السبكى: ” والسلف لا يسلكون مسلك المعتزلة القائلين بالمنزلة بين
المنزلتين , وأن تارك العمل يخرج عن حد الإيمان ولا يدخل فى حيز
الكفران, ولكنه عندهم عاص….والتحقيق أن هنا احتمالات أربعة…
2ـ تحقيق ماتع للإمام أبي نصر السبكي في مسألة هل العمل جزء من الإيمان، وما جاء عن السلف في ذلك والتوفيق بينه وبين مذهب الأشاعرة في المسألة؟
‘‘‘‘‘‘3 – اعتراض ثالث: أن مذهب الأشاعرة معارض بالحديث الذى أخرجه البخارى ومسلم , ونصه: أنه ذكر بسنده عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالإيمان بالله عز وجل , قال أتدرون ما الإيمان؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
(1) راجع: المصدر السابق نفس الموضع ,وقد ذكره العقيلى فى الضعفاء وذكر أن البخارى قال فيه نظر … * راجع: الضعفاء الكبير للعقيلى 3/ 250 طـ1 دار الكتب العلمية بيروت 1984 – ت /عبد المعطى قلعجى
(2) الحديث: الشهاب فى مسنده برقم (1934) 2/ 84 والطبرانى فى الكبير برقم (3475) 4/ 5
(3) راجع: الطبقات 1/ 122
قال: شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله , وإقام الصلاة ,وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وأن تعطوا الخمس من المغنم) (1)
ووجه الاعتراض بهذا الحديث: أن ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ فسر لهم الإيمان بالإقرار والعمل بالأركان , فدل هذا على أن العمل داخل فى ماهية الإيمان وأنه جزء منه , وهذا خلاف ما عليه المذهب والأشعرى.
وأجاب السبكى عن هذا الحديث بما يلى:-
أ- أن الإيمان فى هذا الحديث محمول على الإيمان الكامل , وما ذكره الشيخ هو الإيمان الصحيح المنجى فى الأخرة جمعاً بين الأقوال، والذى يدعونا إلى هذا الجمع وروود نصوص تؤيد ما ذهب إليه الأشعرى ومن تبعه نحو قوله تعالى {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (2)، وقوله تعالى {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي (قُلُوبِكُمْ} (3)، هذا أولاً.
وأما ثانيا ً: نمنع كون الأعمال المذكورة فى الحديث أجزاء من الإيمان؛ لأنها لوكانت كذلك لما عطف بينها , فإن العطف يقتضى المغايرة , فدل ذلك على أن الإيمان هو ما فسره لهم النبى بالشهادتين , وما ذكر بعده من خصال إنما هى من صفات الإيمان الكامل؛ لأنها لو كانت داخلة فى مسماه لما عطف بينها وبين الإيمان، وأيضاً: فإن هذه الأعمال لو كانت داخلة فى مسمى الإيمان لكان المأمور به واحداً لا أربعاً؛ إذ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم بالإيمان الذى هو تصديق وإقرار , وبعده أمرهم بالصلاة والزكاة والصوم وإعطاء الخمس من المغنم , فلو كانت هذه الأفعال داخلة فى مسمى الإيمان لأدخلها النبى فى تفسيره لمعنى الإيمان, ولما كان هناك فائدة لذكرها فى أمر منفصل , وهذا دليل كافٍ على كونها مغايرة لمعنى الإيمان (4).
(1) الحديث أخرجه: البخارى فى صحيحه بسنده عن ابن عباس برقم (53) 1/ 29
(2) سورة المجادلة آية (22)
(3) سورة الحجرات آية (14)
(4) راجع: الطبقات 1/ 125, 126
= وقد يقال: هذا الحديث جمع بين الإسلام والإيمان، وليس هذا بسديد , فإن هذا … الحديث لم يذكر الحج فى أى رواية من رواياته , وكذا الصوم لم يذكر فى بعض الروايات مع كونهما من أركان الإسلام , وذكر الخمس من المغنم , وهى غير داخلة فى أركان الإسلام , فدل ذلك على أن المأمور به فى الحديث هو الإيمان المفسر بالاعتقاد والنطق بالشهادتين وبعض الخصال العملية التى لا تدخل فى ماهية الإيمان (1).
