فيكون دمشقية قد خان الأمانة مرتين، مرة حين اجتزأ كلام الرازي والتفتازاني، ومرة أخرى حين أوهم أنهما نصان تكثيرا لسواده، فضلا عن أنه يفعل ذلك لرمي الناس بالشرك.. هذا ناهيك عن أن هذه الاحتمال الذي اجتزأه دمشقية وفرح به هو أصلا مصادم لصريح القرآن من أن المشركين من كل الأمم كانوا منكرين ومعادين للأنبياء عليهم السلام وبالتالي فكيف يجعلون أصنامهم رموزا لهم ويعبدونهم ويتوسلون بهم كما سبق بسطه؟!! فلاحظ ماذا ارتكب دمشقية: مخالفة صريح القرآن، ورمي الناس بالشرك، وخيانة علمية مرتين..!! وهذه ظلمات بعضها فوق بعض .. فنعوذ بالله من الخذلان.
دعوى إقرار بعض الأشاعرة بأن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والصالحين.
كنت قد ذكرت في منشور سابق[1] بعض الأدلة القاطعة على أن المشركين كانوا يكفرون بالرسل وينكرون أن يكونوا من البشر كما في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا } [الإسراء: 94] وقوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14].
والآيات في ذلك كثيرة تقطع الخلاف وتبطل أحد أصول نظرية تقسيم التوحيد عند ابن تيمية من أن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والأولياء كما بينا ذلك من نصوصه ونصوص أتباعه!! فهذا الأصل باطل بنص الآيات السابقة وغيرها، والمفارقة أن بعض الوهابية ـ كدمشقية ـ ترك تلك الآيات وراح يستدل علينا بنصوص لبعض المتكلمين يزعم أنهم يقولون فيها بأن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء ويتوسل بهم!!!
وليس الأمر كما زعم كما سنرى، ولكن على فرض أن بعض المتكلمين فعلا قال بذلك فهل تُترك تلك الآيات لقول كائن من كان؟!! لا سيما وأن القوم يتهمون المتكلمين بترك الكتاب والسنة واتباع الفلسفة، فضلا عن أنهم ما فتؤوا ينادون بفقه الدليل والضرب بآراء الرجال عرض الحائط لا سيما إذا خالفت الدليل مستشهدين بقول الإمام أحمد ” لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا “[2]. وبقول الإمام الشافعي من قبله ” كل ما قلت ؛ فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح ؛ فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني”[3]، لاحظْ.. هذا فيما خالف الحديثَ فما بالك لو خالف صريح القرآن كما في مسألتنا هذه؟!! فما بالك لو قال قائل بأن الاستشهاد بالقرآن في هذا المقام هو مجرد هرطقة ومغالطة!! كما قال أحد الوهابية عن منشوري السابق وقد بينت ذلك في منشور مستقل[4]. طبعا هذا ليس أول ولا آخر مفارقات القوم، وسترون المزيد بحول الله.
على كل تعالوا لنرى هل فعلا أن بعض المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم قالوا بأن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والأولياء؟! في الواقع قد أورد بعض الوهابية نصوصا عديدة عن الأشاعرة في ذلك، نسردها ثم نجيب عنها:
النص الأول: قال الشهرستاني: وبالجملة وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فنعلم قطعا أن عاقلا ما لا ينحت جسما بيده ويصور صورة ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه وإله الكل وخالق الكل؛ إذ كان وجوده مسبوقا بوجود صانعه،وشكله يحدّث بصنعة ناحته، لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها كان عكوفهم ذلك عبادة وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها وعن هذا كانوا يقولون: “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ” فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدّوا عنها إلى رب الأرباب[5].اهـ
النص الثاني: قال الجرجاني في”شرح المواقف”، بعد أن ذكر عُبَّاد الأوثان: “فإنَّهم لا يقولون بوجود إلهين واجبَي الوجود، ولا يصفون الأوثان بصفات الإلهية، وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة، بل اتخذوها على أنَّها تماثيل الأنبياء، أو الزُّهاد، أو الملائكة”[6].
