قياس الأولى وأثره في فهم صفات الله بين الأشاعرة وابن تيمية (ص: 197):
الفصل الثالث
أثر قياس الأولى في صفات الأفعال
لما ثبت عند الأشاعرة (أن صفات الأفعال ـ كما يقول الرازي ـ ليست عبارة عن حالة ثابتة لذات الله تعالى ولا معنى قائم بذات الله تعالى، بل هي عبارة عن مجرد صدور الآثار عنه، ولا معنى للخالق إلا أنه وجد المخلوق منه بقدرته، ولا معنى للرازق إلا أنه وصل الرزق منه إلى العبد بسبب إيصاله) (1)، كانت أفعاله تعالى جائزة لا يجب عليه سبحانه شيء منها، بل يجوز له الفعل والترك.
ولما كانت الأفعال جائزة كان اتصاف الله تعالى اتصافاً ذاتياً بها كاتصافه بالعلم والإرادة محالاً، لأن ذاته وصفاته واجبة، ولو اتصف بهذه الأفعال وهي جائزة لكان سبحانه متصفاً بصفات جائزة، ولو اتصف تعالى بالجائز لكان متصفاً بالحوادث، إذ الجائز لا يكون إلا حادثاً، والله سبحانه يتعالى عن ذلك (2).
وهذا هو مقتضى الكمال اللائق بالله تعالى، فإنه تعالى قديم في ذاته وصفاته، ولو كان شيء من صفاته حادثاً للزم حدوثه سبحانه وتعالى، لكن التالي باطل، فالمقدم مثله (3).
وإنما صحت نسبة الأفعال إلى الله تعالى لا لكونها صفات ذاتية يتحلى بها الرب سبحانه وتعالى، بل لأنها آثار صفته الذاتية (القدرة) وتعلقاتها التنجيزية الحادثة، وهذه التعلقات التنجيزية لا وجود لها حقيقي في ذاتها، بل هي أمور اعتبارية انتزاعية لا تحقق لها في نفسها، فلا مانع من اتصاف المولى سبحانه بها على الرغم من حدوثها.
ونظير ذلك كونه تعالى قبل العالم ومعه وبعده، فلا يلزم من هذه الإضافات الاعتبارية اتصافه تعالى بالحوادث قطعاً.
(1) من كلام الرازي في شرح أسماء الله الحسنى ص41.
(2) شرح الكبرى للسنوسي ص374 وشرح الصغرى له ص23.
(3) شرح الكبرى ص250ـ256.
=====
ولكن صفات الأفعال تنطوي على غور شديد وبحث عظيم ـ كما يقول الإمام الرازي رحمه الله ـ، وذلك أننا إذا قلنا: إن كذا مؤثر في كذا، أو كذا مكون وخالق لكذا، فهذا التأثير والتكوين والخلق يستحيل أن يكون معنى سلبياً ومفهوماً عدمياً، لأن صريح العقل يشهد أن قولنا: إن كذا ليس بمؤثر في كذا سلب محض وعدم صرف، وقولنا: إنه مؤثر فيه نقيض قولنا: ليس بمؤثر فيه، ورفع السلب ثبوت.
فإذا كان هذا المفهوم ثبوتياً فإما أن يكون هذا الخلق أو التكوين عين الخالق والمكون والمؤثر، وإما أن يكون هو ذات الأثر والمخلوق والمكون، وإما أن يكون قسماً ثالثاً مغايراً لهما.
أما القسم الأول: فباطل، وبطلانه ظاهر، وينبه عليه بأننا يمكننا أن نعقل ذات الله وذات السموات والأرض مع الشك في أن المؤثر في هذه السموات والأرض هل هو الله أو مخلوق من مخلوقاته؟ والمعلوم مغاير للمشكوك.
وأما القسم الثاني فباطل لوجوه:
الأول: أن الخالقية صفة للخالق، فلو كان المفهوم منها هو نفس وجود المخلوق لزم كون المخلوق صفة للخالق وهو محال.
والثاني: أنا متى سئلنا أن هذا المخلوق لم وجد؟ أجبنا بأنه إنما وجد لأن الخالق خلقه، فلو كان كون الخالق خالقاً عبارة عن عين وجود المخلوق لكان يرجع حاصل الكلام إلى أن نقول: إنما وجد ذلك المخلوق لأنه وجد ذلك المخلوق، فيكون الشيء قد وجد بنفسه، والقول بذلك نفى للخالق والمخلوق، وهو محال.
