قاعدة ذهبية في الآيات المتشابهة “والحاصل أننا قبل أن نفسر اليد ننظر إلى من أضيفت إليه فإن أضيفت إلى جسم حملناها على الجارحة إلا لقرينة؛ وإن أضيفت إلى أمر معنوي فنحملها على معنى مجازي يحدده السياق والسباق ونحو ذلك.”
[19] هل صحيح أن لله يدين؟*
الاعتراض الثاني: وهو أن يقول ابن تيمية وأتباعه إن قاعدة الأشاعرة[1] لا دليل عليها سوى مقدمات كلامية معقدة ومبتدعة وباطلة وهي المقدمات التي أقاموا عليها دليل حدوث الأعراض والأجسام والعالَم أجمع؛ فأوجب دليل الحدوث هذا عندهم نفيَ الصفات فنفوها.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: لا نسلم ذلك كله، بل قاعدة الأشاعرة مبنية على ضابط لغوي مطرد سهل بعيدٍ عن أي تعقيدات عقلية أو كلامية كما سيأتي.
الوجه الثاني: سلمنا ذلك جدلا ولكن يمكن أن يقال مثل ذلك في دليل ابن تيمية على قاعدته[2] السابقة …بل يمكن أن يقال زيادة على ذلك: إن قاعدة ابن تيمية هي محض تَحَكُم حيث وَضَع ابنُ تيمية القيدينِ السابقين في المضاف إلى الله ليُدخل بهما ما يشاء من آيات الصفات، ويُخرج بهما ما يشاء كما سبق بيانه.
ولبسط هذين الوجهين نخصص فصلا لكل وجه، نبسط فيه الكلام بعونه تعالى فيما يلي.
الفصل الأول: في أن قاعدة الأشاعرة مبنية على ضابط لغوي مطرد سهل بعيدٍ عن أي تعقيدات عقلية أو كلامية.
وهذا الضابط يتلخص في أن اللفظ إذ كان يحتمل معنيين أحدهما حسي، والآخري معنوي[3]، ثم نُسب هذا اللفظ أو أضيف إلى شيء آخر؛ فلا نتسرع ونحمله على المعنى الحسي بحجة أن الأصل في الكلام الحقيقة وهو هنا المعنى الحسي، فهذا لا يصح لسببين:
السبب الأول: وهو أنه قد يكون اللفظ يحتمل المعنيين الحسي والمعنوي من باب الحقيقة والمجاز، وقد يكون يحتمل كلا المعنيين ولكن من باب الاشتراك فيكون لفظا مشتركا، وحينها نحتاج إلى قرينة تُعيّن المعنى المراد هل هو: الحسي أم المعنوي؛ لأن الفرق بين المشترك وبين المجاز هو أن المشتركَ كُلَ معانيه على وجه الحقيقة، ولا يتعين أحدها إلا بالقرينة، وأما اللفظ الذي يحتمل المجاز فالقاعدة فيه أن يُحمل على حقيقته دون قرينة، وإنما نحتاج إلى القرينة لحمله على المجاز.
فإذن المشترك دائما يحتاج إلى قرينة تعين أحد معانيه، بخلاف اللفظ المجازي فحقيقته لا تحتاج إلى قرينة؛ وبناء عليه فيجب على الخصم أن يكون معه قرينة لحَمْل اللفظ على المعنى الحسي إذا ادعى أن اللفظ من باب المشترك.
هذا مع التنبيه أن الغالب في هذا الباب هو أن المعنى الحسي يكون حقيقة أي لا يحتاج إلى قرينة، والمعنوي يكون مجازا أي يحتاج إلى قرينة، لذلك رجح كثيرٌ من الأصوليين[4] المجازَ على الاشتراك إذا احتمل اللفظ لكليهما.
وفي ذلك يقول الإمام الاسنوي في نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص: 138): المجاز أولى من الاشتراك لوجهين أحدهما: أن المجاز أكثر من الاشتراك بالاستقراء، حتى بالغ ابن جني وقال: أكثر اللغات مجاز, والكثرة تفيد الظن في محل الشك.
الثاني: أن فيه إعمالا للفظ دائما؛ لأنه إن كان معه قرينة تدل على إرادة المجاز أعملناه فيه, وإلا أعملناه في الحقيقة بخلاف المشترك, فإنه لا بد في إعماله من القرينة مثاله النكاح يحتمل أن يكون مشتركا بين العقد والوطء، وأن يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر, فيكون المجاز أولى لما قلناه….اهـ
السبب الثاني وهو هنا محل الشاهد: وهو أنه يجب علينا أن ننظر في هذا اللفظ المحتمل: لِمَن نُسب أو لِمَن أضيف؟!
