صفة الاستواء

نصوص مفسري السلف والخلف والمتقدمين والمتأخرين والمعاصرين في آية الاستواء: {استوى على العرش} [الأعراف:54]/ج2

تفسير الجلالين

{ثم استوى على العرش} هو في اللغة سرير الملك استواء يليق به

الكتاب: تفسير الجلالين

المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911هـ)

الناشر: دار الحديث – القاهرة

الطبعة: الأولى

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ص201

تفسير الخازن

وقوله تعالى: ثمّ استوى على العرش العرش في اللغة: السرير، وقيل: هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز. يقال فلان فل عرشه بمعنى ذهب عزه وملكه وسلطانه. قال الراغب في كتابه مفردات القرآن: وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب. وأما استوى بمعنى استقر فقد رواه البيهقي في كتابه الأسماء والصفات برواية كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وقال: أما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك، وروى بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه

ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل. وفي رواية يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟

فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج. روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال: ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم. وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرءوها كما جاءت بلا كيف. وقال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعد ذكره الدلائل العقلية والسمعية: أنه لا يمكن حمل قوله تعالى ثم استوى على العرش على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول القطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى وهو الذي قررنا في تفسير قوله: وما يعلم تأويله إلّا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه والمذهب الثاني: أنا نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان:

الأول، ما ذكره القفال فقال العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك ثم جعل ثل العرش كناية عن نقض الملك يقال ثل عرشه انتقض ملكه وإذا استقام له ملكه واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه هذا ما قاله القفال والذي قاله القفال حق وصواب ثم قال الله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم تنبيها على عظمة الله جل جلاله وكمال قدرته وذلك مشروط بنفي التشبيه والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة. قال ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس ثمّ استوى على العرش يدبّر فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله ثم استوى على العرش وأورد على هذا القول أن الله تعالى لم يكن مستويا على الملك قبل خلق السموات والأرض والله تعالى منزه عن ذلك وأجيب عنه بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض والقول الثاني: أن يكون استوى بمعنى استولى وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين واحتجوا عليه بقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق

وعلى هذا القول إنما خص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات.

ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى: ثمّ استوى على العرش. وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علوا

بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يريد معنى نفي التحيز عنه وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ووصف الله تعالى بذلك طريقة الخبر. ولا يتعدى ما ورد به الخبر قال البيهقي رحمه الله تعالى وهو على هذه الطريقة من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوي عليه لا بالاستواء. قال وقد أشار أبو الحسن الأشعري إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات قال وجوابي هو الأول وهو أن الله تعالى مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أن لا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا وقد قال بعض أصحابنا: إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه. وروي أن ابن الأعرابي جاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن ما معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل: إنما معنى قوله استوى أي استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك أن العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر لا كما تظنه البشر والله أعلم.

الكتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل

المؤلف: علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن (المتوفى: 741هـ)

المحقق: تصحيح محمد علي شاهين

الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت

الطبعة: الأولى – 1415 هـ

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج2

ص208

تفسير الرازي

أمّا قوله تعالى: ثمّ استوى على العرش فاعلم أنّه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرّا على العرش ويدلّ على فساده وجوه عقليّة ووجوه نقليّة. أمّا العقليّة فأمور: أوّلها: أنّه لو كان مستقرّا على العرش لكان من الجانب الّذي يلي العرش متناهيا وإلّا لزم كون العرش داخلا في ذاته وهو محال وكلّ ما كان متناهيا فإنّ العقل يقضي بأنّه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرّة والعلم بهذا الجواز ضروريّ فلو كان الباري تعالى متناهيا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزّيادة والنّقصان وكلّ ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعيّن لتخصيص مخصّص وتقدير مقدّر وكلّ ما كان كذلك فهو محدث فثبت أنّه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الّذي يلي العرش متناهيا ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالا. وثانيها: لو كان في مكان وجهة لكان إمّا أن يكون غير متناه من كلّ الجهات وإمّا أن يكون متناهيا في كلّ الجهات. وإمّا أن يكون متناهيا من بعض الجهات دون البعض والكلّ باطل فالقول بكونه في المكان والحيّز باطل قطعا.

بيان فساد القسم الأوّل: أنّه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السّفليّة والعلويّة وأن تكون

مخالطة للقاذورات والنّجاسات وتعالى اللّه عنه وأيضا فعلى هذا التقدير: تكون السموات حالّة في ذاته وتكون الأرض أيضا حالّة في ذاته.

إذا ثبت هذا فنقول: الشّيء الذي هو محل السموات إمّا أن يكون هو عين الشّيء الّذي هو محلّ الأرضين أو غيره فإن كان الاول لزم كون السموات والأرضين حالّتين في محلّ واحد من غير امتياز بين محلّيهما أصلا وكلّ حالّين حلّا في محلّ واحد لم يكن أحدهما: ممتازا عن الآخر فلزم ان يقال: السموات لا تمتاز عن الأرضين في الذّات وذلك باطل وإن كان الثّاني: لزم أن تكون ذات اللّه تعالى مركّبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال. والثّالث: وهو أنّ ذات اللّه تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات فإمّا أن يقال: الشّيء الّذي حصل فوق هو/ عين الشّيء الّذي حصل تحت فحينئذ تكون الذّات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة؟ وهو محال في بديهة العقل. وأمّا إن قيل: الشّيء الّذي حصل فوق غير الشّيء الّذي حصل تحت فحينئذ يلزم حصول التّركيب والتّبعيض في ذات اللّه تعالى وهو محال.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أن يقال: أنّه تعالى متناه من كلّ الجهات. فنقول: كلّ ما كان كذلك فهو قابل للزّيادة والنّقصان في بديهة العقل وكلّ ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعيّن لأجل تخصيص مخصّص وكلّ ما كان كذلك فهو محدث وأيضا فإن جاز أن يكون الشّيء المحدود من كلّ الجوانب قديما أزليّا فاعلا للعالم فلم لا يعقل أن يقال: خالق العالم هو الشّمس أو القمر أو كوكب آخر وذلك باطل باتّفاق.

وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: أنه متناه من بعض الجوانب وغير متناه من سائر الجوانب فهذا أيضا باطل من وجوه أحدها: أنّ الجانب الّذي صدق عليه كونه متناهيا غير ما صدق عليه كونه غير متناه وإلّا لصدق النّقيضان معا وهو محال. وإذا حصل التّغاير لزم كونه تعالى مركّبا من الأجزاء والأبعاض وثانيها: أنّ الجانب الّذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهيا إمّا أن يكون مساويا للجانب الّذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه وإمّا أن لا يكون كذلك والأوّل باطل لأنّ الأشياء المتساوية في تمام الماهيّة كلّ ما صحّ على واحد منها صحّ على الباقي وإذا كان كذلك: فالجانب للّذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهيا والجانب الّذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه ومتى كان الأمر كذلك كان النّموّ والذّبول والزّيادة والنّقصان والتّفرّق والتّمزّق على ذاته ممكنا وكلّ ما كان كذلك فهو محدث وذلك على الإله القديم محال فثبت أنّه تعالى لو كان حاصلا في الحيّز والجهة لكان إمّا أن يكون غير متناه من كلّ الجهات وإمّا أن يكون متناهيا من كلّ الجهات أو كان متناهيا من بعض الجهات، وغير متناه من سائر الجهات فثبت أنّ الأقسام الثّلاثة باطلة فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلا في الحيّز والجهة محال.

والبرهان الثّالث: لو كان الباري تعالى حاصلا في المكان والجهة لكان الأمر المسمّى بالجهة إمّا أن يكون موجودا مشارا إليه وإمّا أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فكان القول بكونه تعالى حاصلا في الحيّز والجهة باطلا.

أمّا بيان فساد القسم الأوّل: فلأنّه لو كان المسمّى بالحيّز والجهة موجودا مشارا إليه فحينئذ/ يكون

المسمى بالحيز والجهة بعدا وامتداد والحاصل فيه أيضا يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد وإلّا لامتنع حصوله فيه وحينئذ يلزم تداخل البعدين وذلك محال للدّلائل الكثيرة المشهورة في هذا الباب وأيضا فيلزم من كون الباري تعالى قديما أزليّا كون الحيّز والجهة أزليّين وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى اللّه تعالى وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل.

وأمّا بيان فساد القسم الثّاني: فهو من وجهين: أحدهما: أنّ العدم نفي محض وعدم صرف وما كان كذلك امتنع كونه ظرفا لغيره وجهة لغيره. وثانيهما: أنّ كلّ ما كان حاصلا في جهة فجهته ممتازة في الحسّ عن جهة غيره فلو كانت تلك الجهة عدما محضا لزم كون العدم المحض مشارا إليه بالحسّ وذلك باطل فثبت أنّه تعالى لو كان حاصلا في حيّز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطلين فوجب أن يكون القول به باطلا.

فإن قيل: فهذا أيضا وارد عليكم في قولكم: الجسم حاصل في الحيّز والجهة.

فنقول: نحن على هذا الطّريق لا نثبت للجسم حيّزا ولا جهة أصلا البتّة بحيث تكون ذات الجسم نافذة فيه وسارية فيه بل المكان عبارة عن السّطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسّطح الظّاهر من الجسم المحويّ وهذا المعنى محال بالاتّفاق في حقّ اللّه تعالى فسقط هذا السّؤال.

البرهان الرّابع: لو امتنع وجود الباري تعالى إلّا بحيث يكون مختصّا بالحيّز والجهة لكانت ذات الباري مفتقرة في تحقّقها ووجودها إلى الغير وكلّ ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنّه لو امتنع وجود الباري إلّا في الجهة والحيّز لزم كونه ممكنا لذاته ولمّا كان هذا محالا كان القول بوجوب حصوله في الحيّز محالا.

بيان المقام الأوّل: هو أنّه لمّا امتنع حصول ذات اللّه تعالى إلّا إذا كان مختصّا بالحيّز والجهة. فنقول: لا شكّ أنّ الحيّز والجهة أمر مغاير لذات اللّه تعالى فحينئذ تكون ذات اللّه تعالى مفتقرة في تحقّقها إلى أمر يغايرها وكلّ ما افتقر تحقّقه إلى ما يغايره كان ممكنا لذاته. والدّليل عليه: أنّ الواجب لذاته هو الّذي لا يلزم من عدم غيره عدمه والمفتقر إلى الغير هو الّذي يلزم من عدم غيره عدمه فلو كان الواجب لذاته مفتقرا إلى الغير لزم أن يصدق عليه النّقيضان وهو محال فثبت أنّه تعالى لو وجب حصوله في الحيّز لكان ممكنا لذاته لا واجبا لذاته وذلك محال.