الثالث: أنا لما عللنا وجود المخلوق بأن الخالق خلقه وجب أن يكون كون الخالق خالقاً مغايراً لوجود المخلوق، لأن تعليل الشيء بنفسه محال. فثبت بمجموع ما ذكرنا أن المفهوم من كونه خالقاً أمر ثبوتي مغاير لذات الخالق ولذات المخلوق، وثبت أن الخالق ليس نفس الخلوق (1).
(1) شرح أسماء الله الحسنى ص42.
=============
إذن فيتعين القول بمغايرة الخلق للخالق والمخلوق جميعاً، ثم في هذا المقام اضطربت العقول ـ كما يقول الإمام فخر الدين ـ وينهض الإشكال الذي يتطلب الحل ـ كما يقول شيخنا القوصي ـ، فهل هذا الخلق المغاير متصف بالقدم أو بالحدوث؟
إذا قلنا بقدمه توجه الإشكال العظيم من وجهين:
الوجه الأول: أن الخلق لو كان قديماً لكان المخلوق قديماً، فيلزم قدم العالم وهو محال. لأن المفهوم من الخلق لا يثبت إلا عند وجود المخلوق فلو كان الخلق قديماً لزم أن يكون المخلوق قديماً وهو محال، لأن القدم ينفي الأولية، والمخلوقية تثبت الأولية، والجمع بينهما محال.
والوجه الثاني: أن الخلق لو كان صفة قديمة أزلية أبدية لكان من لوازم الذات، فالذات مستلزمة لصفة الخلق، وصفة الخلق مستلزمة لوجود المخلوق، ولازم اللازم لازم، فإذاً وجود المخلوق من لوازم ذات الله بغير اختياره، فلا يكون الله فاعلاً بالاختيار بل موجباً بالذات، وذلك صريح قول الفلاسفة، وهو هدم الإسلام، كما يقول الإمام.
وإذا قلنا بحدوثه: استدعى خلقاً آخر، وكذا لو كان التكوين حادثاً لافتقر تكوينه إلى تكوين آخر، والكلام فيه كالكلام الأول، وذلك يوجب التسلسل، وهو محال.
ويلزم منه استحالة تكون العالم مع أنه موجود مشاهد (1).
فهذا منتهى البحث في المسألة وهو بحث عميق (2) وهذا البحث غامض وله غور عميق (3)، كما يقول الفخر الرازي رحمه الله.
فما الطريق إلى حل هذا الإشكال؟
هناك حلول أربعة يرفضها الأشاعرة، ففيها جميعاً ما ينهون عنه أو ينأون عنه ـ كما يقول شيخنا القوصي ـ:
(1) ينظر: هوامش على الاقتصاد في الاعتقاد ص18ـ19ـ20، شرح أسماء الحسنى للرازي ص41ـ42، المطالب العالية ج3 ص237وج4 ص93، والأربعين في أصول الدين ج1 ص186ـ187، أبكار الأفكار ج2 ص232ـ234.
(2) الأسماء الحسنى ص43.
(3) المطالب ج3 ص237.
=====
1ـ الحل الأول: هو حل الماتريدية القائم على أن هذا الخلق أو التكوين مغاير للمخلوق. ولكنه قديم قائم بذاته تعالى، وبالتعلقات الحادثة لهذا التكوين تسلم الماتريدية قضية حدوث العالم دون مساس (1). ويجب التنبيه على أن الماتريدية لا يقولون باتصاف الله تعالى بالحوادث ولا بقيامها به قطعاً، هم والأشاعرة في ذلك سواء، ولا يصح الاحتجاج على ذلك بصفة التكوين، فقد بين الماتريدية أن صفة التكوين صفة أزلية أبدية وأنها غير المكون، ولا يعكر على ذلك حدوث المكون، فإنه حادث بحدوث التعلق، كما في العلم والقدرة وغيرهما من الصفات القديمة التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها لكون تعلقاتها حادثة. والحاصل ـ كما يقول الملا علي القاري ـ: (أن التكوين قديم، والمتعلق به هو المكون وهو حادث، كما أن العلم قديم، وبعض المعلومات حادث، على أن التكوين في الأزل لم يكن ليكون العالم به في الأزل، بل ليكون وقت وجوده، فتكوينه باق أبداً، فيتعلق وجود كل موجود بتكوينه الأزلي، بخلاف الضرب لأنه عرض فلا يتصور بقاؤه إلى وقت وجود المضروب) (2)، انتهى كلامه رحمه الله، وهو يرد بذلك على من قاس استحالة التكوين من غير مكون على الضرب بدون مضروب، فبين أن التكوين قديم، بخلاف الضرب الذي هو عرض حادث.