أقول: ومن خلال سعى السبكى إلى التوفيق بين المذهبين ودفع الاعتراضات عن مذهبه يمكننا أن نصوغ النتيجة النهائية لسعيه هذا فى النقاط التالية:-
أ- أن مذهب الأشاعرة فى مفهوم الإيمان صورة من صور المذهب السلفى.
مذهب الأشاعرة فى الواقع ماهو إلا صورة من صور المذهب السلفى؛ وذلك لأن
مذهب السلف فى حقيقة الإيمان أعم من مذهب الأشاعرة ,فإن مذهب السلف
تجسيد لمعنى الإيمان الكامل الشامل لأبعاد الشعور الثلاثة وهى: التصديق القلبى، والإقرار القولى، والعمل بالجوارح.
أما مذهب الأشاعرة فإنه أخص من مذهب السلف , فإنه تجسيد لمعنى الإيمان
الذى يكفى فى حصول النجاة لصاحبه فى الأخرة إن شاء الله تعالى، وهو
صورة من صور الإيمان الكامل, بل إنه داخل فى مفهومه , وبين النوعين عموم وخصوص مطلق , فكل إيمان كامل فهو إيمان صحيح ,وليس كل إيمان صحيح
إيمان كامل , فيتحققان فى المكلف المصدق بقلبه ,المقر بلسانه ,القائم على أوامر
مولاه ونواهيه , وينفرد الأخص منهما – وهو الإيمان الصحيح- فى المؤمن
المكلف المصدق بقلب , المقر بلسانه ,المقصر فى العمل، وإذا اتضح لنا تلاحم,
فلا يصح لقائل أن يقول: من اختار مذهب الأشاعرة كان مخالفاً لمذهب السلف
فإن كلامهم محتمل لأن يجمع بينه وبين ما عليه السلف (2).
يقول السبكى ” فإن قلت: لقد لاح من كلامك عوداً على بدء أن الإيمان هو القلبى,
(1) راجع: السابق نفس الموضع.
(2) راجع: الطبقات 1/ 129
فهل أنت مختار لذلك مخالف للسلف؟
قلت: أما السلف فلا يُخَالَفون , كيف وهم القدوة؟! غير أنا قلنا: إن كلامهم
محتمل لأن يجمع بينه وبين من يقول بالتصديق بما تقدم , أو أنهم إنما قالوا
ذلك فى الإسلام , فإن ثبت ذلك فلا مخالفة بين الفريقين. (1)
ب- أن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظى.
بناء على اعتبار مذهب الأشاعرة صورة من صور المذهب السلفى يكون
الخلاف بين المذهبين خلافاً لفظياً لا يترتب عليه شئ, وتكون الهوة بين
الفريقين ضيقة جداً , فإن الجميع متفق على اعتبار التصديق القلبى لب
الإيمان واعتبار الإقرار شرطاً لتمامه عند القدرة عليه وسبباً لإجراء الأحكام
على المكلفين. (2)
أما بالنسبة للعمل: فمع أهميته عند الجميع إلا أنهم يتفقون على كونه غير
داخل فى ماهية الإيمان , وهذا واضح عند الأشاعرة.
أما السلف: فإنهم لا يعتبرون العمل جزءً من الإيمان بدليل أنهم لا يكفرون
تارك العمل , بخلاف المعتزلة والخوارج الذين يقولون بخروج تارك العمل
من الإيمان كما تبين ذلك عند بيان مذهبهم.
يقول السبكى: ” والسلف لا يسلكون مسلك المعتزلة القائلين بالمنزلة بين
المنزلتين , وأن تارك العمل يخرج عن حد الإيمان ولا يدخل فى حيز
الكفران, ولكنه عندهم عاص , أمره تحت المشيئة إن شاء الله عفا عنه
وإن شاء عاقبه. (3)
وبشأن موقف العمل من الإيمان عند الفرق المعتبرة يقدم لنا السبكى هذا التحليل
الرائع فيقول: ” والتحقيق أن هنا احتمالات أربعة:-
أ أحدها: أن نجعل الأعمال جزءً من مسمى الإيمان داخلة فى مفهومه دخول الأجزاء المقومة حتى يلزم من عدمها عدمه, وهذا هو مذهب المعتزلة ولم يقل به السلف.