والوجه الثّاني: في تقرير هذه الحجّة: هو أنّ الممكن محتاج إلى الحيّز والجهة. أمّا عند من يثبت الخلاء فلا شكّ أنّ الحيّز والجهة تتقرّر مع عدم التّمكّن وأمّا عند من ينفي الخلاء فلا لأنّه وإن كان معتقدا أنّه لا بدّ من متمكّن يحصل في الجهة إلّا أنّه لا يقول بأنّه لا بدّ لتلك الجهة من متمكّن معيّن/ بل أيّ شيء كان فقد كفى في كونه شاغلا لذلك الحيّز. إذا ثبت هذا فلو كان ذات اللّه تعالى مختصّة بجهة وحيّز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيّز، وكان ذلك الحيّز غنيّا تحقّقه عن ذات اللّه تعالى وحينئذ يلزم أن يقال: الحيّز واجب لذاته غنيّ عن غيره وأن يقال ذات اللّه تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا: الإله تعالى واجب الوجود لذاته.

فإن قيل: الحيّز والجهة ليس بأمر موجود حتّى يقال ذات اللّه تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه فنقول: هذا باطل قطعا لأنّ بتقدير أن يقال إنّ ذات اللّه تعالى مختصّة بجهة فوق فإنّما نميّز بحسب الحسّ بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحسّ كيف يعقل أن يقال إنّه عدم محض ونفي صرف؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كلّ المحسوسات وذلك يوجب حصول الشّكّ في وجود كلّ المحسوسات وذلك لا يقوله عاقل.

البرهان الخامس: في تقرير أنّه تعالى يمتنع كونه مختصّا بالحيّز والجهة نقول: الحيّز والجهة لا معنى له إلّا الفراغ المحض والخلاء الصّرف وصريح العقل يشهد أنّ هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه البتّة وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهيّة.

وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان الإله تعالى مختصّا بحيّز، لكان محدثا وهذا محال فذاك محال وبيان الملازمة: أنّ الأحياز لمّا ثبت أنّها بأسرها متساوية فلو اختصّ ذات اللّه تعالى بحيّز معيّن لكان اختصاصه به لأجل أنّ مخصّصا خصّصه بذلك الحيّز وكلّ ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث فوجب أن يكون اختصاص ذات اللّه بالحيّز المعيّن محدثا فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلوّ عن الحصول في الحيّز وثبت أنّ الحصول في الحيّز محدث وبديهة العقل شاهدة بأنّ ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث، لزم القطع بأنّه لو كان حاصلا في الحيّز لكان محدثا ولمّا كان هذا محالا كان ذلك أيضا محالا.

فإن قالوا: الأحياز مختلفة بحسب أنّ بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات اللّه تعالى مختصّة بجهة علو؟ فنقول: هذا باطل لأنّ كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلا أحوال لا تحصل إلّا بالنّسبة إلى وجود هذا العالم فلمّا كان هذا العالم محدثا كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلّا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضا لو جاز القول بأنّ ذات اللّه تعالى مختصّة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب؟ فلم لا يعقل أيضا أن يقال: إنّ بعض الأجسام اختصّ ببعض الأحياز على سبيل الوجوب؟ وعلى هذا التّقدير فذلك اسم لا يكون قابلا للحركة والسّكون فلا يجري فيه/ دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدّلالة على حدوث كلّ الأجسام بطريق الحركة والسّكون والكرّاميّة وافقونا على أنّ تجويز هذا يوجب الكفر. واللّه أعلم.

البرهان السّادس: لو كان الباري تعالى حاصلا في الحيّز والجهة لكان مشارا إليه بحسب الحسّ وكلّ ما كان كذلك فإمّا أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإمّا أن يقبل القسمة.

فإن قلنا: إنّه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحسّ مع أنّه لا يقبل القسمة المقداريّة البتّة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهرا فردا لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصّغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأنّ الّذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والّذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصّغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزى فثبت أنّ هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضا فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال: إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرّة ملتصقة بذنب قملة أو نملة؟ ومعلوم أنّ كلّ قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإنّ صريح العقل يوجب تنزيه اللّه تعالى عنه.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أنّه يقبل القسمة فنقول: كلّ ما كان كذلك فذاته مركّبة وكلّ مركّب فهو ممكن لذاته وكلّ ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثّر وذلك على الإله الواجب لذاته محال.

البرهان السّابع: ان نقول: كل ذات قائمة بنفسها مشارا إليها بحسب الحسّ فهو منقسم وكلّ منقسم ممكن فكلّ ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحسّ فهو ممكن. فما لا يكون ممكنا لذاته بل كان واجبا لذاته امتنع كونه مشارا إليه بحسب الحسّ.

أمّا المقدّمة الأولى: فلأنّ كلّ ذات قائمة بالنّفس مشار إليها بحسب الحسّ فلا بدّ وأن يكون جانب يمينه مغايرا لجانب يساره وكلّ ما هو كذلك فهو منقسم.

وأمّا المقدّمة الثّانية: وهي أنّ كلّ منقسم ممكن فإنّه يفتقر إلى كلّ واحد من أجزائه وكلّ واحد من أجزائه غيره وكلّ منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكلّ مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته.

واعلم أنّ المقدّمة الأولى من مقدّمات هذا الدّليل إنّما تتمّ بنفي الجوهر الفرد.

البرهان الثّامن: لو ثبت كونه تعالى في حيّز لكان إمّا أن يكون أعظم من العرش أو مساويا له أو أصغر منه فإن كان الأوّل كان منقسما لأنّ القدر الّذي منه يساوي العرش يكون مغايرا للقدر الّذي يفضل على العرش وإن كان الثّاني كان منقسما لأنّ العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثّالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمّة أمّا عندنا/ فظاهر وأمّا عند الخصوم فلأنّهم ينكرون كون غير اللّه تعالى أعظم من اللّه تعالى فثبت أنّ هذا المذهب باطل.

البرهان التّاسع: لو كان الإله تعالى حاصلا في الحيّز والجهة لكان إمّا أن يكون متناهيا من كلّ الجوانب وإمّا أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلا في الحيّز والجهة باطل أيضا. أمّا بيان أنّه لا يجوز أن يكون متناهيا من كلّ الجهات فلأنّ على هذا التّقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيّز الخالي وعلى هذا التّقدير لو خلق هناك عالما آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضا فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب السّتّة لتلك الذّات أجساما أخرى وعلى هذا التّقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكلّ ذلك على اللّه تعالى محال.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضا محال لأنّه ثبت بالبرهان أنّه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضا فعلى هذا التّقدير لا يمكن إقامة الدّلالة على أنّ العالم متناه لأنّ كلّ دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإنّ ذلك الدّليل ينتقض بذات اللّه تعالى فإنّه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللّفظ إلّا أنّه يساعد على المعنى والمباحث العقليّة مبنيّة على المعاني لا على المشاحّة في الألفاظ.

البرهان العاشر: لو كان الإله تعالى حاصلا في الحيّز والجهة لكان كونه تعالى هناك إمّا أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلا في الحيّز.

أمّا فساد القسم الأوّل: فلأنّه لمّا كان كونه هناك مانعا من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساويا

لسائر الأجسام في كونه حجما متحيّزا ممتدّا في الحيّز والجهة مانعا من حصول غيره في الحيّز الّذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فاما ان يحصل بينه وبينهما مخالفة من سائر الوجوه أو لا يحصل والأوّل باطل لوجهين: الأوّل: أنّه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايرا لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركّبة من هذين الاعتبارين وقد دلّلنا على أنّ كلّ مركّب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف. والثّاني: وهو أنّ ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إمّا أن يكون محلّا لما به المخالفة وإمّا أن يكون حالّا فيه وإمّا أن يقال: إنّه لا محلّ له ولا حالّا فيه. أمّا الأوّل: وهو أن يكون محلّا لما به/ المخالفة فعلى هذا التّقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور الّتي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذّوات متساوية في تمام الماهيّة فكلّ ما صحّ على بعضها وجب أن يصحّ على البواقي فعلى هذا التّقدير كلّ ما صحّ على جميع الأجسام وجب أن يصحّ على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحّة التّفرّق والتّمزّق والنّموّ والذّبول والعفونة والفساد على ذات اللّه تعالى وكلّ ذلك محال.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أن يقال: ما به المخالفة محلّ وذات وما به المشاركة حالّ وصفة فهذا محال لأنّ على هذا التّقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحلّ وذلك المحلّ إن كان له أيضا اختصاص بحيّز وجهة وجب افتقاره إلى محلّ آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجودا مجرّدا لا تعلّق له بالحيّز والجهة والإشارة الحسّيّة البتّة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيّز والجهة والإشارة الحسّيّة وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحلّ يوجب الجمع بين النّقيضين وهو محال.

وأمّا القسم الثّالث: وهو أن لا يكون أحدهما حالّا في الآخر ولا محلّا له فنقول: فعلى هذا التّقدير يكون كلّ واحد منهما متباينا عن الآخر وعلى هذا التّقدير فتكون ذات اللّه تعالى مساوية لسائر الذّوات الجسمانيّة في تمام الماهيّة لأنّ ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذّوات ليست حالّة في هذه الذّوات ولا محالّا لها بل أمور أجنبيّة عنها فتكون ذات اللّه تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهيّة وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أنّ القول بأنّ ذات اللّه تعالى مختصّة بالحيّز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيّز يفضي إلى هذه الأقسام الثّلاثة الباطلة فوجب كونه باطلا.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أن يقال: إنّ ذات اللّه تعالى وإن كانت مختصّة بالحيّز والجهة إلّا أنّه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيّز والجهة فهذا أيضا محال لأنّه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الّذي يحصل في ذلك الجنب والحيّز وذلك بالإجماع محال ولأنّه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيّز الواحد؟ فثبت أنّه تعالى لو كان حاصلا في حيّز لكان إمّا أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيّز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيّز والجهة محالا باطلا.

البرهان الحادي عشر: على أنّه يمتنع حصول ذات اللّه تعالى في الحيّز والجهة هو أن نقول: لو كان مختصّا بحيّز وجهة لكان إمّا أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرّك عن تلك الجهة أو لا يمكنه/ ذلك والقسمان

باطلان فبطل القول بكونه حاصلا في الحيّز.