وقد أكد الماتريدية كون التكوين ـ الذي من فروعه التخليق ـ صفة قديمة، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها: أن التكوين لو كان حادثاً لاحتاج في تكوينه أيضاً إلى تكوين آخر حادث أيضاً، وذلك مفضٍ إلى التسلسل وهو محال باطل، ومستلزمٌ قدم العالم وهو باطل.
(1) هوامش على الاقتصاد في الاعتقاد ص19.
(2) (شرح الفقه الأكبر ص34)
======
كما أكدوا بإصرار كون التكوين (مبدأ) و (منشأ) للأفعال، وليس هو (عين) الأفعال الحادثة التي تساوق مفعولاتها الحادثة، وذلك واضح من تعريفهم لصفة التكوين بأنها صفة قديمة حقيقية هي مبدأ الإضافة التي هي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود لا عينها (1). فهي صفة أزلية بها صدور العالم وكل جزء من أجزائه وتسمى تكويناً، لكن إن تعلقت بوجود الشيء سميت إيجاداً وخلقاً، أو بموته سميت إماتة، أو بصورته سميت تصويراً وهكذا، والفرق بينها وبين القدرة أن القدرة هي القوة على الفعل أو الترك ونسبة الأمرين إليها على السواء، فليس صدور الأشياء بها وإنما بها قبول الصدور، فهي مبدأ لقبول الصدور، والتكوين مبدأ للصدور (2).
ولكن الأشاعرة يقولون: في صفة القدرة الغنية عن صفة التكوين، فلا دليل على صفة أخرى سوى القدرة والإرادة، فإن القدرة وإن كان نسبتها إلى وجود المكون وعدمه على السواء لكن مع انضمام الإرادة يتخصص أحد الجانبين (3).
(1) شرح النسفية ص49،إشارات المرام ص212ـ214.
(2) شرح الخريدة البهية للدردير ص53ـ54.
(3) شرح الخريدة ص54،شرح الفقه الأكبر ص34ـ39،شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص41ـ43،شرح العقائد النسفية ص47ـ 51،إشارات المرام ص212ـ223،شرح الخريدة البهية ص49 وص53ـ54.
=====
ومن المستحسن أن نحلي كلامنا بعقد فريد من كلام الإمام الأعظم أبي حنيفة قال رحمه الله: (وأما الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته لم يحدث له اسم ولا صفة، لم يزل عالماً بعلمه، والعلم صفة في الأزل، قادراً بقدرته، والقدرة صفة في الأزل، متكلماً بكلامه، والكلام صفة في الأزل، وخالقاً بتخليقه، والتخليق صفة في الأزل، وفاعلاً بفعله، والفعل صفة في الأزل، والفاعل هو الله تعالى، والفعل صفة في الأزل، والمفعول مخلوق، وفعل الله غير مخلوق، وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة، فمن قال: إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف منها أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى) (1).
2ـ الحل الاعتزالي لقوم من قدماء المعتزلة كأبي هذيل العلاف القائم على مغايرة الخلق للمخلوق، ثم القول بأنه حادث، لكنه ليس قائماً بذاته تعالى، بل هو (لا في محل) (2).
وقد فعلوا ذلك فراراً من القول بقيام الحوادث بذاته تعالى. وهو أشبه بمراوغة لفظية من حل حقيقي، ولا شك في بطلانه لامتناع قيام الصفة بنفسها، ولذا قال ابن تيمية: إنهم طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المراتب.
(1) شرح الفقه الأكبر ص35ـ39،إشارات المرام ص212ـ223.