فإنْ نُسب إلى جسمٍ فحينها يُحمل اللفظُ المنسوب إلى هذا الجسم على المعنى الحسي إلا لقرينة أو دليل صارف فنحمله حينها على المعنى المعنوي له.
وأما إن كان المنسوب إليه اللفظ المحتمل ليس جسما أصلا كأن يكون أمرا معنويا كصفة ونحوها، فلا شك أننا نحمل ذلك اللفظ على المعنى المجازي قطعا.
وتتضح هذه القاعدة بمثال، وأقرب مثال هنا هو ما نحن فيه وهو كلمة “اليد”، فنقول: إن اليد لها معنى حسي وهو الجارحة، ولها معان أخرى كثيرة مثل القدرة والنعمة والمُلك [5]…
ولا يخلو إما أن يدعي الخصم أن كل تلك المعاني لكلمة يد التي أوصلها ابن حجر إلى 25 معنى كلها معانٍ حقيقة وليس منها شيء مجازي، وإنما تُطلق على وجه الاشتراك والقرينة تعيّن المراد، وأن لفظ اليد لفظ مشترك[6]. أو أن يُقرَّ الخصمُ بأن اليد حقيقة في الجارحة مجازٌ فيما سواها.
وسواء ادعى الخصم الأول أو أقر بالثاني فلا يجوز له التسرع وحمْل اليد على الجارحة… وبيان ذلك فيما يلي:
وهو أن الخصم إن ادعى الأول وهو الاشتراك، فلا يصح له حمل اليد على الجارحة إلا بقرينة، بل لا يصح حمل اليد على أي من تلك المعاني الخمس وعشرين إلا بقرينة… لما سبق بيانه وهو أن المشترك يحتاج دائما إلى قرينة تبين أحد معانيه.
وإن أقر الخصم بأن اليد حقيقة في الجارحة مجاز فيما سواها، فلا يصح له أيضا أن يتسرع ويحمل اليد على الجارحة بحجة أن هذا المعنى هو حقيقة اللفظ والأصل الحقيقة ولا تحتاج الحقيقة إلى قرينة …!!
ذلك لأنه قبل أن نتسرع ونحمل لفظ اليد هنا على الجارحة…يجب علينا نظر إلى مَن أضيفت اليد؟ فلا يخلو المقام من حالتين؛ فاليد إما أن تضاف إلى جسم، وإما أن تضاف إلى شيء معنوي ليس بجسم، وبيانهما فيما يلي:
الحالة الأولى: أن تضاف اليد إلى جسم، فالأصل حينها أن نحمل اليد على الجارحة، ولاسيما إذا أضيفت اليدين إلى الإنسان لأنهما تصدق عليه أكثر من غيره؛ وذلك كما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وكما في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وأما إذا وجدت قرينةٌ فيمكن أن نحمل اليد على المعنى المجازي حتى ولو أضيفت إلى الأجسام كالإنسان، كما في قوله تعالى: { يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فهنا المعنى: مَن يملك عَقْد النكاح، وهو الزوج أو الولي على الخلاف بين العلماء في ذلك.
الحالة الثانية: أن تضاف اليد إلى شيء معنوي ليس بجسم، فلا تُحمل اليد هنا على الجارحة، بل يستحيل أن نحمل اليد على الجارحة هنا، إذ كيف يَتصف ما هو معنوي بجارحة جسمية ؟!!!! وإنما نحمل اليد هنا على معنى مجازي قطعا، وهذا يسري في القرآن والشعر والنثر؛ ومن يحمل اليد ـ والحالة هذه ـ على الجارحة فإن عقله مجروح، ومن هنا قال ابن الجوزي فيما نقله عنه الحصني في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد (ص: 7): رأيت من تكلم من أصحابنا في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف وهم ثلاثة ابن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني صنفوا كتبا شانوا بها المذهب[7]…. وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات فسموا الصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل اليد على النعمة أو القدرة ولا المجيء على معنى البر واللطف ولا الساق على الشدة ونحو ذلك بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صَرف صارف حُمل على المجاز .اهـ
فأشار بقوله: ” والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن” إلى أن هذه الألفاظ المتشابهة لا يجوز أن تُحمل على ظاهرها الحسي لأن هذا يمكن لو أضيفتْ إلى جسم كالإنسان ونحوه، أما وأنها أضيفت إلى الله، والله ليس بجسم قطعا فيستحيل أن تُحمل على ظاهرها الحسي.