أمّا القسم الأوّل: وهو أنّه يمكنه أن يتحرّك فنقول: هذه الذّات لا تخلو عن الحركة والسّكون وهما محدثان لأنّ على هذا التّقدير السّكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثّر في تلك الحركة ولا في ذلك السّكون ذاته وإلّا لامتنع طريان ضدّه والتّقدير: هو تقدير أنّه يمكنه أن يتحرّك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثّر في حصول تلك الحركة وذلك السّكون هو الفاعل المختار وكلّ ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسّكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أنّه يكون مختصّا بحيّز وجهة مع أنّه لا يقدر أن يتحرّك عنه فهذا أيضا محال لوجهين: الأوّل: أنّ على هذا التّقدير يكون كالزّمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على اللّه محال.

والثّاني: أنّه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيّز معيّن بحيث يكون حصوله فيه واجب التّقرّر ممتنع الزّوال لم يبعد أيضا فرض أجسام أخرى مختصّة بأحياز معيّنة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التّقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسّكون والكرّاميّة يساعدون على أنّه كفر. والثّالث: أنّه تعالى لمّا كان حاصلا في الحيّز والجهة كان مساويا للأجسام في كونه متحيّزا شاغلا للأحياز ثمّ نقيم الدّلالة المذكورة على أنّ المتحيّزات لمّا كانت متساوية في صفة التّحيّز وجب كونها متساوية في تمام الماهيّة لأنّه لو خالف بعضها بعضا لكان ما به المخالفة إمّا أن يكون حالّا في المتحيّز أو محلّا له أو لا حالّا ولا محلّا والأقسام الثّلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهيّة فكما أنّ الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحّتها على ذات اللّه تعالى وحينئذ يتمّ الدّليل.

الحجّة الثّانية عشرة: لو كان تعالى مختصّا بحيّز معيّن لكنّا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشّيء وحاول الدّخول فيه فإمّا أن يمكنه النّفوذ والدّخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأوّل كان كالهواء اللّطيف والماء اللّطيف وحينئذ يكون قابلا للتّفرّق والتّمزّق وإن كان الثّاني كان صلبا كالحجر الصّلد الّذي لا يمكنه النّفوذ فيه فثبت أنّه تعالى لو كان مختصّا بمكان وحيّز وجهة لكان إمّا أن يكون رقيقا سهل التّفرّق والتّمزّق كالماء والهواء وإمّا أن يكون صلبا جاسئا كالحجر الصّلد وقد أجمع المسلمون على أنّ إثبات هاتين الصّفتين في حقّ الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضا فبتقدير أن يكون مختصّا بمكان وجهة لكان إمّا أن يكون نورانيّا وظلمانيّا وجمهور المشبّهة يعتقدون أنّه نور محض لاعتقادهم أنّ النّور شريف والظّلمة خسيسة إلّا أنّ/ الاستقراء العامّ دلّ على أنّ الأشياء النّورانيّة رقيقة لا تمنع النّافذ من النّفوذ فيها والدّخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التّقدير فإنّ ذلك الّذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرّق بين أجزائه ويكون ذلك الشّيء جاريا مجرى الهواء الّذي يتّصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزّق أخرى وذلك ممّا لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنّ خالق العالم هو بعض هذه الرّياح الّتي تهبّ؟ أو يقال إنّه بعض هذه الأنوار والأضواء الّتي تشرق على الجدران؟ والّذين يقولون إنّه لا يقبل التّفرّق والتّمزّق ولا يتمكّن النّافذ من النّفوذ فإنّه يرجع حاصل كلامهم إلى أنّه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصّلب الواقف في الحيّز العالي وأيضا فإن كان له طرف وحدّ ونهاية فهل حصل لذلك الشّيء عمق وثخن أو

لم يحصل؟ فإن كان الأوّل فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلّفا مركّبا من الظّاهر والباطن مع أنّ باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثّاني فحينئذ يكون ذاته سطحا رقيقا في غاية الرّقّة مثل قشرة الثّوم بل أرقّ منه ألف ألف مرّة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشّيء إله العالم فثبت أنّ كونه تعالى في الحيّز والجهة يقضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة.

الحجّة الثّالثة عشرة: العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق.

أمّا المقام الأوّل: فهو مستقصى في علم الهيئة إلّا أنّا نقول أنّا إذا اعتبرنا كسوفا قمريّا حصل في أوّل اللّيل بالبلاد الغربيّة كان عين ذلك الكسوف حاصلا في البلاد الشّرقيّة في أوّل النّهار فعلمنا أنّ أوّل اللّيل بالبلاد الغريبة هو بعينه أوّل النّهار بالبلاد الشّرقيّة وذلك لا يمكن إلّا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضا إذا توجّهنا إلى الجانب الشّماليّ فكلّما كان توغّلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشّماليّ أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشّماليّ ينخفض القطب الجنوبيّ وذلك يدلّ على أنّ الأرض مستديرة من الشّمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدلّ على أنّ الأرض كرة.

وإذا ثبت هذا فنقول: إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والآخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والّذي هو فوق بالنّسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنّسبة إلى الثّاني: فلو فرضنا ان له العالم حصل في الحيّز الّذي فوق بالنّسبة إلى أحدهما فذلك الحيّز بعينه هو تحت بالنّسبة إلى الثّاني وبالعكس فثبت أنّه تعالى لو حصل في حيّز معيّن لكان ذلك الحيّز تحتا/ بالنّسبة إلى أقوام معيّنين وكونه تعالى تحت أهل الدّنيا محال بالاتّفاق فوجب أن لا يكون حاصلا في حيّز معيّن وأيضا فعلى هذا التّقدير أنّه كلّما كان فوق بالنّسبة إلى أقوام كان تحت بالنّسبة إلى أقوام آخرين وكان يمينا بالنّسبة إلى ثالث وشمالا بالنّسبة إلى رابع وقدّام الوجه بالنسبة الى خامس وخلق الرّأس بالنّسبة إلى سادس فإنّ كون الأرض كرة يوجب ذلك إلّا أنّ حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حقّ إله العالم إلّا إذا قيل إنّه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكا محيطا بالأرض وحاصله يرجع إلى أنّ إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم واللّه أعلم.

الحجّة الرّابعة عشرة: لو كان إله العالم فوق العرش لكان إمّا أن يكون مماسّا للعرش أو مباينا له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل.

أمّا بيان فساد القسم الأوّل: فهو أنّ بتقدير أن يصير مماسّا للعرش كان الطّرف الأسفل منه مماسّا للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطّرف منه شيء غير مماسّ للعرش أو لم يبق؟ فإن كان الأوّل فالشّيء الّذي منه صار مماسّا لطرف العرش غير ما هو منه غير مماسّ لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات اللّه تعالى مركّبا من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركّبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسما مركّبا من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثّاني فحينئذ يكون ذات اللّه تعالى سطحا رقيقا لا ثخن له أصلا ثمّ يعود التّقسيم فيه وهو أنّه إن حصل له تمدّد في اليمين والشّمال والقدّام والخلف كان مركّبا من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدّد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات السّتّة كان ذرّة من الذرات وجزءا لا يتجزى مخلوطا بالهباءات وذلك لا يقوله عاقل.

وأمّا القسم الثّاني: وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضا محال لأنّ على هذا التّقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيّزه إلى الجهة الّتي فيها حصلت ذات اللّه تعالى إلى أن يصير العالم مماسّا له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأوّل.

وأمّا القسم الثّالث: وهو أن يقال إنّه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فسادا من كلّ الأقسام لأنّه تعالى لمّا كان مباينا للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات اللّه تعالى وذات العالم ومحصورا بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدّين والطّرفين يمتنع كونه بعدا غير متناه.

فإن قيل: أليس أنّه تعالى متقدّم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدّمه على العالم محصور بين/ حاصرين ومحدود بين حدّين وطرفين أحدهما: الأزل، والثّاني: أوّل وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التّقدّم محصورا بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا هاهنا وهذا هو الّذي عوّل عليه محمّد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم.

والجواب: أنّ هذا هو محض المغالطة لأنّه ليس الأزل عبارة عن وقت معيّن وزمان معيّن حتّى يقال إنّه تعالى متقدّم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الّذي هو أوّل العالم فإنّ كلّ وقت معيّن يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدودا بين حدّين ومحصورا بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأوّليّة من غير أن يشار به إلى وقت معيّن البتّة.

إذا عرفت هذا فنقول: إمّا أن نقول أنّه تعالى مختصّ بجهة معيّنة وحاصل في حيّز معيّن وإمّا أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأوّل كان البعد الحاصل بين ذينك الطّرفين محدودا بين ذينك الحدّين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأنّ كونه غير متناه عبارة عن عدم الحدّ والقطع والطّرف وكونه محصورا بين الحاصرين معناه إثبات الحدّ والقطع والطّرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النّقيضين وهو محال.

ونظيره ما ذكرناه أنّا متى عيّنّا قبل العالم وقتا معيّنا كان البعد بينه وبين الوقت الّذي حصل فيه أوّل العالم بعدا متناهيا لا محالة. وأمّا إن قلنا بالقسم الثّاني: وهو أنّه تعالى غير مختصّ بحيّز معيّن وغير حاصل في جهة معيّنة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأنّ كون الذّات المعيّنة حاصلة لا في جهة معيّنة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معيّن بل إشارة إلى نفي الأوّليّة والحدوث فظهر أنّ هذا الّذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التّحصيل.

الحجّة الخامسة عشرة: أنّه ثبت في العلوم العقليّة أنّ المكان: إمّا السّطح الباطن من الجسم الحاوي وإمّا البعد المجرّد والفضاء الممتدّ وليس يعقل في المكان قسم ثالث.