(2) ـ مقالات الإسلاميين ج2 ص51_53، هوامش على الاقتصاد في الاعتقاد ص19.
======
3ـ الحل الكرامي: القائم على مغايرة الخلق للمخلوق، ثم القول بأنه حادث، وقائم بذاته تعالى دون اتصاف، فلا تصير هذه الحوادث صفات لله، وإنما هو خالق بخالقيته لا بخلق ومريد بإراديته لا بإرادة، وقائل بقائليته لا بقول، فكل حادث يحتاج إليه في الإيجاد ـ عند الكرامية ـ كالإرادة أو قول كن فإنه تعالى يحدثه في ذاته، ويكون حالتئذ مخصوصاً باسم الحوادث، بينما تختص المخلوقات التي خلقت بوساطة تلك الحوادث التي تحدث في ذاته تعالى، باسم المحدثات (1)، وهذا الحل الكرامي ـ مثله كمثل حل ابن تيمية الرابع الذي سيأتي ـ قائم كما ترى على تجويز قيام الحوادث بذاته تعالى، ودون ذلك خرط القتاد (2).
(1) الملل والنحل ج1 ص100، ونهاية الأقدام ص114 وما يليها، والتبصير في الدين ص67 وما بعدها.
(2) هوامش على الاقتصاد في الاعتقادص19ـ20.
=====
4ـ حل ابن تيمية: الذي قال بمغايرة الخلق للمخلوق، ثم القول بأن الخلق حادث قائم بذاته تعالى، مع بعض الفوارق الهامة عن الكرامية، فهذه الحوادث تقوم به تعالى عنده خلافاً للكرامية قيام اتصاف، ويسميها (الصفات الاختيارية)، ومن ناحية أخرى فإن الحوادث التي تقوم بذاته عند الكرامية: متناهية من جانب الماضي، أحدثها الله تعالى بعد عدم محض، إذ إن هذا ما يستلزمه الاعتقاد بحدوث العالم حدوثاً زمانياً، وهو ما يقولون به، أما عند ابن تيمية فهي حوادث لا متناهية في جانب الماضي، سواء منها ما كان فعلاً لازماً كالنزول والكلام مثلاً، أو ما كان فعلاً متعدياً كالإرادة والخلق والرزق وغيرها، وبذلك يرتضي ابن تيمية أن تقوم بذاته تعالى حوادث لا متناهية، والتسلسل ههنا مرضى عنده، إذ هو تسلسل في الآثار لا في الفاعلين (1)، ويرتبط ذلك كله بتفرقته المصطنعة بين قدم الفعل وحدوث المفعول (2).
5ـ أما الحل الأخير الذي يرتضيه الأشاعرة فهو الحل القائم على أن صفات الأفعال ومنها الخلق صفات حادثة، لأنها إضافات واعتبارات بين القدرة والمقدور، فهي أمور اعتبارية ذهنية لا وجود لها في الخارج تحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليست أموراً حقيقية لها وجود خارجي مغاير للمفعول، لأنها تعلق القدرة التنجيزي الحادث، وهذا التعلق حادث، ولا يفضي ذلك إلى قيام الحوادث بذات الله تعالى، لأن الخلق والإيجاد ونحوهما من صفات الأفعال أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج ولا ثبوت، فلا يلزم قيام الحوادث بذاته تعالى، لأن الأمر الاعتباري لا يقوم بشيء، وإنما يلزم ذلك لو كانت صفات الأفعال وجودية حقيقية.
(1) انظر على سبيل المثال: ص231 وما بعدها مجلد 6 مجموع الفتاوى، ثم ص334 وما يليها من درء التعارض المجلد الأول.
(2) هوامش على الاقتصاد في الاعتقاد ص20.
