قال أبو علي الفارسي في «المسائل الحلبيات» (ص26):
«فأما “اليد” فلم تجر في العرف ولا في اللغة مجرى الشخص ولا جميعه، فأما ما ذكره من قوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} و {بما قدمت أيديكم}، فلا يشبه أن تكون “اليد” فيه عبارة عن الجارحة،»
ولكن المراد بها القوة والقدرة. فهذا بمنزلة قوله: {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون}؛ لأن قوله: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق} بمنزلة قوله: {اصلوها} و {بما كنتم تكفرون} مثل {بما قدمت يداك}، فكان معنى (بما قدمت يداك) بمنزلة: ما كسبته، أي: هذا العذاب عقوبة على ما اجترمته واكتسبته. يقول: ليس بشيء أجبرناك عليه ولا أكرهناك. و”اليد” بمنزلة “القوة”، بدلالة قولهم “لا يد لي بفلان”، أي: لا طاقة لي به ولا قوة عليه. وكما قال أهل الطائف لما قرأ عليهم عتاب بن أسيد {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله}: لا يد لنا أن نكون حرباً لله ورسوله. وقال سيبويه في هذا المعنى “لا يدين بها لك”. على أن “اليد” في الآي ليس يرلاد بها الجارحة، وإنما يراد بها القوة، كما ذكرنا / أن فيما يعاقب عليه الإنسان مما كسبه واختاره ما لا عمل لليد التي هي الجارحة فيه، وذلك نحو الاعتقادات وغير ذلك مما لا عمل لهذه الجارحة فيه، وأن الموبخ بقوله (ذلك بما قدمت يداك) موبخٌ بهذا الضرب توبيخه على ما هو فعل هذه الجارحة التي هي اليد، فدل ذلك على أن “اليد” في الآية ليس يعني بها الجارحة، وإذا لم يعن بها لم يجز أن يكون استغنى بها عن ذلك الشخص كالرقبة والرأس والفرج.
فإن قلت: فإن اليد إنما استعملت بمعنى القوة إذا أفرد اللفظ بها، كقول القائل: لا يد لي بهذا الأمر ولا قوة، وما في الآي من ذكرها مثنى ومجموع.
فالقول في ذلك: إنها تستعمل مثنى ومجموعاً في هذا المعنى، كما تستعمل فيه في الإفراد؛ ألا ترى أن ما ذكرناه عن سيببويه في هذا المعنى تثنية، وأن الأصمعي قد أنشد فيما جاء “اليد” فيه على التثنية، والمراد بها القوة(*)، وذلك فيما قاله علي بن الغدير الغنوي:
(وإذا رأيت المرء يشعب أمره … شعب العصا، ويلج في العصيان)
(فاعمد لما تعلو فما لك بالذي … لا تستطيع من الأمور يدان)
وفي التنزيل: {مما عملت أيدينا أنعاماً}، كما قال: {لما خلقت بيدي}. فالتثنية والجمع في هذا بمنزلةٍ كالإفراد في هذا المعنى. والتقدير: لما خلقت بقوتي، كقوله: {والسماء بنيناها بأيدٍ} أي: بقوة، ألا ترى أن الأيد والآد: القوة. وإن شئت جعلت قوله (بأيدٍ) جمع
“يدٍ”، كما قال “مما عملت أيدينا”، والمعنى فيه: القوة. ومعنى التثنية التأكيد والتقرير.
ومثل “اليد” في أنه أريد بها القوة قولهم “اليمين”، يعنون بها ذلك وعلى هذا قوله:
(…………………. … تلقاها عرابة باليمين)
وقوله: {والسموات مطوياتٌ بيمينه}، وقد فسر قوله: {فراغ عليهم ضرباً باليمين} أنه بالقوة، وقيل: باليمين التي حلفها في قوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم}، وقيل: الجارحة.