ونزيد الأمر بيانا فنقول: إن اليدين أضيفتا إلى أمور معنوية ليس أجساما ذاتِ أبعاد ثلاثة، كالرحمة في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الأعراف: 57]، وكالنجوى في قوله تعالى: { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ } [المجادلة: 12]، وكالعذاب كما في قوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، وكالقرآن كما في قوله تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، فهذه الألفاظ الأربعة: (الرحمةـ والنجوى، والعذاب، والقرآن) كلها ليست أجساما بل أمور معنوية، واليدان المضافة إليها لا يجوز أن تُحمل على الجارحة مطلقا بزعم أن هذا هو حقيقة اللفظ وهو الأصل …بل من يحملها على الجارحة فإن عقله فاسد مجروح، وذلك لاستحالة إضافة الجوارح إلى الصفات المعنوية، وإنما تحمل على معاني مجازية؛ وإلا كيف يكون للرحمة جارحتان، أو للنجوى أو للعذاب أو للقرآن مثل ذلك… وهذا كله طبعا إذا ما فسرنا اليدين المضافة إلى هذه الأمور بالجوارح الجسمية؟!!!!!!
والحاصل أننا قبل أن نفسر اليد ننظر إلى من أضيفت إليه فإن أضيفت إلى جسم حملناها على الجارحة إلا لقرينة؛ وإن أضيفت إلى أمر معنوي فنحملها على معنى مجازي يحدده السياق والسباق ونحو ذلك.
والآن تعالوا لنطبق هذه القاعدة على آيتي ص والمائدة، وهما قوله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}…..انظر الاحق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/785977474803163/
كتبه وليد ابن الصلاح
ـــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/784440728290171/
[1] سبق ذكرها، ونذكر هنا الجزء المتعلق باليدين وهو: أن ما يضاف إلى الله من أجسام منفصلة (قائمة بذاتها كالبيت والناقة) أو متصلة (غير قائمة بذاتها) كاليدين والوجه والعين؛ فليست صفات لله تعالى.
[2] وهي: أن ما يضاف إلى الله وكان قائما بذاته نحو: بيت الله، أو صفةً لقائم بذاته كروح آدم في قوله: “ونفخت فيه من روحي”؛ فحينها لا يكون المضاف إلى الله صفة له، وما سوى ذلك يكون صفة له تعالى.
[3] وسواء هنا كان المعنى الحسي هو المعنى الحقيقي للكلمة، والمعنى المعنوي هو المجازي؛ أو كان المعنى الحسي والمعنوي معاني مشتركة للفظ، كما سيأتي بيانه.
[4] كالرازي وابن الحاجب والبيضاوي وابن السبكي وغيرهم، انظر: المحصول 1/492، الإبهاج 1/ 326، البحر المحيط للزركشي 2/244… خلافا للآمدي في ترجيحه للاشترك على المجاز، انظر كتابه الإحكام 2/150. وانظر: المجاز دلالاته الأصولية وتطبيقاته الفقهية ، رسالة ماجستير للباحث حسن بكري ص130.
[5] قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 394): واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز؛ الأول الجارحة، الثاني القوة نحو “داود ذا الأيد” الثالث الملك “إن الفضل بيد الله” الرابع: العهد “يد الله فوق أيديهم” ومنه قوله هذي يدي لك بالوفاء، الخامس: الاستسلام…..ثم عدّد سائرها.
[6] طبعا هنا المقصود بالاشتراك: الاشتراك اللفظي وهو أن لا يكون هناك جامع مشترك بين معاني المشترك إلا اللفظ، كالعين فإنها لفظ مشترك بين الباصرة ونبع الماء والذهب والشمسس والجاسوس وغيرها، ولا يجمع بين هذه المعاني سوى لفظ العين.
وأما إن ادعى الخصم ـ وهو ما يدعيه فعلا ـ أن اليد مشترك معنوي، أي يطلق على القدر المشترك بين يد الإنسان ويد الباب ويد الله وووو …. فهذا سوف تأتي مناقشته إن شاء الله. وانظر هنا ما قرره شيخنا العلامة د.سعيد فودة على: http://www.aslein.net/archive/index.php/t-458.html
[7] كيف لو رأى ابنُ الجوزي كتبَ ابنِ تيمية الذي ذهب أبعد من هؤلاء الثلاثة بكثير في التجسيم، بل ابن تيمية يعتبر القاضيَ أبا يعلى ونحوه من مفوضة الحنابلة، ويعتب ابنُ تيمية على هؤلاء الثلاثة أنهم نفوا حلول الحوادث بذاته تعالى وأنهم تأثروا بالمتكلمين في هذه المسألة وتأثروا بهم في التأويل وغيرها من المسائل….!!! وسوف نبسط هذا الكلام لاحقا إن شاء الله . وانظر: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/407967695983925/
وانظر أيضا: http://majles.alukah.net/t6764/
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/posts/785340031533574/