=====
وذكروا لذلك نظيراً: فالله تعالى موجود، ووجوده قبل العالم ومعه وبعده، ولا يلزم من ذلك تغيره في ذاته سبحانه ولا قيام الحوادث به جل جلاله، لأنها إضافات اعتبارية ذهنية لا حقيقية راجعة إلى ذاته. وفراراً من القول بقيام الحوادث بذات الله تعالى ذهب الأشاعرة إلى أن الخلق هو نفس المخلوق، والإيجاد هو نفس الموجود والإحداث هو نفس المحدث، وليس هذه الأفعال صفة قديمة قائمة بالذات كما يقول الماتريدية، ولا صفات حادثة قائمة بالذات كما يقول الكرامية وابن تيمية، واحتجوا على ذلك بمثل قوله تعالى: (هذا خلق الله) (1) أي: مخلوقه. وأن الخلق لو كان صفة زائدة على المخلوق فإما أن تكون قديمة أو حادثة، ولا جائز أن تكون قديمة، وإلا لزم قدم المخلوق، ضرورة استحالة الخلق ولا مخلوق. ولا جائز أن تكون حادثة، وإلا استدعى ذلك خلقاً آخر حادثاً والكلام فيه كالكلام في الأول، وهو تسلسل أو دور ممتنع (2).
ولكن التكوين والتخليق غير المكون والمخلوق، لأن الفعل يغاير المفعول بالضرورة، وينبه على ذلك بأمور، منها: أن الفعل لو كان نفس المفعول للزم أن يكون المخلوق مخلوقاً بنفسه ضرورة أنه مخلوق بالخلق الذي هو عينه، فيكون قديماً مستغنياً عن الصانع وهو محال، وثمة أدلة أخرى. فكيف يقول الأشاعرة بعينية الخلق والمخلوق؟ والجواب على ذلك بالأمر الاعتباري الذي هو الخلق، إذن فالعلاقة بين الخلق والمخلوق عند الأشاعرة ـ كما يقول شيخنا القوصي ـ: عينية كالغيرية، وإن شئت قلت: غيرية كالعينية.
(1) سورة لقمان:11.
(2) الأبكار ج2 ص232ـ233.
=====
ولله در السعد التقتازاني رحمه الله إذ يقول: (لكنه ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث، ولا ينسب إلى الراسخين من علماء الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة على من له أدنى تمييز، بل يطلب لكلامهم محملاً صحيحاً، يصلح محلاً لنزاع العلماء، واختلاف العقلاء. فإن من قال: التكوين عين المكون، أراد أن الفاعل إذا فعل شيئاً فليس ههنا إلا الفاعل والمفعول، وأما المعنى الذي يعبر عنه بالتكوين والإيجاد ونحو ذلك فهو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليس أمراً محققاً مغايراً للمفعول في الخارج، ولم يرد أن مفهوم التكوين بعينه مفهوم المكون، ليلزم المحالات.
وهذا كما يقال: إن الوجود عين الماهية في الخارج، بمعنى أنه ليس في الخارج للماهية تحقق، ولعارضها المسمى بالوجود تحقق آخر، حتى يجتمعان القابل والقبول، كالجسم والسواد، بل الماهية إذا كانت فتكونها هو وجودها، لكنهما متغايران في العقل، بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الماهية دون الوجود، وبالعكس) (1).
وتذكر ما نقلته آنفاً من كلام الرازي في مخالفة مفهوم التأثير للمؤثر والأثر، فإذاً قولنا: الخلق عين المخلوق وقولنا: الخلق غير المخلوق كلاهما صحيح باعتبار، الأول باعتبار الوجود الخارجي، والثاني باعتبار المفهوم الذهني. وليس في قول الأشاعرة شناعة مخالفة الضرورة، بل قولهم أدق نظراً وأعمق بحثاً، وفيه التفات إلى الوجود الخارجي الذي يتمحور البحث حوله. والله أعلم (2).
(1) شرح العقائد النسفية ص50.
(2) شرح الخريدة ص49 ص53.
=====
ويقول الإمام الرازي: (إن كون الشيء مؤثراً في غيره وإن كان مفهوما مغايراً لذات الأثر وذات المؤثر ولكن لا وجود له خارج الذهن، والدليل عليه أن المفهوم من كون الشيء لازماً للشيء وملزوماً له وحالاً فيه ومحلاً له مغاير لذات ذلك الشيء، ثم هذا الزائد زائد لا وجود له في الأعيان وإلا لزم التسلسل، وهذا الإلزام أيضاً وارد في كون الأشياء متغايرة ومتماثلة ومختلفة ومتضادة وواجبة وممكنة وممتنعة، فإن هذه الاعتبارات متغايرة في الأذهان مع أنه لا وجود لها في الأعيان، فكذا ههنا (1).