إذا عرفت هذا فنقول: إن كان المكان هو الأوّل فنقول: ثبت أنّ أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسمانيّ لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثّاني: فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهيّة فلو حصل الإله في حيّز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصحّ عليه الحركة والسّكون وكلّ ما كان كذلك كان محدثا بالدلائل

المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلّمين فيلزم كون الإله محدثا وهو محال فثبت أنّ القول بأنّه تعالى حاصل في الحيّز والجهة/ قول باطل على كلّ الاعتبارات:

الحجّة السّادسة عشرة: وهي حجّة استقرائيّة اعتباريّة لطيفة جدّا وهي أنّا رأينا أنّ الشّيء كلّما كان حصول معنى الجسميّة فيه أقوى وأثبت كانت القوّة الفاعليّة فيه أضعف وأنقص وكلّما كان حصول معنى الجسميّة فيه أقلّ وأضعف كان حصول القوّة الفاعليّة أقوى وأكمل وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجميّة فلا جرم لم يحصل فيها إلّا خاصّة قبول الأثر فقط فأمّا أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جدّا. وأمّا الماء فهو أقلّ كثافة وحجميّة من الأرض فلا جرم حصلت فيه قوّة مؤثّرة فإنّ الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثّر فيها أنواعا من التّأثيرات. وأمّا الهواء فإنّه أقلّ حجميّة وكثافة من الماء فلا جرم كان أقوى على التّأثير من الماء فلذلك قال بعضهم أنّ الحياة لا تكمل إلّا بالنّفس وزعموا أنّه لا معنى للرّوح إلّا الهواء المستنشق وأمّا النّار فإنّها أقلّ كثافة من الهواء فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصريّة على التّأثير فبقوّة الحرارة يحصل الطّبخ والنّضج وتكون المواليد الثّلاثة أعني المعادن والنّبات والحيوان. وأمّا الأفلاك فإنّها ألطف من الأجرام العنصريّة فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصريّة بعضها البعض وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التّمزيجات فهذا الاستقراء المطّرد يدلّ على أنّ الشّيء كلّما كان أكثر حجميّة وجرميّة وجسميّة كان أقلّ قوّة وتأثيرا وكلّما كان أقوى قوّة وتأثيرا كان أقلّ حجميّة وجرميّة وجسميّة وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظنّا قويّا أنّه حيث حصل كمال القوّة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك البتّة معنى الحجميّة والجرميّة والاختصاص بالحيّز والجهة وهذا وإن كان بحثا استقرائيّا إلّا أنّه عند التّأمّل التّامّ شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزّها عن الجسميّة والموضع والحيّز. وباللّه التّوفيق. فهذه جملة الوجوه العقليّة في بيان كونه تعالى منزّها عن الاختصاص بالحيّز والجهة.

أمّا الدّلائل السّمعيّة فكثيرة: أوّلها: قوله تعالى: قل هو اللّه أحد [الإخلاص: 1] فوصفه بكونه أحدا والأحد مبالغة في كونه واحدا. والّذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركّبا من أجزاء كثيرة جدّا فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحدا ورأيت جماعة من الكرّاميّة عند هذا الإلزام يقولون إنّه تعالى ذات واحدة ومع كونها واحدة حصلت في كلّ هذه الأحياز دفعة واحدة. قالوا: فلأجل أنّه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه. فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنّه يجوز حصول الذّات الشّاغلة للحيّز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة/ والعقلاء اتّفقوا على أنّ العلم بفساد ذلك من أجلّ العلوم الضّروريّة وأيضا فإن جوّزتم ذلك فلم لا تجوّزون أن يقال: إنّ جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثّرى جوهر واحد وموجود واحد الا ان ذلك الجزء الذي لا يتجزى حصل في جملة هذه الأحياز فيظنّ أنّها أشياء كثيرة ومعلوم أنّ من جوّزه فقد التزم منكرا من القول عظيما.

فإن قالوا: انما عرفنا هاهنا حصول التّغاير بين هذه الذّوات لأنّ بعضها يفنى مع بقاء الباقي وذلك يوجب التّغاير وأيضا فنرى بعضها متحرّكا وبعضها ساكنا والمتحرّك غير السّاكن فوجب القول بالتّغاير وهذه المعاني غير حاصلة في ذات اللّه فظهر الفرق فنقول: أمّا قولك بأنّا نشاهد أنّ هذا الجزء يبقى مع أنّه يفنى ذلك الجزء الآخر وذلك يوجب التّغاير فنقول: لا نسلّم أنّه فنى شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن

يقال أنّ جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط؟ ثم انه حصل هاهنا وهناك وأيضا حصل موصوفا بالسّواد والبياض وجميع الألوان والطّعوم فالّذي يفنى إنّما هو حصوله هناك فأمّا أن يقال إنّه فنى في نفسه فهذا غير مسلّم وأمّا قوله: نرى بعض الأجسام متحرّكا وبعضها ساكنا وذلك يوجب التّغاير لأنّ الحركة والسّكون لا يجتمعان. فنقول: إذا حكمنا بأنّ الحركة والسّكون لا يجتمعان لاعتقادنا أنّ الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيّزين فإذا رأينا أنّ السّاكن بقي هنا وأنّ المتحرّك ليس هنا قضينا أنّ المتحرّك غير السّاكن. وأمّا بتقدير أن يجوز كون الذّات الواحدة حاصلة في حيّزين دفعة واحدة لم يمتنع كون الذّات الواحدة متحرّكة ساكنة معا، لأنّ أقصى ما في الباب أنّ بسبب السّكون بقي هنا وبسبب الحركة حصل في الحيّز الآخر إلّا أنّا لمّا جوّزنا أن تحصل الذّات الواحدة دفعة واحدة في حيّزين معا لم يبعد أن تكون الذّات السّاكنة هي عين الذّات المتحرّكة فثبت أنّه لو جاز أن يقال أنّه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة ثمّ مع ذلك يمتلئ العرش منه لم يبعد أيضا أن يقال: العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزى ومع ذلك فقد حصل في كلّ تلك الأحياز وحصل منه كلّ العرش ومعلوم أنّ تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات. وثانيها: أنّه تعالى قال: ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية [الحاقّة: 17] فلو كان إله العالم في العرش لكان حامل العرش حاملا للإله فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا ومحفوظا حافظا وذلك لا يقوله عاقل. وثالثها: أنّه تعالى قال: واللّه الغنيّ [محمّد: 38] حكم بكونه غنيّا على الإطلاق وذلك يوجب كونه تعالى غنيّا عن المكان والجهة.

ورابعها: أنّ فرعون لمّا طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السّلام ولم يزد موسى عليه السّلام على ذكر صفة الخلّاقيّة ثلاث مرّات فإنّه لمّا قال: وما ربّ العالمين [الشّعراء: 23] ففي المرّة الأولى قال: ربّ السّماوات والأرض وما بينهما/ إن كنتم موقنين [الدخان: 7] وفي الثّانية قال: ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين [الشّعراء: 26] وفي المرّة الثّالثة: قال ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [الشّعراء: 28] وكلّ ذلك إشارة إلى الخلّاقيّة وأمّا فرعون لعنه اللّه فانه قال: يا هامان ابن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السّماوات فأطّلع إلى إله موسى [غافر: 36 37] فطلب الإله في السّماء فعلمنا أنّ وصف الإله بالخلّاقيّة وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وسائر جميع الأنبياء وجميع وصفه تعالى بكونه في السّماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة. وخامسها: أنّه تعالى قال في هذه الآية: إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش وكلمة «ثمّ» للتّراخي وهذا يدلّ على أنّه تعالى إنّما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار لزم أن يقال: أنّه ما كان مستقرّا على العرش بل كان معوجّا مضطربا ثمّ استوى عليه بعد ذلك وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة والسّكون أخرى وذلك لا يقوله عاقل. وسادسها: هو أنّه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السّلام أنّه إنّما طعن في إلهيّة الكوكب والقمر والشّمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسما لكان أبدا غاربا آفلا وكان منتقلا من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسّكون والاستقرار فكلّ ما جعله إبراهيم عليه السّلام طعنا في إلهيّة الشّمس والكوكب والقمر يكون حاصلا في إله العالم فكيف يمكن الاعتراف بإلهيّته. وسابعها: أنّه تعالى ذكر قبل قوله: ثمّ استوى على العرش شيئا وبعده شيئا آخر. أمّا الّذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله: إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض وقد بيّنّا أنّ خلق السموات والأرض يدلّ على وجود الصّانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة. وأمّا الّذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء:

الكتاب: مفاتيح الغيب = التفسير الكبير

المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)

الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت

الطبعة: الثالثة – 1420 هـ

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج14

ص260- 268

تفسير السعدي

{استوى} تبارك وتعالى {على العرش} العظيم الذي يسع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه، فاستوى على العرش، واحتوى على الملك، ودبر الممالك

الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان

المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)

المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق

الناشر: مؤسسة الرسالة

الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، والصفحات مذيلة بحواشي المحقق، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ص291

تفسير السمرقندي

ثمّ استوى على العرش قال بعضهم: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله.

وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله: الإيمان به. وذكر أن رجلا دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] فقال: الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالا.

فأخرجوه. وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا. وقد تأوله بعضهم وقال ثمّ بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف، لا على معنى التراخي والترتيب. ومعنى قوله: استوى أي استولى، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني: استولى عليه فكذلك هذا. معناه:

خالق السموات والأرض، ومالك العرش. ويقال: ثم صعد أمره إلى العرش. وهذا معنى قول ابن عباس. قال صعد على العرش. يعني: أمره، ويقال قال له: كن فكان، ويقال: ثمّ استوى على العرش أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، ويكون على بمعنى العلو والارتفاع، ويقال استوى يعني استولى. وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح. فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلق ما شاء. ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض. وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم، كما خلق الكعبة علما لعبادتهم، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة. فكذلك خلق العرش علما لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم.

الكتاب: بحر العلوم

المؤلف: أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (المتوفى: 373هـ)

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج1

ص520

تفسير الشعراوي

وسبحانه يقول: {ثمّ استوى على العرش … } [الأعراف: 54]

ولابد أن نعرف العرش ما هو. وسبحانه يقول في ملكة سبأ: { … ولها عرش عظيم} [النمل: 23]

فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور.

فكأن قوله: {استوى على العرش} كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في {استوى} ، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسيا يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما. وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة {استوى} منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: «صعد» أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق: {ثمّ استوى إلى السمآء وهي دخان … } [فصلت: 11]

وكلها معان متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا: المقصود ب «استوى» أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]

فحين يقول سبحانه:

{يد الله فوق أيديهم … } [الفتح: 10]

ونحن نفهم أن لليد مدلولا، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول أن لله يدا فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة. والإنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار {ليس كمثله شيء} ، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك حينما سئل سيدنا الإمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة» وأراك رجل سوء! أخرجوه. نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم  عن معنى الاستواء؟ . . لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم . إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله.

وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟ . . إن كان يعلم لأخبرنا بها، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر. . فهل تطلب لنفسك أن نعلم ما لم يعلمه صلّى اللّه عليه وسلّم ؟

أو أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم  ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار {ليس كمثله شيء} والذين

يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال: إن له يدا، فقل ليست كأيدينا في إطار {ليس كمثله شيء} ؛ لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟ . لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟ . . إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه. ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيرا إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول: {كلّ شيء هالك إلاّ وجهه … } [القصص: 88]

ومادام {كلّ شيء هالك إلاّ وجهه} فكل ما يطلق عليه شيء يهلك، ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار {ليس كمثله شيء} . وآية الاستواء على العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديدا في «سبعة مواضع» ؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد.