النص الثالث: قال التفتازاني نقلا عن الإمام الرازي: إنَّ لأهل الأوثان تأويلات.. الخامس: أنه لما مات منهم مَنْ هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته”[7]. وذكر التفتازاني أن شرك المشركين وقع حين “مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله اتخذوا تمثالا على صورته وعظّموه تشفعاً إلى الله تعالى وتوسلاً “[8].
النص الرابع: قال الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي في أثناء كلام في المشركين: “فإنَّهم يزعمون أنَّ الأوثان صور الملائكة”، وهذا نقله المعلمي ثم قال: ويؤكِّد ذلك: تسميتهم أكثر أصنامهم بأسماء مؤنَّثة، كاللَّات والعُزَّى ومناة؛ لأنَّهم يزعمون أنَّ الملائكة إناث، كما سلف، والعادة في الأصنام أن يطلق على الصنم اسم الشخص الذي جُعِل تمثالًا أو تذكارًا له[9].
النص الخامس: قال الآمدي وهو يتكلم عن فرق الصابئة : ويحتمل أن يكون اتخاذ الأصنام بالنسبة إلى غير هذه الفرقة وتعظيمها لاتخاذها قبلة لعباداتهم، أو لأنها على صورة بعض من كان يعتقد فيه النبوة والولاية، تعظيما له، أو لأن قدماء أرباب الهياكل، والأصنام، وعلمائهم ركبوا طلاسم، ووضعوها فيها، وأمروهم بتعظيمها لتبقى محفوظة منتفعا بها. وإلا فاعتقاد الإلهية فيما اتخذ، وصور من الأخشاب، والأحجار، وكونه خالقا لمن صوره، ومبدعا لما وجوده قبل وجوده من العالم العلوي، والسفلي مما لا يستجيزه عقل عاقل بل البداية شاهدة برده، وإبطاله، وإن وقع ذلك معتقدا لبعض الرعاع ، ومن لا خلاق له، من العوام منهم فلا التفات إليه، ولا معول عليه[10].اهـ
النص السادس: نقلوه[11] عن الفخر الرازي، وهو قوله عن المشركين”وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى”[12]. ونقلوا عنه أيضا أنه قال في قوله تعالى {قل لله الشفاعة جميعا} [الزمر: 44]: هذا رد لما يجيبون به، وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم[13].
وقد نقل المعلمي بعض النصوص السابقة ثم قال: إذا تقرَّر هذا، وقد سبق أنَّ العرب كانوا يعبدون الملائكة فأصنامهم إنَّما هي تماثيل أو تذاكير للملائكة[14].
قال وليد – فتح الله عليه وعليكم – قبل أن نجيب عن هذه النصوص يجب التفريق بين دعوى أن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والأولياء فهذا باطل قطعا كما سبق بيانه، وبين دعوى أنهم كانوا يعبدون الملائكة فهذه يمكن أن تقال لوجود آيات تشير إليها ولأن المشركين كانوا يقرون بوجود الملائكة لكن يقولون عنهم بأنهم بنات الله، أي أنهم إن عبدوهم فهم عبدوهم على أنهم آلهة لأنهم بنات الله عندهم – تعالى الله عن ذلك- وليس على أنهم عباد صالحين لله كما يزعم الوهابية، وهذا سنأتي على بيانه في منشور لاحق بعون الله.
والآن نجيب عن تلك النصوص:
أما الشهرستاني فليس في كلامه أن أصنامهم هي تماثيل للأنبياء والملائكة، غاية ما قاله “وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله..”، والمعبود الغائب قد يكون شمسا أو قمرا أو بيتا أو شجرة لأن الناس عبدوا كل ذلك، كما سبق بسطه.ومن ذلك قول ابن القيم “وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي”[15]، ومنه قول ابن عاشور: “الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنّها صور للكواكب وتماثيلُ لها على حسب تخيّلاتهم وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء”[16].
