التأويل

من روائع ابن جني في تأويلات آيات الصفات المتشابهة وقوله ( ولو كان لهم أنس بهذه اللغة الشريفة أو تصرّف فيها أو مزاولة لها لحمتهم السعادة بها ما أصارتهم الشِقوة إليه بالبعد عنها)

-من روائع ابن جني: فأمّا قول من طغى به جهله وغلبت عليه شِقوته حتى قال في قول الله تعالى ( يومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) : إنه أراد به عِضو القديم وإنها جوهر كهذه الجواهر الشاغلة للأماكن وإنها ذات شَعَر وكذا وكذا ممّا تتابعوا ( في شناعته ) وركِسوا في ( غوايته ) فأمر نحمد الله على أن نزَّهنا عن الإِلمام بحرَاه
جاء في الخصائص لابن جني – (ج 3 / ص 245): اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب وأن الانتفاع به ليس إلى غاية ولا وراءه من نهاية . وذلك أن أكثر مَن ضلّ مِن أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها فإنما استهواه ( واستخفّ حِلمه ) ضعفُه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافّة بها وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها وجاز عليهم بها وعنها . وذلك أنهم لمّا سمعوا قول الله – سبحانه وعلا عما يقول الجاهلون علوّا كبيرا – ( يا حَسْرَتي عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ الله ) وقوله – عزّ اسمه – ( فأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَّم وَجْهُ اللهِ ) وقوله : ( لِمَا خلقتُ بَيَديَّ ) وقوله تعالى ( مِما عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) وقوله : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ) وقوله : ( ولِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) وقوله : ( والسموات مَطْوِيَّات بيمينه ) ونحو ذلك من الآيات الجارية هذا المجرى وقوله في الحديث : خلق الله آدم على صورته حتى ذهب بعض هؤلاء الجهَّال في قوله تعالى : ( يوم يكَشفُ عن ساق ) أنها ساق ربهم – ونعوذ بالله من ضَعْفة النظر وفساد المعتبر – ولم يشكّوا أن هذه أعضاء له وإذا كانت أعضاء كان هو لا محالة جسما مُعَضًّى على ما يشاهدون من خَلْقه عزَّ وجهه وعلا قدره وانحطّت سوامي ( الأقدار و ) الأفكار دونه . ولو كان لهم أنسْ بهذه اللغة الشريفة أو تصرّف فيها أو مزاولة لها لحمتهم السعادة بها ما أصارتهم الشِقوة إليه بالبعد عنها . وسنقول في هذا ونحوه ما يجب في مثله .