الكتاب: تفسير الشعراوي – الخواطر

المؤلف: محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418هـ)

الناشر: مطابع أخبار اليوم

عدد الأجزاء: 20

(ليس على الكتاب الأصل – المطبوع – أي بيانات عن رقم الطبعة أو غيره، غير أن رقم الإيداع يوضح أنه نشر عام 1997 م)

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج7

ص4169

تفسير العز بن عبد السلام

{استوى} أمره على العرش

قاله الحسن، أو استولى. {العرش} عبّر به عن الملك لعادة الملوك الجلوس على الأسرّة، أو السموات كلها، لأنها سقف / وكل سقف عرش {خاوية على عروشها} [البقرة: 259، الكهف: 42] سقوفها أو موضع هو أعلى ما في السماء وأشرفه محجوب عن الملائكة.

الكتاب: تفسير القرآن (وهو اختصار لتفسير الماوردي)

المؤلف: أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء (المتوفى: 660هـ)

المحقق: الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهبي

الناشر: دار ابن حزم – بيروت

الطبعة: الأولى، 1416هـ/ 1996م

عدد الأجزاء: 3

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج1

ص485

تفسير القاسمي

وقوله تعالى: ثمّ استوى على العرش اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها، فجاء بمعنى الاستقرار ومنه: استوت على الجوديّ [هود: 44] ، وبمعنى القصد ومنه: ثمّ استوى إلى السّماء [البقرة: 29] ، وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه قال الفرّاء: تقول العرب: استوى إليّ يخاصمني، أي أقبل عليّ، ويأتي بمعنى الاستيلاء قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق وقال آخر:

فلما علونا واستوينا عليهم … تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ويأتي بمعنى العلوّ، ومنه آية: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك [المؤمنون: 28] : ومنه هذه الآية قال البخاري في آخر (صحيحه) ، في كتاب الردّ على الجهمية، في باب قوله تعالى: وكان عرشه على الماء [هود: 7] ، قال مجاهد: استوى، علا على العرش- انتهى-.

وفي كتاب (العلوّ) للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] ، أي ارتفع. ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع. وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع، وأقول: لا حجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولا.

روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (الرد على الجهمية) عن شريح بن النعمان، عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.

وروى البيهقي عن ابن وهب قال: كنت عند مالك، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! الرّحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك، وأخذته

الرّحضاء، ثم رفع رأسه فقال: الرّحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف. و (كيف) عنه مرفوع. وأنت صاحب بدعة. وفي رواية قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

قال الحافظ الذهبي في كتاب (العلوّ) – بعد ما ساق هذا- ما نصه:

وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم، كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا، بل نسكت ونقف، كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره، والسكوت عنه. ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله، لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ثم قال الذهبي: قال الإمام العلم، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف الشهيرة، في كتابه (مختلف الحديث) : نحن نقول في قول الله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم [المجادلة: 7] ، أنه معهم، يعلم ما هم عليه، كما تقول للرجل وجّهته إلى بلد شاسع: احذر التقصير فإني معك، يريد أنه لا يخفى عليّ تقصيرك. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إن الله سبحانه بكل مكان، على الحلول فيه، مع قوله: الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] ومع قوله: إليه يصعد الكلم الطّيّب [فاطر: 10] ، كيف يصعد إليه شيء هو معه، وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟ قال: ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم، وما ركبت عليه ذواتهم، من معرفة الخالق، لعلموا أن الله عز وجل هو العلي وهو الأعلى، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأمم كلها عجميّها وعربيّها يقول: إن الله في السماء، ما تركت على فطرها- انتهى-.

ثم قال الذهبي أيضا: عن يزيد بن هارون شيخ الإسلام، أنه قيل له: من الجهمية؟ قال: من زعم أن الرّحمن على العرش استوى على خلاف ما يقرّ في قلوب العامة، فهو جهمي.

قال الذهبي والعامة، مرادة بهم، جمهور الأمة وأهل العلم، والذي وقر في قلوبهم من الآية، وهو ما دل عليه الخطاب، مع يقينهم بأن المستوي ليس كمثله شيء [الشورى: 11] ، هذا هو الذي وقر في فطرهم السليمة، وأذهانهم الصحيحة.

ولو كان له معنى وراء ذلك، لتفوّهوا به، ولما أهملوه. ولو تأول أحد منهم الاستواء،

لتوفرت الهمم على نقله، ولو نقل لاشتهر. فإن كان في بعض جهلة الأغبياء من يفهم من (الاستواء) ما يوجب نقصا أو قياسا للشاهد على الغائب، وللمخلوق على الخالق- فهذا نادر. فمن نطق بذلك زجر وعلّم، وما أظن أحدا من العامة يقرّ في نفسه ذلك- والله أعلم- انتهى.

وقال الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين، الشيخ عبد القادر الجيلانيّ قدس الله روحه في كتابه (تحفة المتقين وسبيل العارفين) في باب اختلاف المذاهب في صفات الله عزّ وجلّ، وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله وما يعلم تأويله إلّا اللّه [آل عمران: 7] : قال إسحاق: في العلم. إلى أن قال: والله تعالى بذاته على العرش، علمه محيط بكل مكان

والوقف عند أهل الحق على قوله إلّا اللّه. وقد روي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على العرش، ويعلم ما في السموات والأرض. إلى أن قال: ووقف جماعة من منكري استواء الرب عزّ وجلّ على قوله الرّحمن على العرش وابتدءوا بقوله استوى له ما في السّماوات وما في الأرض يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه، وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته.

وقال في كتابه (الغنية) : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال: لا يخلو من علمه مكان، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش، كما قال جل ثناؤه الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] ، وقوله ثمّ استوى على العرش الرّحمن [الفرقان: 59] ، وقال تعالى: إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه [فاطر: 10] ، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم «1» حكم بإسلام الأمة لما

قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «2» : (في حديث أبي هريرة رضي الله

عنه) : لما خلق الله الخلق، كتب كتابا على نفسه، وهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي.

وفي لفظ آخر: لما قضى الله سبحانه الخلق، كتب على نفسه في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي.

وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، لا على معنى القعود والمماسة، كما قالت المجسمة والكرامية، ولا على معنى العلوّ والرفعة، كما قالت الأشعرية، ولا على الاستيلاء والغلبة، كما قالت المعتزلة، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث، ذلك، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق. وقد روي عن أم سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] : «الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب، والجحود به كفر» . وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في (صحيحه) ، وكذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله قبل موته بقريب: أخبار الصفات تمرّ كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل. وقال أيضا (في رواية بعضهم) : لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذه الأماكن، في كتاب الله عز وجل، أو حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود، فلا يقال في صفات الرب عز وجل (كيف) ؟ و (لم) ؟ لا يقول ذلك إلا شكّاك. وقال أحمد رضي الله عنه (في رواية عنه، في موضع آخر) :

نحن نؤمن بأن الله عزّ وجلّ على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حدّ ولا صفة يبلغها واصف ويحدها حاد، لما روي عن سعيد بن المسيّب، عن كعب الأحبار، قال، قال الله تعالى في (التوراة) : أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، عليه أدبر عبادي، ولا يخفى عليّ شيء من عبادي. وكونه عزّ وجلّ على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبيّ أرسل، بلا كيف، ولأن الله تعالى- فيما لم يزل- موصوف بالعلوّ والقدرة والاستيلاء والغلبة على جميع خلقه، من العرش وغيره. فلا يحمل الاستواء على ذلك. فالاستواء من صفات الذات، بعد ما أخبرنا به، ونص عليه وأكده في سبع آيات من كتابه، والسنة المأثورة به، وهو صفة لازمة له، ولائقة به، كاليد والوجه والعين والسمع والبصر والحياة والقدرة، وكونه خالقا ورازقا ومحييا ومميتا، موصوف بها، ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عزّ وجلّ، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته.

لا تفسير له غيرها، ولم نتكلف غير ذلك، فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه، ونسأل الله تعالى العفو والعافية، ونعوذ به من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله عليه السّلام- انتهى كلام الجيلاني قدس سره-.

وروى أبو إسماعيل الأنصاري في (ذم الكلام وأهله) عن أبي زرعة الرازي، أنه سئل عن تفسير الرّحمن على العرش استوى فغضب وقال: تفسيره كما تقرأ، هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله.

وأسند عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا، ومصرا وشاما ويمنا. فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، بلا كيف، أحاط بكل شيء علما.

تنبيهات:

الأول- في بطلان تأويل (استوى) : ب (استولى) :

قال الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني، صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى، في كتاب (الرد على الجهمية) : زعمت الجهمية أن معنى استوى (استولى) من قول العرب: استوى فلان على مصر، يريدون استولى عليها. قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، فيقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، ثم استولى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه فيها. ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلوّ والاحتجاج عليه.

وقال ابن عرفة في كتاب (الرد على الجهمية) : حدثنا داود بن عليّ قال: كنا عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله تعالى: الرّحمن على العرش استوى؟ قال: هو على عرشه كما أخبر. فقال: يا أبا عبد الله! إنما معناه استولى.

فقال: اسكت. لا يقال: استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضادّ، فأيهما غلب،

قيل: استولى. والله تعالى لا مضادّ له، وهو على عرشه كما أخبر. ثم قال: الاستيلاء بعد المغالبة، كما قال النابغة:

إلا لمثلك أو من أنت سابقه … سبق الجواد إذا استولى على الأمد

وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن أحمد بن النضر قال: كان ابن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال لا أعرفه! وفي رواية. أرادني ابن أبي دؤاد أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها الرّحمن على العرش استوى استوى بمعنى استولى، فقلت له: والله ما يكون هذا، ولا وجدته. وابن الأعرابي أبو عبد الله كان لغوي زمانه- كما قال الذهبي-.

وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه (الإبانة في أصول الديانة) ، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه، عند من يطعن عليه، فقال:

فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة

فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون. قيل له: قولنا الذي نقول به التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته، قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين.

ثم قال في (باب الاستواء على العرش) : إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟

قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه، كما قال الرّحمن على العرش استوى وقد قال الله إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه [فاطر: 10] ، وقال بل رفعه اللّه إليه [النساء: 158] ، وقال يدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثمّ يعرج إليه [السجدة: 5] ، وقال حكاية عن فرعون وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السّماوات فأطّلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذبا

[غافر: 36- 37] . كذّب موسى في قوله: إن الله فوق السموات. وقال أأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض [الملك: 16] فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: أأمنتم من في السّماء، لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السموات، وليس إذا قال: أأمنتم من في السّماء، يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات. ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال وجعل القمر فيهنّ نورا [نوح: 16] ، فلم يرد أن القمر يملؤهن، وأنه فيهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم، إذا دعوا، نحو السماء، لأن الله على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها، إذا دعوا، إلى الأرض.