وأما الجرجاني فقد ذكر ذلك على سبيل الاحتمال لا أكثر، بدليل أن تمام كلامه يذكر أنه يحتمل أن تكون أصنامهم تماثيل للكواكب أيضا، حيث قال “بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهاد أو الملائكة أو الكواكب”[17].اهـ
وكذا الجواب عن التفتازاني بدليل أنه ذكر احتمالات أخرى، حيث قال وهو يعدد أصنام المشركين: “ومنهم عبدة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام، أما الملائكة والكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا كونها مؤثرة في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة بالزمان شفعاء للعباد عند الله تعالى مقربة إياهم إليه تعالى. وأما الأصنام فلا خفاء أنَّ العاقل لا يعتقد فيها شيئًا من ذلك، قال الإِمام رحمه الله: فلهم في ذلك تأويلات باطلة:
الأول: أنها صور أرواحٍ تدبِّر أمرهم.
الثاني: أنها صور الكواكب.
الثالث: أن الأوقات الصالحة للطَّلَّسْمات القويَّة الآثار لا توجد إلا أحيانًا من أزمنة متطاولة جدًّا، فعملوا في ذلك الوقت طِلَّسْمًا لمطلوب خاصًّ يعظمونه ويرجعون إليه عند طلبه.
الرابع: أنهم اعتقدوا أن الله تعالى جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة، فاتخذوا صورًا وبالغوا في تحسينها وتزيينها وعبدوها لذلك.
الخامس: أنه لما مات منهم مَنْ هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته وعظَّموه تَشَفُّعًا إلى الله تعالى وتوسُّلًا .. ” [18]
قال وليد: فأنت ترى أن التفتازاني ذكر خمسة احتمالات، آخرها ـ وهو ما اقتصر الخصم عليه كدمشقية ـ هو “أنه لما مات منهم مَنْ هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته ..”، وذَكَر التفتازاني ذلك على أنه مجرد احتمال عقلي لا على أنه أمر شرعي، ثم إنه ذَكر احتمالات عقلية أخرى تعارضه، مثل أن الأصنام صور الكواكب أو أنها طلسمات أو أرواح مدبرة، أو أنها ترمز لله نفسه لكونهم يعتقدون أن الله جسم تعالى الله عن ذلك، فيكون المجموع خمسة احتمالات، فكيف يُصوِّر دمشقيةُ كلامَ التفتازاني وكأنه أورد احتمالا واحدا ــ وهو أن تلك التماثيل صور للملائكة والأنبياء عليهم السلام؟ طبعا هذا كله يفعله دمشقية لهوى في نفسه، وهو من أجل أن يقول بُعيد ذلك: ” شرك المشركين كان شرك الوسيلة الذي يدعو إليه هؤلاء اليوم “[19]..!!! أي أنه يريد القول بأن من يتشفع بالأنبياء ويوسل بهم هو كالمشركين الذين يعبدون الأصنام التي كانت رمزا للأنبياء والأولياء!! ولو نقل كلامَ التفتازاني بتمامه لفات عليه هذا الغرض التكفيري العظيم!!!
وهذا القص فعله دمشقية لكلام التفتازاني فعله في ثلاثة مواضع من موسوعته مقتصرا على الاحتمال الخامس وموهما أن التفتازاني لا يقول بسواه[20]، أهكذا تقتضي الأمانة العلمية التي لطالما حدثنا عنها دمشقية في موسوعته[21]وحاضر فيها مرارا متهما خصومه بخيانتها؟!!! دعك من الخيانة العلمية .. فهذا دأب القوم .. ولكن أهكذا وبهذه الطريقة طريقة بتر النصوص يُرمى الناس بالشرك، فيقال بعد نقل النص المبتور: “وهذا ما نؤكده دائما أن نوع شرك المشركين السابقين: هو شرك تشفع وتوسل بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى. وإنما يقع اليوم في نفس الفخ من لم يعرف نوع الفخ الذي نصبه الشيطان لمشركي الأمس”[22]؟!!!