ولذلك ما قال رسول الله لرجل لحن أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل فسمى اللحن ضلالا وقال عليه السلام : ( رحم الله امرأ اصلح من لسانه ) وذلك لما ( علمه مما يُعِقب ) الجهلُ لذلك من ضدّ السداد وزيغ الاعتقاد وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جارٍ على المجاز وقلمّا يخرج الشيء منها على الحقيقة . وقد قدّمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره . فلمّا كانت كذلك وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها وانتشار أنجائها جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عُرْفهم وعادتهم في استعمالها . وذلك أنهم يقولون : هذا الأمر يصفر في جَنْب هذا أي بالإضافة إليه و ( قرنه به ) . فكذلك قول الله تعالى : ( يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله ) ( أي فيما بيني وبين الله ) إذا أضفت تفريطي إلى أمره لي ونهيه إياي . وإذا كان أصله اتساعا جرى بعضه مجرى بعض . وكذلك قوله – : ( كُلّ الصيد في جَنْب الفرأ ) ( وجوف الفرأ ) أي ( كأنه يصغُر ) بالإضافة إليه وإذا قيس به
وكذلك قوله – سبحانه – : ( فأينما تُوَلُّوا فثّمَّ وَجْهُ الله ) إنما هو الاتجاه ( إلى الله ) ألا ترى إلى بيت الكتاب :
( أستغفر الله ذنبا لستُ مُحْصَيهُ … رَبَّ العباد إليه الوجه والعمل )
أي الاتجاه . فإن شئت قلت : إن الوجه هنا مصدر محذوف الزيادة كأنه وضع الفَعْل موضع الافتعال كوحده وقيدِ الأوابد ( – في أحد القولين – ) ونحوهما . وإن شئت قلت : خرج مخرج الاستعارة . وذلك أن وجه الشيء أبدا هو أكرمه وأوضحه فهو المراد منه والمقصود إليه . فجرى استعمال هذا في القديم – سبحانه – مجرى العرف فيه والعادة في أمثاله . أي لو كان – تعالى – ممّا يكون له وجه لكان كلّ موضع تُوجّه إليه فيه وجها له إلا أنك إذا جعلت الوجه في القول الأوّل مصدرا كان في المعنى مضافا إلى المفعول دون الفاعل لأن المتوجَّه إليه مفعول ( في المعنى فيكون ) إذًا من باب قوله – عزّ وجلّ – ( لايسئم الإنسان من دعاء الخير ) و ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك ) ونحو ذلك ممّا أضيف فيه المصدر إلى المفعول به
وقوله تعالى ( مما عملته أيدينا ) إن شئت قلت : لمّا كان العُرْف أن يكون أكثر الأعمال باليد جرى هذا مجراه . وإن شئت قلت : الأيدي هنا جمع اليد التي هي القوّة فكأنه قال : مما عملته قوانا أي القُوَى التي أعطيناها الأشياء لا أنّ له – سبحانه – جسما تحلّه القوّة أو الضعف . ونحوه قولهم في القسم : لعمر الله إنما هو : وحياةِ الله أي والحياة التي آتانيها الله لا أن القديم سبحانه محلّ للحياة كسائر الحيوانات . ونسب العمل إلى القدرة وإن كان في الحقيقة للقادر لأن بالقدرة ما يتمّ له العمل كما يقال : قطعه السيف وخرقه الرمح . فيضاف الفعل إليهما لأنه إنما كان بهما
وقوله تعالى : ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) أي تكون مكنوفا برأفتي بك وكلاءتي لك كما أن مَن يشاهده الناظر له والكافل به أدنى إلى صلاح أموره وانتظام أحواله ممن يبعد عمن يدبّره ويلي أمره قال المولَّد :
( شهِدوا وغبنا عنهم فتحكّموا … فينا وليس كغائب من يشهد )
وهو باب واسع
وقوله : ( والسَّموَاتُ مَطْوِيّاتُ بِيَمِينِهِ ) إن شئت جعلت اليمين هنا الجارحة فيكون على ( ما ذهبنا ) إليه من المجاز والتشبيه أي حصلت السموات تحت قدرته حصول ما تحيط اليد به في يمين القابض عليه وذُكرت اليمين هنا دون الشِمال لأنها أقوى اليدين وهو من مواضع ذكر الاشتمال والقوّة . وإن شئت جعلت اليمين هنا القوّة كقوله :
( إذا ما رايةُ رُفِعتْ لمجد … تلقّاها عَرَابةُ باليمينِ )
أي بقوّته وقدرته . ويجوز أن يكون أراد بيد عرابة : اليمنى على ما مضى . وحدّثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين قال : في قول الله – جلّ اسمه – ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) ثلاثة أقوال : أحدها : باليمين التي هي خلاف الشمال . والاخر باليمين التي هي للقوّة . والثالث ( باليمين التي هي ) قوله : ( وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) فإن جعلت يمينه من قوله : ( مطويّات بيمينه ) ( هي الجارجة مجازا وتشبيها كانت الباء هنا ظرفا ) أي مطويّات في يمينه وتحت يمينه . وإن جعلتها القوّة لم تكن الباء ظرفا لكنها تكون حرفا معناه الإلصاق والاستعانة به على التشبيه بما يستعان به كقولهم : ضرب بالسيف وقطع بالسكين وحفر بالفأس . هذا هو المعنى الظاهر وإن كان غيره جائزا على التشبيه والسعة
وقوله في الحديث : خلق الله آدم على صورته يحتمل الهاء فيه أن تكون راجعة على اسم الله تعالى وأن تكون راجعة على آدم . فإذا كانت عائدة على اسم الله تعالى كان معناه : على الصورة التي أنشأها الله وقدّرها . فيكون المصدر حينئذ مضافا إلى الفاعل لأنه – سبحانه – هو المصوّر لها لا أن له – عزّ اسمه – صورة و ( مثالا ) كما أن قولهم : لعمر الله إنما معناه : والحياةِ التي كانت بالله والتي آتانيها الله لا أن له – تعالى – حياة تحلُّه ولا أنه – عزَّ وجهه – محلّ للأعراض . وإن جعلتها عائدة على آدم كان معناه : على صورة آدم أي على صورة أمثاله ممن هو مخلوق ومدبَّر فيكون هذا حينئذ كقولك في السيد والرئيس : قد خدمته خِدمته أي الخدمة التي تحِقّ لأمثاله وفي العبد والمبتذَل : قد استخدمته استِخدامه أي استخدام أمثاله ممن هو مأمور بالخفوف والتصرّف فيكون إذًا كقوله – عزّ وجلّ – ( فِي أَيِّ صُورَة مَّا شَاء رَكَّبك ) وكذلك نظائر هذا : هذه سبيله
فأمّا قول من طغى به جهله وغلبت عليه شِقوته حتى قال في قول الله تعالى ( يومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) : إنه أراد به عِضو القديم وإنها جوهر كهذه الجواهر الشاغلة للأماكن وإنها ذات شَعَر وكذا وكذا ممّا تتابعوا ( في شناعته ) وركِسوا في ( غوايته ) فأمر نحمد الله على أن نزَّهنا عن الإِلمام بحرَاه . وإنما الساق هنا يراد بها شِدّة الأمر كقولهم : قد قامت الحرب على ساق . ولسنا ندفع مع ذلك أن الساق إذا أريدت بها الشدّة فإنما هي مشبَّهة بالساق هذه التي تعلق القدم وأنه إنما قيل ذلك لأن الساق هي الحاملة للجملة المنهِضة لها . فذكِرت هنا لذلك تشبيها وتشنيعا . فأما أن تكون للقديم – تعالى – جارحة : ساق أو غيرها فنعوذ بالله من اعتقاده ( أو الاجتياز ) بطَوَاره . وعليه بيت الحماسة :
( كشفَت لهم عن ساقها … وبدا من الشرّ الصراحُ )

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/950240161756673/

السابق
عقيدة الإمام النووي رحمه الله من أقواله وإثبات أشعريته (د.سيف العصري)
التالي
موقف الأشاعرة من كتاب التوحيد لابن خزيمة