حلول الحوادث بذات الله تعالى
ولا بد قبل الخوض في تحرير المذاهب وإيراد الدلائل من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات من الجانبين على شيء واحد ـ كما يقول العضد رحمه الله ـ (2).
وتحرير محل النزاع في هذه المسألة العظيمة يظهر من خلال أمرين: تقسيم الصفات، وتحديد معنى الحادث.
فاعلم أن الصفات على ثلاثة أقسام:
ـ كما يقول الإمام فخرالدين الرازي رحمه الله (3) ـ
أحدها: صفات حقيقية محضة عارية عن الإضافات، كالسواد والبياض والوجود والحياة.
وثانيها: صفات حقيقية ذات إضافة كما عبر العضد، أو صفات حقيقية تلزمها الإضافات كما عبر الإمام، كالعلم والقدرة، وذلك لأن العلم صفة حقيقية تلزمها إضافة مخصوصة إلى المعلوم، وكذا القدرة صفة حقيقية ولها تعلق بالمقدور، وذلك التعلق إضافة مخصوصة بين القدرة والمقدور.
(1) شرح الأسماء الحسنى ص43.
(2) ج8 ص35 شرح المواقف.
(3) الأربعين ج1 ص170.
=====
وثالثها: الإضافات المحضة والنسب المحضة، كالمعية والقبلية والبعدية، أي: كون الشيء مع غيره أو قبل غيره أو بعد غيره، ومثل كون الشيء يميناً لغيره أو يساراً له، فإنك إذا جلست على يمين إنسان ثم قام ذلك الإنسان وجلس في الجانب الآخر منك فقد كنت يميناً له ثم صرت الآن يساراً له، فههنا لم يقع التغير في ذاتك ولا في صفة حقيقية من صفاتك، بل في محض الإضافات. يقول السيد الشريف رحمه الله: (1) وفي عدادها – أي الإضافات المحضة-: الصفات السلبية. (2)
إذا تبين ذلك فاعلم أنه لا يجوز عند جميع الفرق الإسلامية وقوع التغير ولا التجدد في الصفات الحقيقية وهي القسم الأول بالنسبة لذاته تعالى وخالف في ذلك الكرامية. وكذلك القسم الثاني لا يجوز تجدد الصفات ولا تغيرها في نفسها أيضاً، وإنما يجوز التغير في تعلقها. أما القسم الثالث فيجوز التغير فيها ولا خلاص عنه كما يقول الإمام رحمه الله، ويدخل في ذلك الصفات السلبية كما مر، أما السلوب مطلقاً فسيأتي الكلام عنها.
ثم نقول: معنى الحادث هو الموجود بعد عدم، أما ما تجدد وليس له وجود في الخارج فهو المتجدد ولا يقال له حادث، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الأحوال، وجمهور علماء الكلام على أنه لا يجوز تجددها في ذاته تعالى، وخالفهم أبو الحسين البصري من المعتزلة فقال بتجدد العالمية بتجدد المعلومات وأنها تقوم بذاته تعالى.
وخالف السعد الجمهور فأجاز تجدد اتصافه تعالى بالأحوال المتحققة بعد ما لم تكن، كالعالميات المتجددة بتجدد المعلومات عند أبي الحسين البصري على ما سيجيء تحقيقه.
الثاني: الإضافات أي: النسب، مثل كونه موجوداً مع العالم بعد أن لم يكن معه، وخالقاً بعد أن لم يكن خالقاً، وكونه رازقاً لزيد المولود غير رازق لعمرو الميت. وجميع علماء الكلام على أن هذا القسم يجوز تجدده لأنه راجع إلى التعلق.
(1) شرح المواقف ج8 ص43.
(2) الأربعين ج1 ص170 وشرح المواقف ج8 ص43.
