الكتاب و السنة لوجدنا أنهم يتبعون فهم بعض المعاصرين للكتاب و السنة فتركوا فهم الأئمة المجتهدين إلى فهم هؤلاء فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!
نسأل الله الفهم !
(1)انتصار الفقير السالك للراعي(ص 225)
(2)محاسن الاصطلاح للبلقيني (ص 176)
(3)شرح تنقيح الفصول (449/1)
(4)الجامع (ص 118)
(5)ترتيب المدارك وتقريب المسالك (3/ 236)
(6)فتح العلي المالك (100/1)
(7)فتح العلي المالك (109/1)
https://www.facebook.com/groups/1340408109701622/posts/1464709693938129/