ثم قال:

فصل

وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله الرّحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قال أهل الحق. وذهبوا في الاستواء إلى (القدرة) ، فلو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، فالله قادر على الأرض، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم.

فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى (الاستيلاء) ، وهو عزّ وجلّ مستول على الأشياء كلها، لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش (الاستيلاء) ، الذي هو عامّ في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها.

وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل- انتهى-.

قلت: وكلام أبي الحسن الأشعري الأخير مأخوذ من كتاب ردّ الإمام أحمد على الجهمية، حيث قال في كتابه المذكور:

ومما أنكرت الجهمية الضّلال أن يكون الله سبحانه على العرش، فقلنا: لم

أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] ، وقال: ثمّ استوى على العرش، الرّحمن فسئل به خبيرا [الفرقان: 59] ، قالوا: هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السموات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلوا آيات من القرآن وهو اللّه في السّماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] ، فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء، فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: أأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض … [الملك: 16] الآية، وقال: إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه [فاطر: 10] ، وقال وله من في السّماوات والأرض ومن عنده [الأنبياء: 19] ، وقال: إنّي متوفّيك ورافعك إليّ [آل عمران: 55] ، وقال: بل رفعه اللّه إليه [النساء: 158] ، وقال: يخافون ربّهم من فوقهم [النحل: 50] ، وقال: تعرج الملائكة والرّوح إليه [المعارج: 4] ، وقال: وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير [الأنعام: 18]- فهذا أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموما. قال الله تعالى: إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار [النساء: 145] . وقال الّذين كفروا ربّنا أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين [فصلت: 29] ، وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: وهو اللّه في السّماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات، وإله من في الأرض، وهو على العرش! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله:

لتعلموا أنّ اللّه على كلّ شيء قدير وأنّ اللّه قد أحاط بكلّ شيء علما [الطلاق: 12] .

قال: ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى: لو أن رجلا بني دارا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط

بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.

قال أحمد رضي الله عنه: ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم ولا خمسة إلّا هو سادسهم … ) إلى أن قال:

… إنّ اللّه بكلّ شيء عليم قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله يقول: ألم تر أنّ اللّه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم يعني أن الله بعلمه رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم، يفتح الخبر بعلمه، ويختمه بعلمه- انتهى-.

ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور: وقلنا للجهمية: زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا [الأعراف: 143] . لم تجلى، إذا كان فيه بزعمكم؟

ولو كان فيه، كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء. لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن يراه قط قبل ذلك.

وقلنا للجهمية: الله نور؟ فقالوا: نور كله. فقلنا: قال الله عز وجل:

وأشرقت الأرض بنور ربّها [الزمر: 69] . فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورا، قلنا:

أخبرونا، حين زعمتم أن الله في كل مكان، وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله. فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته- انتهى-.

وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) في شرح حديث «1» (ينزل ربنا كل ليلة … ) الحديث- ما نصه: هذا الحديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله تعالى

في السماء، على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة. وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: (إن الله في كل مكان، وليس على العرش) والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] ، ثم ساق عدة آيات في ذلك- وقال: هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة. وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عزّ وجلّ على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات. وجلّ الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلوّ والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] ، قال: علا، قال: تقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله تعالى:

ولمّا بلغ أشدّه، واستوى [القصص: 14] ، انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.

قال ابن عبد البر: الاستواء: الاستقرار في العلوّ، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: لتستووا على ظهوره ثمّ تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه [الزخرف: 13] ، وقال تعالى: واستوت على الجوديّ [هود: 44] ، وقال تعالى:

فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك [المؤمنون: 28] ، وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة … وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأوّل فيه أحد (استولى) ، لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال: (استووا) فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابيّ إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفّعوا، فقال الخليل: هو من قول الله ثمّ استوى إلى السّماء [البقرة: 29] ، فصعدنا إليه. قال: وأما من نزع منهم

بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الرّحمن على العرش استوى [طه: 5] قال: استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان- فالجواب:

أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان. وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف. وهم لا يقبلون أخبار الآحاد، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث، لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السّماوات فأطّلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذبا [غافر: 36- 37] ؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا. قال الشاعر:

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره … ومن هو فوق العرش فرد موحّد

مليك على عرش السماء مهيمن … لعزّته تعنو الوجوه وتسجد

وهذا الشعر لأميّة بن أبي الصّلت. وفيه يقول في وصف الملائكة:

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه … يعظّم ربّا فوقه ويمجّد

قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: وهو الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84] ، وبقوله تعالى: وهو اللّه في السّماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] ، وبقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم ولا خمسة إلّا هو سادسهم [المجادلة: 7] ، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته- تبارك وتعالى جدّه- قيل: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير. وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر. وأما قوله في الآية الأخرى:

وفي الأرض إله فالإجماع والاتفاق قد بيّن أن المراد أنه معبود من أهل الأرض.

فتدبر هذا فإنه قاطع.

ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا

وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته. لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم،

وقد قال صلّى الله عليه وسلّم للأمة التي أراد مولاها عتقها «1» ، إن كانت مؤمنة. فاختبرها رسول الله صلى الله على وآله وسلّم بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: من أنا؟

قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة

. فاكتفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.

قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا. قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. قال سنيد:

حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

ثم ساق من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم. وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب (الاستذكار) .

وقال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في (الرسالة المدنية) : إذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو وصفه بها المؤمنون

الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:

أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.

الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بدّ من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة- فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.

الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض. وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبيّن أن الحقيقة مرادة، امتنع تركها. ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.

الرابع: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه، سواء عيّنه أو لم يعيّنه، لا سيما في الخطاب العلميّ الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبيّن للناس ما نزّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلّا يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل [النساء: 165] . ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات. ثم الأمّة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره، إما بأن يكون عقليّا ظاهرا مثل قوله: وأوتيت من كلّ شيء [النمل: 23] فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد (أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها) . وكذلك قوله:

خالق كلّ شيء [الأنعام: 102] يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعيّا ظاهرا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر.

ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفيّ لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيّا أو عقليّا، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم، وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب، ويعقلوه ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب أن لا يقصدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره، لأن هناك دليلا خفيّا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره- كان تدليسا أو تلبيسا، وكان نقيض البيان، وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجيّ أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ – انتهى-.

الثاني- يتوهم كثير أن القول بالعلوّ والاستواء يلزم منهما القول بالتجسيم، وقد رمى بذلك كثير من المحدّثين، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال- عفا الله عنه-: وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة، وأكثرهم المحدّثون. ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، ومبالغة في القدح في نفيها. ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال: هو معدوم، أو يقال: طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التعطيل. هذا مع علوّ كعبه في العلوم العقلية والنقلية، كما يشهد به من تتبع تصانيفه.

ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة (الفوق) ، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء. ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلا، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول، وأنكر كون (الفوق) قبلة الدعاء، بل قال: قبلة الدعاء هو نفسه، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوّز انتهى كلام الدواني-.

وتعقبه غير واحد:

منهم: الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة (بمجلى المعاني) قال: إن ابن تيمية ليس قائلا بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسما، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول. وقال في رسالة أخرى: من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان، أو إن الله يماثل شيئا من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه.

بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، مع نفي اللوازم، ونقل عليه إجماع السلف، صرح به في الرسالة القدرية- انتهى-.

ومنهم: وليّ الله الدهلوي قدس سره، قال في كتابه (حجة الله البالغة) :

واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث، وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة، وقد وضح عليّ وضوحا بيّنا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى- انتهى-.

ومنهم: الشهاب الألوسي المفسر، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون- يعني ابن تيمية- من المجسمة، بل هو أبرأ الناس منهم. نعم يقول بالفوقية، وذلك مذهب السلف، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث، وكلام السلف الصالح، كما لا يخفى على العارف المنصف. نقله عنه ابنه في (محاكمة الأحمدين) .

وأقول. إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه في فتاويه التي أوضح فيها الحق، وأنار بها مذهب السلف قاطبة. وهاك شذرة من درره. قال رحمه الله في بعض فتاويه:

والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وجب التصديق به، مثل علوّ الرب، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: هو في جهة، أو ليس في جهة، وهو متحيز، أو ليس بمتحيّز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، لا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين- هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر. فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا. فإن يريدوا معنى صحيحا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولا منهم. وإن أرادوا معنى فاسدا يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليهم. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السموات، أم تريد بالجهة أمرا عدميّا، وهو

ما فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله تعالى محصورا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية، وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه، بل هو العالي عليها، المحيط بها، وقد قال تعالى: وما قدروا اللّه حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسّماوات مطويّات بيمينه [الزمر: 67] ، الآية-

وقد ثبت في الصحيح «1» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض» ؟

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السموات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة. فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى، إلى هذا الحقر والصغار، كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات ربّ يعبد، ولا على عرش إله، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يعرج به إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه- فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقرّ به فهو جاهل متناقص في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق. وإن قال: مرادي بقولي (ليس في جهة) أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى. وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز: إن أراد بقوله (متحيز) أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ، وإن أراد به منحاز عن المخلوقات، بائن عنها، عال عليها، فقد أصاب. ومن قال: (ليس بمتحيز) ، إن أراد المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها، ولا خارج عنها، فقد أخطأ.

والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.

فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق.

وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارج، ولا مباين له، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول قول عباد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبّدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود، الذي هو قول فرعون. وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلقهما، فإما أن يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائنا عنهما، لم يدخل فيهما، ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.

ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كما متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى.

وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «1» : كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟

ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فطرت اللّه الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللّه [الروم: 30] ، وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:

عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطرهم الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى، ودينه عزّ وجلّ، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات، لا

يفهم كثير من الناس مقصودهم بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين.

كلفظ: المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك. فمن كان عارفا بحال شبهاتهم بيّنها، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره [الأنعام: 68] . ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل، وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه. وكثير منهم قرءوا كتبا من كتب الكلام، فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ، ولا ما أراد بها أصحابها، فإن ذكر لفظ (الجسم) في أسماء الله تعالى وصفاته، بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولم يقل أحد منهم إن الله تعالى جسم ولا أن الله تعالى ليس بجسم، ولا أن الله تعالى جوهر، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر. ولفظ الجسم لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن. ومن قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان فهو مفتر على الله عز وجل، بل من قال إن الله تعالى يماثل شيئا من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال، ومن قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثل شيئا من المخلوقات، فالمعنى صحيح، وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل القرآن العربي مخلوق، أو هو تصنيف جبريل عليه السلام، أو نحو ذلك، فهو مفتر على الله تعالى فيما نفاه عنه. وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة، ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسّم، بل نقول: الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته.

