استقراء لبعض البدع التي فعلها السلف واستحسنوها
وردت أمثلة كثيرة عن السلف تثبت أنهم أحدثوا أفعالا مخصوصة و أذكارا مخصوصة في أوقات مخصوصة لم ترد عن النبي أو وردت ولكن زادوا فيها، لذلك اعتبرها بعض السلف الآخرين بدعة ؛ وهذه بعض الأمثلة في ذلك:
- كان عمر وابنه وعلي وسعيد بن جبير وطاووس يقولون في التشهد: بسم الله([1]). ولم يثبت ذلك عن رسول الله([2]).
- كان أبو العالية مريضا، وكانت المرفقة تثنى له فيسجد عليها، وعن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يسجد الرجل على المرفقة والوسادة في السفينة، وعن محمد بن سيرين، قال : السجود على الوسادة محدث([3]).
- وقال ابن عمر عن الأذان الثاني يوم الجمعة بدعة وفي رواية أنه محدث وكذا روي عن الحسن. وثبت في البخاري([4]) أن عثمان هو الذي أحدث الأذان الثاني على الزوراء.
- 4. روى مسلم برقم (887) عن جابر بن سمرة قالصليت مع رسول الله صلى الله عليه سلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة، وجاء عن ابن المسيب قال : أول من أحدث الأذان في العيد معاوية، وعن عامر، والحكم، قالا : الأذان يوم الأضحى والفطر بدعة([5]).
- وأخرج أبو داود([6]) في سننه عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد: التحيات لله، الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركلاته- قال: قال ابن عمر: زدت فيها: وبركاته-، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله- قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له-، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله “.
- 6. كبّر رجل أيام العشر ، فقال مجاهد : أفلا رفع صوته ، فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد؛ وعن شعبة ، قال : سألت الحكم ، وحمادا عن التكبير أيام العشر ؟ فقالا: محدث([7]).
- التعريف: هو اجتماع الناس في المساجد عشية عرفة، للدعاء والذكر، حتى تغرب الشمس، كما يفعله أهل عرفة؛ وقد فعله بعض السلف وقال آخرون هو بدعة. فعن الحسن ، قال : أول من عرّف بالبصرة ابن عباس، وعن عبد الرحمن بن حرملة ؛ أنه رأى سعيد بن المسيب عشية عرفة يسند ظهره إلى المقصورة ، ويستقبل الشام حتى تغرب الشمس، عن ابن عون ، قال : كانوا يسألون محمدا عن إتيان المسجد عشية عرفة ؟ فيقول : لا أعلم به بأسا([8])، وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به إنما هو دعاء وذكر الله فقيل له تفعله أنت قال : أما أنا فلا وروي عن يحيى بن معين أنه حضر مع الناس عشية عرفة([9]). وعن الحكم ، وحماد ، قال : سألتهما عن الاجتماع عشية عرفة ؟ فقالا : محدث. وفي رواية أنها بدعة، عن إبراهيم ؛ أنه سئل عن التعريف ؟ فقال : إنما التعريف بمكة، وكذا قال ابن الحنفية([10]).
- عن الحسن ، قال : كان يعجبهم إذا قدموا مكة للحج ، أو العمرة ألا يخرجوا (أي من المسجد الحرام) حتى يقرؤوا ما معهم من القرآن. عن أبي مجلز ، قال : كان يستحب إذا قدم شيئا من هذه المساجد, أن لا يخرج حتى يقرأ القرآن ، بالمسجد الحرام ومسجد المدينة , ومسجد بيت المقدس([11]).
- وعن ابن عمر أنه سمع رجلا يقرأ وهو يطوف بالبيت فنهاه؛ وعن الحسن، وعطاء، قالا : القراءة في الطواف محدث. وسئل عطاء عن القراءة في الطواف حول البيت، فلم ير بها بأسا. عن عثمان بن الأسود، قال : رأيت أصحابنا يقرؤون على مجاهد في الطواف([12]).
- عن عمران بن أبي عطاء ، قال : شهدت وفاة ابن عباس فوليه ابن الحنفية فبنى عليه بناء ثلاثة أيام. وعن محمد بن كعب قال : هذه الفساطيط التي على القبور محدثة.
- توقف أبي بكر عن جمع القرآن حين اقترح ذلك عليه عمر، قائلا: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك , ورأيت في ذلك الذي رأى عمر[([13])]. وكذا توقف زيد بن ثابت لما عهد إليه ذلك ثم شرح الله صدره. أقول وهذا يفيد أمرين:
الأول : أن الصحابة كانوا يتوقفون للوهلة الأولى عن فعل أي شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنهم إذا تحققت خيريته – من حيث التوافق مع الكتاب والسنة وتحقيق مقاصدهما – أمضوه واستحسنوه، وهذا عين ما قاله جماهير العلماء من أن المستحدثات لا ترفض فورا وإنما ينظر فيها فإن وافق النصوص قبلت بل استحسنت إن كان فيها مصلحة معتبرة، وإن خالف رفضت.