ومما جاء “اليد” فيه يراد بها القوة نحو قولهم “في يد فلان ضيعة”، يراد بها فيما حازه، فأمكنه بذلك تصرفه فيها. ومن ذلك ما أنشده أبو زيد:
(لهم حبقٌ، والسود بيني وبينهم … يدي لكم والعاديات المحسبا)
وقد اسعملت “اليد” في الكلام على غير وجه، ما علمت أن شيئاً منه أريد به جملة الشخص وجميعه في عرف ولا أصل لغة، كما كانت “الرقبة” و “الرأس” و “الفرج” كذلك. فمن ذلك ما يراد به النصرة، كما روي من قوله عليه السلام: “المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم”، أي: هم أهل كلمة واحدة ونصرة على من شق عصاهم. وجاءت حيث يراد بهم اللزوم، كما روي “لصاحب الحق اليد واللسان”. ومن ذلك ما يراد به النعمة نحو ما أنشده أبو زيد:
(فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ … فإن له عندي يدياً وأنعما)
ومن ذلك قوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولةٌ غلت أيديهم}، وقال
ابن عباس: “المعنى: نعمه مقبوضة، وليس يعنون أنها موثقة”. ويدل على صحة ما فسره قوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء}. وقد روي أن اليهود أبخل قوم لقوله {غلت أيديهم}. ولما استعمل البسط في اليد حيث يراد بها السعة في الإعطاء والإنفاق، وضعت بخلاف البسط حيث أريد بها البخل والمنع، فمن ثم قال:
(مناتين أبرامٌ، كأن أكفهم … أكف ضبابٍ أشنقت في الحبائل)
فشبه أيديهم بأيدي الضباب لأنها توصف بالصغر والقصر، كقول الآخر، أنشده أبو الحسن:
(إنا وجدنا بني جلان كلهم … كساعد الضب لا طولٍ ولا قصر)
فلم يقتصر الأول بتشبيهه إياها بأيدي الضباب حتى جعلها أيدي ضباب
قد أشنقت بالحبائر، أي: نشبت فكتفت لذلك، فاجتمعت وتقبضت على ما كان قبل من الصغر والتقبض. فهذه جملة من القول في “اليد” وما استعملت فيه، ولم أجدها استعملت في موضع حيث يراد جملة الشخص وجميعه، فيجوز أن تجري مجرى تلك الكلم التي استعملت هذا الاستعمال.
فإن قلت: فقد قالوا “يداك أوكتا”، وإنما المراد: أنت أوكيت فهذا يدل أن “اليد” قد قامت مقام الجملة كـ”الرقابة” وأخواتها؛ لأن فعل الفاعل قد نسب إلى بعضه.
فإن هذا لا دلالة فيه؛ لأن الإيكاء لما كان باليد نسب إليها، وإن كان الفاعل الجملة، كما جاز أن يقال: كتبت يدي، ورأت عيني، وفي التنزيل: {فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم}، فنسب الفعل إلى الجارحة التي بها فعل الفاعل، وإن كان للجملة، فـ “اليد” على هذا عبارة عن العضو المخصوص، ليس يراد بها الجملة. وعلى هذا قالوا “وفوك نفخ”، فنسب النفخ إلى الفم لما كان به يكون، وإن كان الفاعل في الحقيقة جملة الإنسان. فكما أن “الفم” لا يقع ولا يكون عبارة عن جملة الإنسان كقوهم “يداك أوكتا”، والوكاء: الخيط الذي يشد به القربة، والعصام: حبلها، وأوكيت السقاء والقربة: شددتهما بالوكاء.اهـ
وفي «تفسير السمرقندي = بحر العلوم» (3/ 174):
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي يعني: الذي خلقته بيدي قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها، ولا نعرف تفسيرها. يعني:
قوله: بيدي يعني: الذي خلقت بيدي. وقال بعضهم: تفسيرها كما قال الله تعالى:
خلقت بيدي. ولا نفسر اليد. ونقول: يد لا كالأيدي. وهذا قول أهل السنة والجماعة.
وقال بعضهم: نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى. يعني: خلقه بقدرته، وقوته، وإرادته.
فإن قيل: قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته، وقدرته، وإرادته. فما الفائدة في التخصيص هنا؟ قيل له: قد ذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضا، وهو قوله: أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما [يس: 71] ويقال: لما خلقت بيدي أي: بقوتي. قوة العلم، وقوة القدرة. ويقال: خلقت بيدي أي: بماء السماء، وتراب الأرض، كقوله:
آدم خلقه من تراب [آل عمران: 59] وكما قال- عليه السلام-: «خلق الله تعالى الخلق من ماء» وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن. وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضا ما له ظهر وبطن. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولوا فلان قبيح فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته» . ومن قال: إن لله تعالى صورة كصورة آدم فهو كافر، ولكن المعنى في الخبر، كما روي عن بعض المتقدمين أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اختار من الصور صورة، وخلق آدم- عليه السلام- بتلك الصورة، فمن ذلك قال: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» ، أي: على تلك الصورة التي اختارها الله.
وجاء في «تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» (4/ 514):
وقرأ جمهور الناس: «بيدي» بالتثنية. وقرأت فرقة: «بيدي» بفتح الياء، وقد جاء في كتاب الله:
مما عملت أيدينا [يس: 71] بالجمع.