====
الثالث: السلوب، وتنقسم إلى قسمين: الأول: ما ينسب إلى أمر يستحيل اتصاف الباري به، مثل كونه تعالى ليس بجسم ولا عرض، فيمتنع تجدده، فإن هذه سلوب يمتنع تجددها. والثاني: ما ينسب إلى أمر يجوز اتصاف الباري به، مثل كونه موجوداً مع الحادث، وتسلب تلك المعية عند انعدام الحادث، فقد تجددت له صفة سلب، وهي كونه ليس مع الحادث، بعد أن لم تكن حاصلة له.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المتجدد بجميع أقسامه ليس محل البحث في هذا المطلب العظيم، وموضوع البحث هو الحادث أي: الموجود وجوداً حقيقياً لا اعتبارياً ولا إضافياً بعد عدم.
وقد اتفقت كلمة الأشاعرة على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وما ذكره الإمام فخر الدين الرازي من أن أكثر العقلاء قائلون بهذا الأصل في الحقيقة أو لازم لهم وإن كانوا ينكرونه في ظاهر الأمر بلسانهم، وبينه أحسن بيان في عدد من كتبه كالأربعين (1)، وقد لخصه الإمام التفتازاني أحسن تلخيص في شرح المقاصد (2) وحاصله: أما الأشاعرة فلأن زيداً إذا وجد كان الواجب غير قادر على خلقه بعد ما كان وفاعلا له عالماً بأنه موجود مبصراً لصورته سامعاً لصوته آمراً له بالصلاة بعد ما لم يكن كذلك، وأما المعتزلة فلقولهم بحدوث المريدية والكارهية لما يراد وجوده أو عدمه، والسامعية والمبصرية لما يحدث من الأصوات والألوان، وكذا بتجدد العالميات والمعلوميات عند أبي الحسين البصري، وأما الفلاسفة فلقولهم بأن لله إضافة إلى ما حدث ثم فني بالقبلية ثم بالبعدية ثم المعية) ا. هـ
ثم جاء ابن تيمية واحتفى بهذا الكلام من هذا الإمام وأشاد بذكره ورد به على خصومه مراراً (3).
أقول: الجواب عنه من وجوه:
(1) ج1 ص168_170 والمطالب العالية ج2 ص106_107 ونهاية العقول.
(2) ج2 ص70.
(3) انظر مثلاً: الدرء ج 2 ص 177 و 207.
====
الوجه الأول: أن الإمام الرازي كثيراً ما يورد في كتبه أبحاثاً وإيرادات واعتراضات لا يقول بموجبها ولا تمثل حقيقة مذهبه، من باب تكثير البحث وإعمال الفكر وشحذ همم الأنظار لترتقي عن حضيض التقليد إلى سمو البحث والنظر ورد الشبه وتقرير المذهب الحق.
وقد أشار إلى ذلك في وصيته راجياً منا له الدعاء لا الغمز والإنكار فقال: (وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى) (1).
وهذه المسألة من هذا القبيل، فقد أورد الإمام هذا البحث بعد أن قرر المذهب الحق تقريراً يصلح أن يكون هو نفسه جواباً عن هذه الشبهة، ثم عقبه ببيان أدلة مذهب أهل الحق مقوياً لها ورد شبه الخصوم مفنداً لها، فقال: (2) (إذا عرفت هذا، فنقول: أما وقوع التغير في الإضافات، فلا خلاص عنه، وأما وقوع التغير في الصفات الحقيقية، فالكرامية يثبتونه، وسائر الطوائف ينكرونه. فظهر الفرق في هذا الباب بين مذهب الكرامية ومذهب غيرهم. والذي يدل على فساد قول الكرامية وجوه). ثم شرع في ذكرها.
(1) انظر: فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية للزركان ص 642.
(2) الأربعين ج1 ص170.
=====
الوجه الثاني: أن هذا من إنصاف الإمام ونزاهة تحريه للحق وترفعه عن التقليد، فقد كان يقرر مذهب الخصم ويورد أدلته بصورة يعجز عنها الخصم نفسه وربما اخترع له أدلة ثم يردها، ولكنه يكتفي في الرد عليها أحياناً بكلمات قليلة أو إشارة سريعة، إما لكون مذهب المخالفين ظاهر البطلان، أو لأن قليل الكلام يغني عن كثيره، أو لأن أدلة المذهب الحق ظاهرة ناهضة تكفي الإشارة إليها، وربما ذكر مسألة وأورد فيها إشكالاً يريد به التنبيه على أنه أصل المشكلة وأنه مأخذ عظيم يتنبه منه على إشكالات عظيمة، ويعرف به صعوبة المسألة ودقتها (1).