إلى أن قال: فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال عز شأنه:

ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير [الشورى: 11] ، فقوله: ليس كمثله شيء رد على الممثلة. وقوله تعالى: وهو السّميع البصير رد على المعطلة- انتهى ملخصا-.

قال رضي الله عنه (في جواب على سؤال رفع إليه نصه: الاستواء هل هو حقيقة أو مجاز؟) : ما نصه ملخصا:

القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم، فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات، فالقول في بعض هذه الصفات، كالقول في بعض. ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات، بل هذا جحد للخالق، وتمثيل له بالمعدومات. وقد قال ابن عبد البر:

أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، لأنهم لا ينفون شيئا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج، فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أقرّ بها، نافون للمعبود، لا مثبتون. والحق فيما قاله القائلون، مما نطق به الكتاب والسنة، وهم أئمة الجماعة. هذا الذي حكاه ابن عبد البر.

ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة، فإنما أنكر، لجهله لمسمى الحقيقة، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين. وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلا للخالق، فيقال له: هذا باطل، فإن الله موجود حقيقة، والعبد موجود حقيقة، وله تعالى ذات حقيقة، والعبد له ذات حقيقة، وليس ذاته تعالى كذات المخلوقات، وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة، وللعبد سمع وبصر وعلم حقيقة، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم العبد وسمعه وبصره. ولله كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين. والله استوى على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوق. فإن الله لا يفتقر إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء، والله تعالى يحمل العرش وحملته، بقدرته ويمسك السّماوات والأرض

أن تزولا

[فاطر: 41] . فمن ظن أن معنى قول الأئمة (الله مستو على عرشه حقيقة) يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن الله له علم حقيقة وسمع وبصر حقيقة وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم، فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته. فكيف يكون العبد مستحقّا للأسماء الحسنى حقيقة، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازا؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى، فله المثل الأعلى. فكل كمال حصل للمخلوق، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه مخلوق، فالحق أحق أن ينزه عنه، ولهذا كان لله المثل الأعلى، فإنه لا يقاس بخلقه، ولا يمثل بهم، ولا تضرب به الأمثال، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عريّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. فإذا قال: وجود الله، وذات الله، وعلم الله، وقدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، وكلام الله، ورحمة الله، وغضب الله، واستواء الله، ونزول الله ومحبة الله، ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات. وإذا قال: وجود العبد وذاته وماهيته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفاته صفات الله تعالى. بل أبلغ من ذلك، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ما ذكره في كتابه. كما ذكر أن فيها لبنا وعسلا وخمرا ولحما وحريرا وذهبا وفضة وحورا وقصورا وغير ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولهما حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، والمخلوق عن مشابهة الخالق. فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض، مع أن

مباينتهما للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق لكل مخلوق؟ والجاهل يضل بأن يقول: العرب إنما وضعوا لفظ (الاستواء) لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، أو استواء السفينة على الجوديّ، ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات. فهو كما يقول القائل: إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا، وأصمخة وآذانا، وشفتين ولسانا، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد،

وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته مما يختص به، يتناول ذلك خصائص العبد. وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته، كان هذا متناولا لما يختص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين. وكذلك إذا قيل استواء الرب، فهذا الاستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع والبصر المضاف إلى الله. لا يجوز أن يتناول ذلك شيئا من خصائص المخلوقين وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي، والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح. ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات: فإذا أثبتوا البعض، ونفوا البعض، قيل لهم: ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وعقلا. ونظائر هذا كثيرة، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته، إذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم، كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته، وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد. وإن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضا في قوله، متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض.

وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطّراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من خالفه، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع، مخالفا للفطرة والشرع، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة- انتهى-.

الكتاب: محاسن التأويل

المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)

المحقق: محمد باسل عيون السود

الناشر: دار الكتب العلميه – بيروت

الطبعة: الأولى – 1418 هـ

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج5

ص69-85

تفسير القرطبي

قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولا. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف

مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها. وهذا القدر كاف، ومن أراد زيادة عليه فليقف عليه في موضعه من كتب العلماء. والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار. قال الجوهري: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته، أي استقر. واستوى إلى السماء أي قصد. واستوى أي استولى وظهر. قال:

قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق

واستوى الرجل أي انتهى شبابه. واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى:” الرحمن على العرش استوى «1» ” قال: علا. وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة … وقد حلق النجم اليماني فاستوى

أي علا وارتفع. قلت: فعلوا الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه، لكنه العلي بالإطلاق سبحانه. قوله تعالى: (على العرش) لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد. قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملك. وفي التنزيل” نكروا لها عرشها «2» “،” ورفع أبويه على العرش «3» ” والعرش: سقف البيت. وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفيه الأصابع. وعرش السماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العواء «4»، يقال: إنها عجز الأسد. وعرش البئر: طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة، فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش. والعرش اسم لمكة. والعرش الملك والسلطان. يقال: ثل عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزه. قال زهير:

تداركتما عبسا وقد ثل عرشها … وذبيان إذ ذلت بأقدامها النعل

وقد يئول العرش في الآية بمعنى الملك، أي ما استوى الملك إلا له جل وعز. وهو قول حسن وفيه نظر، وقد بيناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله.

الكتاب: الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي

المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)

تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش

الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة

الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م

عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات)

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي، وضمن خدمة مقارنة تفاسير]

الكتاب مرتبط بنسختين مصورتين، إحداهما موافقة في ترقيم الصفحات (ط عالم الكتب)، والأخرى هي ط الرسالة بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي

ج7

ص220

تفسير الماتوريدي

ثم قد قيل في قوله: (ثمّ استوى على العرش) بوجوه.

أحدها: ما قال أبو بكر الأصم: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: إن ربكم اللّه الذي استوى على العرش ثم خلق ما ذكر؛ فيكون معناه: خلق كذا، وقد استوى على

العرش؛ كقوله (هو الّذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) بمعنى: وقد جعل منها زوجها، وعلى هذا ليس في قوله: (إنّ ربّكم اللّه. . .) (. . . ثمّ استوى على العرش) الشبهة التي في الأول كما لم يكن في قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على ربّهم) إذا صرف إلى ” عند ” شبهة؛ فيكون: وقد استوى: خلق العرش؛ كقوله: (ثمّ استوى إلى السّماء) بمعنى: ثم خلق السماء أو قصد خلقها، ونحو ذلك.

وقال الحسن: (ثمّ استوى على العرش) أي: استوى عليه أمره، وصنعه، أي: لم يختلف عليه صنع العرش، وأمره – وإن جل – أمر غيره وصنعه، كقوله: (ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفس واحدة) على استواء الأمر في التدبير والصنع.

وقال الحسن: معناه: استولى على العرش، كما يقال، استوى فلان على بغداد، بمعنى: استولى.

وقال قوم: معناه: استوى عليه، وهو فوق كل شيء في القدرة والعظمة، تعظيما له على غير اختلاف عليه في التحقيق بينه وبين غيره؛ كالذي ذكر بأن الأمر كله يوم القيامة له، والمساجد له، على التفصيل دون تخصيص له في ذاته من حيث ذلك.

وقال قوم: إذ كان العرش فوق كل شيء في تقدير المعارف، فقال: هو علاه بمعنى لا يوصف في الخلق، ولكن على ما كان، ولا خلق.

ونحن نقول – وباللّه التوفيق -: قد ثبت من طريق التنزيل بأنه استوى على العرش، وقد لزم القول بأنه ليس كمثله شيء، وعلى ذلك اتفاق القول ألا يقدر كلامه بما عرف من كلام الخلق، ولا فعله به، وما يوجبه، ولا علمه، ولا ما قيل: هو رب كذا، أو مالك

كذا، لا يراد به المفهوم من الخلق، لكن الوجه الذي يليق به، وما يوجبه حق الربوبية؛ فمثله في الأول.

ثم يلزم تسليم المراد لما عنده إذ لم يبينه لنا، وقد ثبت نفي ما يفهم من غيره.

وبعد؛ فإن القول فيه بالمكان يفسد بالذي به يحتج بوجوه.

أحدها: إن قوله: (ثمّ استوى على العرش) إخبار عن فعله الذي في التحقيق، يضاف إليه في خلق الخلق على اختلاف المخرج في القول؛ نحو: أن ذكر مرة أبدع، ومرة (فطر)، (وجعل)، (وأنزل) وأثبت، وكتب، (وأعطى)، وأنشأ، وغير ذلك من الألفاظ.

حقيقة ذلك: أنه خلق إذ ذلك معنى فعله في الحقيقة، وعلى ذلك كون وفعل وأمر في بعض المواضع، ثم يجب توجيه كل من ذلك إلى الوجه الذي يليق فيه القول بخلق، وكذا في (هدى) (وأضلّ) (وزيّن) وأتقن وأحكم، ونحو ذلك.

فكذلك في قوله: (ثمّ استوى على العرش) يجب أن يقابل ذلك بخلق؛ إذ هو إضافة إلى فعله.

ثم يخرج على وجهين.

أحدهما: ثم خلق العرش، ورفعه، وأعلاه، بعد أن كان العرش على الماء؛ كقوله: (ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان)، وليس ثم تنقّل من حال إلى حال؛ إذ لو كان كذلك لكان يصير حيث ثم ينتقل من خلق إلى خلق فيما يخلق، فيكون في الوقت الذي يصير إلى العرش صائرا إلى الثرى، وفي الوقت الذي يحدث خلق ما في الأرض؛ وما في السماء، متنقلا من ذا إلى ذا، وذلك تناقض فاسد، وفي ذلك بطلان معنى القول بالاستواء على العرش، بل يكون أبدا غير مستو عليه حتى يفرغ من خلق جميع ما يكون أبدا، وذلك متناقض فاسد، جل اللّه عن هذا التوهم، وباللّه التوفيق.