- روي عن ابن عمر أنه سئل عن صوم يوم عرفة بعرفة فقال: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ، وحججت مع أبي بكر فلم يصمه ، وحججت مع عمر فلم يصمه ، وحججت مع عثمان فلم يصمه ، وأنا لا أصومه ، ولا آمر به ، ولا أنهى عنه [([14])] . وفي أثر ابن عمر هذا دليل أن الأمر قد يكون بدعة ولا يكون ضلالة، حيث إن ابن عمر قال ( ولا أنهى عنه )؛ ولو كان يرى أن صيامه ضلالة لنهى عنه، فإذا كان ابن عمر لا يرى أن صوم يوم عرفة للحاج بدعة وضلالة مع ثبوت أن النبي قد أفطره في حجة الوداع([15])، فمن باب أولى أن لا يرى البدعة في فعل شيء لم يرو عن النبي فيه شيء أصلا. بل إن بعض السلف استحب صيام يوم عرفة للحاج إن كان لا يضعفه عن أعمال مثل قتادة ([16])وعطاء([17]) وقول الشافعي في القديم([18]) وقول أبي حنيفة([19])، بل استحبه طائفة من السلف مطلقا وهو قول عائشة وابن الزبير وإسحاق بن راهويه وابن حزم([20])، بيد أن الأكثر من العلماء على استحباب فطره وهو قول الشافعي في الجديد وقول المالكية والحنابلة([21]). وروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن فطره واجب على الحاج([22])، فالخلاف بين العلماء في الاستحباب وعدمه لا في أن صيامه بدعة أو ليس ببدعة.
فإن قيل إنما استحبه بعض السلف لعموم قوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن صوم عرفة فقال: « يكفر السنة الماضية والباقية »([23]). قلنا: نعم هذا صحيح وبذلك استدل ابن حزم في المحلى وأنكر على من كره صيامه بعرفه بحجة أن النبي أفطر أفطر، فرد ابن حزم قائلا: أما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصمه فلا حجة لكم في ذلك لانه عليه السلام قد حض على صيامه أعظم حض، وأخبر انه يكفر ذنوب سنتين، وما علينا أن ننتظر بعد هذا أيصومه عليه السلام أم لا؟ ثم استدل بحديث عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم([24]). فإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم أن من ذهب من السلف إلى استحباب صيامه قد خالف هدي رسول الله في فطره بعرفة([25]).
- ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبل صلاة العيد ولا بعدها شيئاً، كما أخبر بذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [([26])] . وكان ابن مسعود وحذيفة بن اليمان يتمسكان بذلك، حتى إنهما كانا يجلّسان من رأياه يصلي قبل خروج الإمام يوم العيد [([27])] . ومن جهة أخرى نجد روايات عن جماعة من السلف يرون أن لا حرج في الصلاة قبل صلاة العيد أو بعدها أو قبلها وبعدها ، منهم أنس وأبو هريرة والحسن البصري [([28])] .
([1]) مصنف ابن أبي شيبة (1 / 329(، ط/ دار الفكر.
([2]) جاء في حديث النسائي (1281) وابن ماجه(902) والترمذي في العلل (105) حديث جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن “بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات” إلا أنه معلول، ، لأن في إسناده أيمن بن نابل راويه عن أبي الزبير أخطأ في إسناده كما قال البخاري والنسائي وابن حجر، لذلك ضعفه البيهقي والنووي وغيرهما. انظر التلخيص الحبير (1 / 637)، نصب الراية 1/421، المجموع (3/457)، أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (3 / 868).
([3]) مصنف ابن أبي شيبة (1 / 304(.
([4]) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الأذان يوم الجمعة 912
([5]) مصنف ابن أبي شيبة (2 / 75(.
([6]) انظر: صحيح أبي داود للألباني- (4 / 125(
([7]) مصنف ابن أبي شيبة (4 / 332(
([8]) مصنف ابن أبي شيبة 4/372.
([9]) المغني لابن قدامة 2/129.
([10]) مصنف ابن أبي شيبة 4/372.
([11]) مصنف ابن أبي شيبة 4/479.
([12]) مصنف ابن أبي شيبة 4/480
[([13])] صحيح البخاري : فضائل القرآن ، باب جمع القرآن ، برقم 4986 .
[([14])] رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده، وقد صححه المعاصرون بطرقه وشواهده مثل الألباني وشعيب الأرنؤوط ، انظر: سنن الترمذي أبواب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – باب كراهية صوم يوم عرفة بعرفة حديث:714. صحيح ابن حبان – (8 / 369)، مسند أحمد، ط/الرسالة – (9 / 100)، سنن الترمذي بتحقيق الألباني حديث رقم 750، ص185، ط/دار المعارف.
([15]) أخرج الشيخان عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها:« أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم . وقال بعضهم: ليس بصائم . فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره ، فشربه » صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة (1887), صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة، (1123), وأخرج الشيخان عن ميمونة رضي الله عنها: « أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، فأرسلت إليه بحلاب ، وهو واقف في الموقف ، فشرب منه ، والناس ينظرون ». صحيح البخاري – كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة – حديث:1903. صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة، (1123).
([16]) مصنف عبد الرزاق 4 \ 284، وفتح الباري 4 \ 280.
([17]) الحاوي الكبير 3 \ 472، والمغني 4 \ 444.
([19]) بدائع الصنائع 2/79، الفتاوى الهندية 1 \ 201.
([20]) المغني 4 \ 444، الحاوي الكبير 3 \ 472، المحلى 4 \ 438.
([21]) بلغة السالك 1 \ 227، الحاوي الكبير 3 \ 472، والمجموع 6/428، 380، المغني 4 \ 444، وشرح منتهى الإرادات 1 \ 459.
([23]) ) أخرجه مسلم، انظر:صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة (1162).
([25]) مجلة البحوث الإسلامية – (59 / 283): بأن صيام عائشة رضي الله عنها لعرفة بعرفة اجتهاد منها ، يقابله ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصيامه في عرفة ، واتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من متابعة عائشة رضي الله عنها في اجتهادها .
[([26])] صحيح البخاري : العيدين ، باب الصلاة قبل العيد وبعدها برقم 989 .
[([27])] مصنف عبد الرزاق : 3 / 273 . بسند صحيح عنهما .
[([28])] انظر : مصنف عبد الرزاق : 3 / 271 ـ 272 . مصنف ابن أبي شيبة : 2 / 179 ـ 180 .