الوجه الثالث: أن أئمة المذهب اعتنوا ببحث الإمام وردوا عليه، من ذلك ما ذكره الإمام صفي الدين الهندي: (وما قال الإمام في هذا المقام أن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور، فليس كذلك، لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي أمور متجددة لا مستحدثة، والمتجدد أعم من الحادث، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص، بل الخلاف فيه مع المجوس والكرامية) (2).
وما ذكره الإمام التفتازاني (3) بعد أن حرر محل النزاع قال: (وبهذا يندفع ما ذكره الإمام الرازي من أن القول بكون الواجب محلاً للحوادث لازم على جميع الفرق وإن كانوا يتبرؤون منه ثم بين وجه اللزوم كما تقدم، ثم قال: وهم لا يقولون (4) بوجود كل إضافة حتى يلزم اتصافه بموجودات حادثة على ما هو المتنازع، وهذه الشبهة هي العمدة في تمسك المجوزين فلا تكون واردة في محل النزاع).
(1) (نهاية العقول … )
(2) 2 الرسالة التسعينية ص46.
(3) شرح المقاصد ج ص70_71.
(4) شرح المقاصد ج2 ص71.
=====
ولا ينبغي أن يفهم من ذلك اتهامهم الإمام بالقول به، فإنهم قصدوا الرد على بحثه الذي ينسب إليه وأكثر كلامه في ذلك إشكالاً ما ذكره الإمام في المطالب رداً على من قالوا: إن القول بكونه تعالى محلاً للحوادث اختص به الكرامية، فقال الإمام: وأنا أقول إن هذا قول قال به أكثر أرباب المذاهب، أما الأشعرية فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه … الخ، وذكرها ثم قال: فيثبت بهذا البحث الذي ذكرناه أن القول بحدوث الصفات في ذات الله قول قال به جميع الفرق.
قلت: ما ذكره الإمام أراد به الصفات التي هي محض النسب والإضافات والصفات الحقيقية الموصوفة بالإضافات والنسب من حيث تعلقاتها، ولم يرد الصفات الحقيقية من حيث هي قائمة بالله تعالى، ولذلك بعد أن قسم الصفات إلى ثلاثة أقسام قال: أما القول بحدوث الصفات الإضافية فذاك أمر يجب الاعتراف به ولا يمكن إنكاره البتة، ثم بين أن محل الخلاف في الصفات الحقيقية سواء أحصلت لها إضافات إلى الغير أم لم يحصل، فمن الناس من جوز حدوث مثل هذه الصفات في ذات الله، ومنهم من منع منه (1).
ولما كانت الأشاعرة تعتقد أن صفات الأفعال حادثة، فقد استحال عندهم قيامها بالله سبحانه، لأنه يستحيل قيام الحوادث بذاته تعالى، فانتقدهم ابن تيمية وأطال النفس في ذلك، وألف رسالة طويلة في الصفات الاختيارية التي قسمها إلى أقسام منها صفات الأفعال، أكد فيها على وجوب اتصافه تعالى بتلك الصفات الاختيارية، وأن ذلك مقتضى الكمال اللائق والواجب لله تعالى.
فكان لا بد من بيان موقف الأشاعرة من قضية حلول الحوادث بذات الله تعالى، ودراستها دراسة عميقة وافية بالغرض، لأنها الأصل الأعظم والركن الأساس في قضية الأفعال، خصوصاً في مناقشة آراء ابن تيمية ومقارنتها بآراء الأشاعرة.
(1) المطالب العالية ج2 ص106_108.
=====
فذكرت الأدلة العقلية على امتناع قيام الحوادث بذات الله تعالى، ثم الأدلة النقلية، إقامة للحجة، ودرءاً للشبهة، وتأصيلاً وتقوية لهذا الأصل العظيم، وبالله التوفيق.
الأدلة العقلية على امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى عند الأشاعرة:…
انظر التتمة في
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/488659864581374/
المصدر/ رسالة ماجستير في جامعة الأزهر بعنوان / قياس الأولى وأثره في فهم صفات الله بين الأشاعرة وابن تيمية
إعداد الأخ العلامة : أحمد زاهر محمد نبيه سالم