والثاني: أن يكون قوله: (ثمّ استوى على العرش) أي: إلى العرش في خلقه، ورفعه، وإتمامه، دليل احتماله على ذلك أن على من حروف الخفض وقد يوضع بعض موضع بعض؛ كقوله: (إذا اكتالوا على النّاس)، بمعنى: عن الناس، وقوله: (إذ وقفوا على ربّهم)، بمعنى: عند ربهم، مع ما قال اللّه: (إنّ علينا بيانه)، (وعلى اللّه قصد السّبيل)، بمعنى إليه، وعلى ذلك: (ثمّ استوى على العرش) أي: إلى العرش وهو على الماء كما ذكر ما فرفعه وأتمه؛ كما قال: (ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان) فخلق ما ذكر، واللّه أعلم.

والوجه الثاني: المذكور في الآية من اسم الرب وخلق ما ذكر وتسخير الذي وصفه ثم لم يتوهم في شيء من ذلك المعنى الذي يضاف إلى الخلق أنه رب كذا أو سخر كذا أو صنع كذا ملحد ولا موحد فكيف احتمل قلبي المشبهي في قوله: (الرّحمن على العرش استوى)، لولا جهله به وتقديره بالذي عليه أمر نفسه، واللّه الموفق.

والثالث: أن الناس في خلق اللّه الخلق مختلفون.

فمنهم من جعله الخلق نفسه، دون أن يكون اللّه بذاته يلحقه وصف سوى إضافة الخلق إليه في أن كان به، فعلى ذلك قوله: (ثمّ استوى على العرش) إنما هو ما ذكر من غير أن كان سبحانه يلحقه وصف لم يكن له.

ومنهم من يراه خالقا بذاته؛ ليكون جميع الخلائق إلى الأبد بتكوينه الذي يعبر عنه بقوله: كن من غير أن كان ثمّ كاف أو نون على كون كل شيء عليه به من غير تغيير عليه، ولا زوال عما كان عليه إذ لا شيء غيره، فكل معنى لو حقق أوجب تغيرا أو زوالا أو قرارا أو نحو ذلك، فاللّه يجل عنه ويتعالى؛ إذ ذلك علم الحدث، وأمارة الغيرية، ولا قوة إلا باللّه.

والرابع: هو الذي يرى فعله على ما عليه فعل الخلق من التحرك والزوال والسكون والقرار، إضافة من ذلك وصفه إلى مكان دون مكان، وحال دون حال، محال فاسد؛ لذلك بطل القول بالمكان في جميع الأقاويل، وأيّد الذي ذكرت ما ختم به الآية من قوله: (تبارك اللّه ربّ العالمين) وصف ذاته بالربوبية وبالتعالي عن جميع معاني المربوبين؛ إذ من حيث التشاكل يوجب خروجه من أن يكون ربّا، والآخر من أن يكون مربوبا، فإذا ثبت أن كل شيء من كل جهة مربوب؛ ثبتت سبحانيته من ذلك

الوجه، واللّه الموفق.

الوجه، واللّه الموفق.

الكتاب: تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة)

المؤلف: محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفى: 333هـ)

المحقق: د. مجدي باسلوم

الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان

الطبعة: الأولى، 1426 هـ – 2005 م

عدد الأجزاء: 10

أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج4

ص451

تفسير الماوردي

{ثم استوى على العرش} فيه قولان: أحدهما: معناه استوى أمره على العرش , قاله الحسن. والثاني: استولى على العرش , كما قال الشاعر:

(قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق)

وفي {العرش} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الملك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسرة , حكاه ابن بحر. والثاني: أنه السموات كلها لأنها سقف , وكل سقف عند العرب هو عرش , قال الله تعالى: {خاوية على عروشها} [الكهف: 42] [الحج: 45] أي على سقوفها. والثالث: أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها , محجوب عن ملائكة السماء.

الكتاب: تفسير الماوردي = النكت والعيون

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

المحقق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم

الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان

عدد الأجزاء: 6

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج2

ص229

تفسير المراغي

(ثمّ استوى على العرش) أي إنه تعالى قد استوى على عرشه بعد تكوين هذا الملك يدبر أمره ويصرّف نظامه بحسب تقديره الذي اقتضته حكمته.

وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس: «إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش يدبّر الأمر» .

واستواؤه تعالى على العرش: هو استقامة أمر السموات والأرض وانفراده بتدبيرهما، والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقة ذلك التدبير ولا معرفة صفته ولا كيف يكون، فالصحابة رضوان الله عليهم والأئمة من بعدهم لم يشتبه أحد منهم فيه، وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله: «استوى على العرش» كيف استوى؟

فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق.

وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعى والثّورى واللّيث ابن سعد والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري:

من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله- تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى اهـ.

الكتاب: تفسير المراغي

المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (المتوفى: 1371هـ)

الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر

الطبعة: الأولى، 1365 هـ – 1946 م

عدد الأجزاء: 30

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج8

ص173

تفسير المنار

(ثم استوى على العرش) أي ثم إنه سبحانه وتعالى قد استوى بعد تكوين هذا الملك على عرشه كما يليق به، يدبر أمره ويصرف نظامه حسب تقديره الذي اقتضته حكمته فيه كما قال في سورة يونس: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (10: 3) وفي سورة الرعد: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (13: 2، 3) وهو بمعنى ما هنا.

العرش في الأصل الشيء المسقف كما قال الراغب، وبينا اشتقاقه في تفسير الجنات المعروشات من سورة الأنعام ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم، وعلى سرير الملك وكرسيه الرسمي في مجلس الحكم والتدبير.

وحقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء واعتداله، ومن المجاز كما في الأساس: استوى على الدابة وعلى السرير والفراش، وانتهى شبابه واستوى، واستوى على البلد اهـ، وقال في مادة ع رش: واستوى على عرشه إذا ملك، وثل عرشه إذا هلك اهـ. وفي المصباح: واستوى على سرير الملك – كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه، كما قيل: مبسوط اليد ومقبوض اليد، كناية عن الجود والبخل اهـ.

لم يشتبه أحد من الصحابة في معنى استواء الرب تعالى على العرش، على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق، إذ كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وأن الإيمان بذلك لا يتوقف على معرفة كنه ذلك التدبير وصفته وكيف يكون، بل لا يتوقف على وجود عرش، ولكن ورد في الكتاب والسنة أن لله عرشا خلقه قبل خلق السماوات والأرض. وأن له حملة من الملائكة، فهو كما تدل اللغة مركز تدبير العالم كله. قال تعالى في سورة هود:

(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) (11: 7) ولكن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل كانت مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق. كيف وأن بعض القرائن الضعيفة لفظية

أو معنوية تمنع في لغتهم حمل اللفظ على معناه البشري فكيف إذا كان لا يعقل؟ فكيف والاستواء على الشيء مستعمل في البشر استعمالا مجازيا وكنائيا كما تقدم؟ والقاعدة التي كانوا عليها في كل ما أسنده الرب تعالى إلى نفسه من الصفات والأفعال التي وردت اللغة في استعمالها في الخلق: أن يؤمنوا بما تدل عليه من معنى الكمال والتصرف مع التنزيه عن تشبيه الرب بخلقه، فيقولون: إنه اتصف بالرحمة والمحبة واستوى على عرشه، بالمعنى الذي يليق به، لا بمعنى الانفعال الحادث الذي نجده للحب والرحمة في أنفسنا، ولا ما نعهده من الاستواء والتدبير من ملوكنا. وحسبنا أن نستفيد من وصفه بهاتين الصفتين أثرهما في خلقه، وأن نطلب رحمته ونعمل ما يكسبنا محبته، وما يترتب عليهما من مثوبته وإحسانه، ونستفيد من الاستواء على عرشه كون الملك والتدبير له وحده فلا نعبد غيره، ولذلك قرنه في آخر آية يونس بقوله: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (10: 3) وفي سورة الم السجدة (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) (32: 4) وهذا يؤيد ما صدرنا به تفسير الآية من أنها كأمثالها تقرر وحدانية الربوبية على أنها حجة لوحدانية الإلهية وإبطال عبادة غيره تعالى معه بمعنى ما كانوا يدعونه من الشفاعة.

أخرج ابن مردويه واللالكائي في السنة أن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت في الجملة: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر. فإن صح كان سببه شبهة بلغتها من بعض التابعين، إذ حدث من بعضهم الاشتباه في فهم أمثال هذه النصوص، كما كثر في المسلمين من لا يفهم اللغة حق الفهم، ولم يتلق الدين عن أئمة العلم. فكان المشتبه يسأل كبار العلماء فيجيبون بما تلقوا عن الصحابة والتابعين من الجمع بين إمرار النصوص وقبولها كما وردت وتنزيه الرب تعالى واستنكار السؤال في صفاته عن الكيف.

وأخرج اللالكائي في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات أن ربيعة شيخ

الإمام مالك سئل عن قوله: (ثم استوى على العرش) كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق، وأخرجا أن مالكا سئل هذا السؤال أيضا فوجد وجدا شديدا وأخذته الرحضاء، ولما سري عنه قال للسائل: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالا، وأمر به فأخرج. وفي رواية أنه قال: ” الرحمن على العرش استوى ” كما وصف نفسه، ولا يقال له كيف: ” وكيف ” عنه

مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة. اهـ. كأنه علم من حاله أنه مشكك غير مستفت ليعلم.

وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أن للناس في هذا المقام مقالات كثيرة وقال: وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح. مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه – وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه و (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (42: 11) بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى اهـ.

الكتاب: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)

المؤلف: محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني (المتوفى: 1354هـ)

الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب

سنة النشر: 1990 م

عدد الأجزاء: 12 جزءا

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير، وتم ربطه بنسخة مصورة أخرى (لدار المنار) ]

ج8

ص401

تفسير النسفي

{ثم استوى} استولى {على العرش} أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستوليا على جميع المخلوقات لأن العرش أعظمها وأعلاها وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقاررا كما تقوله الشبهة باطل لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان لأن التغير من صفات الأكوان والمنقول عن الصادق والحسن وأبى حنيفة ومالكم رضى الله عنه أن الاسواء معلوم والتكييف فيه بجهول والإيمان به واجب والجحود له كفر والسؤال عنه بدعه

الكتاب: تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)

المؤلف: أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: 710هـ)

حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي

راجعه وقدم له: محيي الدين ديب مستو

الناشر: دار الكلم الطيب، بيروت

الطبعة: الأولى، 1419 هـ – 1998 م

عدد الأجزاء: 3

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

ج1

ص573

السابق
نصوص مفسري السلف والخلف والمتقدمين والمتأخرين والمعاصرين في آية الاستواء: {استوى على العرش} [الأعراف:54]/ج1
التالي
نصوص مفسري السلف والخلف والمتقدمين والمتأخرين والمعاصرين في آية الاستواء: {استوى على العرش} [الأعراف:54]/ج3