ثم إن هذه الاحتمالات التي ذكرها التفتازاني قد نصّ على أنها من كلام الإمام الفخر الرازي حيث قال التفتازاني: ” قال الإِمام رحمه الله: فلهم في ذلك تأويلات باطلة:..”، وبالرجوع إلى كلام الرازي نجد أنها ستة احتمالات. ونصُّ الرازي: ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله؟ وذكروا فيه أقوالا كثيرة: فأحدها: أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل إقليم من أقاليم العالم، روح معين من أرواح عالم الأفلاك، فعينوا لذلك الروح صنما معيناواشتغلوا بعبادة ذلك الصنم.. وثانيها: أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى، ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناما معينة واشتغلوا بعبادتها.. وثالثها: أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان، ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات. ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل ، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى ، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر ، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. وخامسها: أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم، وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر، وعلى صورة الملائكة صورا أخرى. وسادسها: لعل القوم حلولية، وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة[23].اهـ
فجاء دمشقية واجتزأ كلام الرازي أيضا، فنقل عنه أحد الاحتمالات وهو قوله” أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم..” [24]، تماما كما اجتزأ كلام التفتازاني، بل إنه ساق كلام التفتازاني والرازي المجتزأين في نفس الموضع موهما أنهما نصّان، واحد للرازي والآخر للتفتازاني ليكثّر ـ أي دمشقية ـ سوادَه، ويتم له هدفه في تكفير الناس ورميهم بالشرك، في حين أنهما نص واحد للرازي، ونقله عنه التفتازاني، فيكون دمشقية قد خان الأمانة مرتين، مرة حين اجتزأ كلاميهما، ومرة أخرى حين أوهم أنهما نصان، فضلا عن أنه يفعل ذلك لرمي الناس بالشرك.. هذا ناهيك عن أن هذه الاحتمال الذي اجتزأه دمشقية وفرح به هو أصلا مصادم لصريح القرآن من أن المشركين من كل الأمم كانوا منكرين ومعادين للأنبياء وبالتالي فكيف يجعلون أصنامهم رموزا لهم ويعبدونهم ويتوسلون بهم كما سبق بسطه؟!! فلاحظ ماذا ارتكب دمشقية: مخالفة صريح القرآن، ورمي الناس بالشرك، وخيانة علمية مرتين..!! وهذه ظلمات بعضها فوق بعض .. فنعوذ بالله من الخذلان.
والحاصل أن التفتازاني نقل عن الرازي خمسة احتمالات من أصل ستة في مسألة لمن ترمز هذه الأصنام، وكلها احتمالات عقلية ليس إلا، وفيها ما لا يشتهيه الخصم كاحتمال أن تكون الأصنام صورا لله نفسه ـ والعياذ بالله ـ أو للكواكب أو للطلاسم أو لغير ذلك كما صرح بذلك هنا، ونحوه قوله في موضع آخر فقال: ” فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك والعلماء ذكروا فيه وجوها: أحدها: ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن الله تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور، وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة: وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة، فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه. وثانيها: ما ذكره أكثر العلماء وهو أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب… غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية ..ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها، ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم .. فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه .. ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها .. وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يعينون أوقاتا في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسما في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به… ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنما على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وخامسها: لعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها. وسادسها: لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل، فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل. “[25].اهـ
وقال الرازي في موضع آخر: ويمكن أن يقال إن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها[26].اهـ
وقال في موضع آخر عن آزر : بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها، وأنها مشفع بها، أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان[27].
فهذا نصوص الرازي بتمامها، وهو كما تراه يردد احتمالات عقلية عديدة وهذا صرح به حيث قال بعد أن أوردها ” فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها”..فجاء دمشقية فاختار من كل هذه النصوص الكثير للرازي جملة واحدة وهي قول الرازي ” أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم ..”، وترك سائر كلامه!! وذلك للإيهام بأن هذا هو ما يقطع به الرازي، وراح دمشقية يطنطن بهذا النص في كتبه أو في مناظراته، وهذه خيانة للأمانة العلمية إن كان دمشقية يعرف معنى ذلك!!!