ب- ثانيهما: أن نجعل الأعمال أجزاءً داخلة فى مفهومه لكن لا يلزم من عدمها عدمه , فإن الأجزاء على قسمين:-
- منها ما يلزم من عدمه عدم الذات: كالتصديق بالنسبة للإيمان.
(1) راجع: الطبقات 1/ 129
(2) راجع: أصول الدين للبغدادى 249
(3) راجع: الطبقات 1/ 129
- ومنها ما لا يلزم من عدمه عدم الذات: كالشعر واليد والرجل للإنسان
وكالأغصان للشجرة, فاسم الشجرة صادق على الأصل وحده , وعليه مع
الأغصان ولا يزول بزوال الأغصان , وهو الذى يدل عليه كلام السلف, ومن هذا
قيل: شعب الإيمان، وقد جعلت الأعمال للإيمان كالشعب للشجرة , وقد مثل الله
تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة , وهذا أصدق شاهد على ذلك.
ج- ثالثها: أن نجعل الأعمال آثاراً خارجة عن الإيمان لكنها بسببه, فإذا أطلق عليها فبالمجاز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، وهذا هو مذهب الخلف الذى نحاول تقريره.
د ـ رابعها: أن يقال: إنها خارجة بالكلية لايطلق عليها لا حقيقة ولا مجازاً , وهذا باطل لايمكن القول به. (1)
وفى ختام هذا التحليل الرائع يصرح السبكى بحقيقة الخلاف بين السلف والخلف
تصريحاً قاطعاً لكل وهم مبيناً من خلاله أن الخلاف بين الفريقين لفظي , وأنهما
فى هذه القضية يدُُُ واحدة.
يقول السبكى ” فأمر الخلاف فى هذه المسألة مع عظم موقعها سهلُُ ُ راجع إلى
التسمية , فإن من يقول: الإيمان التصديق لا يعتبره ما لم يكن معه نطق إن أمكن , ومتى حصل معه نطق فالسلف يسمونه إيماناً , ويسمون المتصف به مؤمناً وإن ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج ومسلماً أيضاً , ويجعلون إيمانه صحيحاً معتبراً وإن كان عاصياً بما فعل , وبعض الأئمة منهم، وإن قال بتكفير من ترك بعض الأركان – كالصلاة فلم يقل بتكفير تارك باقى الأركان كالزكاة والصوم والحج. (2)
وختاماً لهذه القضية أقول: لقد قدم السبكى لنا فى هذا المطلب صورة متكاملة لمفهوم الإيمان عنده مع نقده الواعى لمخالفيه وإنصافه لهم كل ذلك مصحوباً بالأدلة والتحليلات الدقيقة.
وأيضاً: فبجانب هذا: حاول بعث الوحدة الفكرية من خلال جهده الدؤوب فى
(1) راجع: الطبقات 1/ 130
(2) راجع: الطبقات 1/ 129
العمل على التوفيق بين شتى الفرق والمذاهب, وبدا ذلك واضحاً من خلال توفيقه بين مذهب السلف والمذهب الأشعرى , وكذا رده لمذهب ابن كلاب ومذهب
الماتريدية إلى مذهب الأشاعرة , كما أنه أيضاً أبدى تسامحاً واضحاً مع مذهب الجهمية والكرامية مع رفضه التام لما هم عليه , وذلك من باب الإنصاف.
وفيما يلى سننتقل إلى مطلب آخر من المطالب المتعلقة بمبحث الإيمان.
المطلب الثانى: مفهوم الإسلام والعلاقة بينه وبين الإيمان…..’’’’’’ انتظره ففيه نفائس أخرى
كذا في: الجانب العقدي لتاج الدين السبكي وموقفه من السلفية والمعتزلة (1/ 32)، “رسالة دكتوراه “؛ إعداد الباحث /عواد محمود عواد سالم
وانظر السابق:
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/761696900564554/