بل إن الرازي في مواضع آخر لا يذكر هذا الاحتمال الذي اجتزأه دمشقية، حيث قال: أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب وأنها طلسمات موضوعة بحيث إن كل من عبدها انتفع بها وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد[28].
وأيضا فقد ذكر الرازي في تفسيره في عدة مواضع أن أحد الاحتمالات هو أن المشركين كانوا مجسمة أو حلولية أي يعتقدون أن الله جسم أو يحل في الأجسام فلذلك صورا تلك الأصنام لتصوير الله نفسه سبحانه، كما سبق في نصوصه السابق، ويقول في موضع آخر نقلا عن أبي معشر البلخي: أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات، فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله، وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان[29][29].اهـ
وبالتالي فتلك الأصنام التي عبدوها لا ترمز للأنبياء والصالحين وإنما ترمز للإله أو لله نفسه لأنه عندهم جسم، أي أن سبب عبادة الأصنام هو تجسيم الخالق … وهذا السبب طبعا لا يروق لدمشقية، لماذا؟ طبعا فهكم كفاية .. لأنه من أنصار هذه المذهب بشكل من الأشكال وإن أنكر ذلك.
هذا فضلا عن أن الرازي نفسه في مواضع أخرى من تفسيره يصف أصنام المشركين بأنها مجرد جمادات لا أكثر، وإليك بعض هذه المواضع:..انتظره
——-
[1] انظر:
https://www.facebook.com/…/permalink/3069508789829789/
[2] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (1/ 32)
[3] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (1/ 31)، موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 983)
[4] انظر:
https://www.facebook.com/…/permalink/3071233819657286/
[5] الملل والنحل (2/ 258)، ونقله عنه صاحب شبهات المبتدعة في توحيد العبادة ص279
[6] ) “شرح المواقف” ج 3 ص 32 وما بعدها. آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني (6/ 172)
[7] “شرح المقاصد” ج 2 ص 64 – 65.
[8] موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 39، وانظر أيضا: 159، و167).
[9] آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني (6/ 173)
[10] أبكار الأفكار في أصول الدين (2/ 267)
[11] موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 39)
[12] مفاتيح الغيب (17/ 63)
[13] آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني (2/ 503)، نقلا عن تفسير الرازي 26/ 247 – 248، وروح المعاني 7/ 410. ونص الرازي الذي وجدته في مفاتيح الغيب في سورة الزمر (26/ 456): واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالا، فقالوا نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله ..اهـ وقد سبق أن ناقشنا هذا الكلام، ججج هربا من ضرره.
[14] آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني (6/ 172)
[15] إغاثة اللهفان (2/ 223). وانظر : معارج القبول (2/ 471)
[16] التحرير والتنوير (7/ 320)
[17] شرح المواقف (8/ 43)
[18] آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني (2/ 333) نقلا عن شرح المقاصد للتفتازاني 3/ 29، وانظر عمدة المريد لجوهرة التوحيد المسمى (الشرح الكبير) 1/ 446، ط/ دار الكتب العلمية.
[19] موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 167)
[20] وإليكم المواضع الثلاثة؛ الموضع الأول: قال دمشقية في موسوعة أهل السنة (ص: 40): وذكر التفتازاني أن شرك المشركين وقع حين ” مات منهم من هو كامل المرتبة ..”.اهـ والموضع الثاني قوله (ص: 159): ((التفتازاني يعترف أن شرك المشركين توسل وتشفع. قال التفتازاني أن شرك المشركين وقع حين ” مات منهم من هو..”)). الموضع الثالث (ص: 167): ((ولقد ذكر التفتازاني أن شرك المشركين وقع حين ” مات منهم من.. “)).
[21] انظر: موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 101، و 201، 354، 997، 1077، 1198)
[22] موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 40)
[23] مفاتيح الغيب (17/ 63)
[24] موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 40)
[25] مفاتيح الغيب (13/ 30(
[26] مفاتيح الغيب 26/ 421
[27] مفاتيح الغيب (21/ 543)
[28] مفاتيح الغيب (22/ 154)
[29] مفاتيح الغيب (13/ 31)
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/3075791962534805/