وهذه كلها عبارة عن القدرة والقوة، وعبر عن هذا المعنى بذكر اليد تقريبا على السامعين، إذ المعتاد عند البشر أن القوه والبطش والاقتدار إنما هو باليد، وقد كانت جهالة العرب بالله تعالى تقتضي أن تنكر نفوسها أن يكون خلق بغير مماسة، ونحو هذا من المعاني المعقولة، وذهب القاضي ابن الطيب إلى أن اليد والعين والوجه صفات ذات زائدة على القدرة والعلم وغير ذلك من متقرر صفاته تعالى، وذلك قول مرغوب عنه ويسميها الصفات الخبرية. وروي في بعض الآثار أن الله تعالى خلق أربعة أشياء بيده وهي: العرش والقلم وجنة عدن وآدم وسائر المخلوقات بقوله: «كن» .اهـ
وقال الواحدي في «التفسير البسيط» (3/ 93):«قال النحويون: وذكر اليد في قوله: {يكتبون الكتاب بأيديهم} تحقيق للإضافة وإن كانت الكتابة لا تقع إلا باليد، وقد أكدت الإضافة بذكر اليد (1) فيما لا يراد باليد فيه الجارحة (2)، كقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص: 75] وقوله: {مما عملت أيدينا} [يس: 71]. ومعناه: مما تولينا عمله، ولما (3) توليت خلقه.»,اهـ
وفي
وفي «تفسير الراغب الأصفهاني» (1/ 240):«{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم …} الآية (79) سورة البقرة… إن قيل ما وجه توكيد الكتابة باليد، وهي لا تكون إلا بها،قيل: لما كانت اليد العاملة يختص بها الإنسان من بين الحيوان وهي أعظم جارحة، بل عامة المنافع راجعة إليها حتى لو توهمناها مرتفعة ارتفع بها الصناعات التي بها قوام العالم كالبناء، والحوك، والصوغ صارت مستعارة في القوى جميعا، والمنافع كلها حتى قيل: فلان يد فلان إذا قواه، وقيل للنعمة يد لما صارت معينة للمعطى إعانة يده وحتى صار مستعارا في اللفظ لله تعالى بدلا عن القدرة أو عن النعمة أو صفة أخرى غيرهما، فذكرت مثناة مرة ومجموعة مرة تصويرا للمبالغة في ذلك، فقال
تعالى: {والسماء بنيناها بأيد}، وقال تعالى: {مما عملت أيدينا}، وقال: {لما خلقت بيدي}، ووجه آخر، وهو أن الفعل ضربان: ابتداء، واقتداء، فيقال فيما كان ابتداء: ” هذا مما عملته يدي فلان “، فقوله: {مما كتبت أيديهم} أي مما اخترعوه من تلقائهم، وعلى هذا قد يحمل قوله تعالى:» {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}.
وجاء في «تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة» (8/ 538):
«وقوله: (مما عملت أيدينا أنعاما).
يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق، نسب ذلك إلى نفسه.
ويحتمل (مما عملت أيدينا)، أي: قوتنا؛ كقوله: (والسماء بنيناها بأيد)، وقوله: (خلقت بيدي)، أي: بقوة ونحوه، والله أعلم.
وقوله: (فهم لها مالكون).».هـ
(*) قال وليد ابن الصلاح: وهذا الكلام – أي كلام أبي علي الفارسي وسيأتي نحوه عن السمرقندي وابن عطية والواحدي والراغب والماتريدي – حاصله أن اليد سواء أفردت أو ثنيت أو جمعت، عديت بالباء أو لما تعد، ففي كل هذه الأحوال قد يراد بها القوة خلافا لما زعمه ابن تيمية أن اليد إذا ثنيت أو عُديت بالباء ونحو ذلك من التفصيلات: لا يراد بها قط القوة ونحوها من المعاني المجازية ، وإنما يراد به اليد الحقيقية، ومن ثَمّ أنكر تأويل آية “لما خلقت بيدي” وقوله “بل يداه مبسوطتان” وفي ذلك يقول في «مجموع الفتاوى» (3/ 45): «ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيرا لما ليس مثله كما قيل في قوله {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ؟ فقيل هو مثل قوله: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما} ؟ فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي؛ فصار شبيها بقوله: {فبما كسبت أيديكم} وهنا أضاف الفعل إليه فقال: {لما خلقت} ثم قال: {بيدي} وأيضا: فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفي اليدين ذكر لفظ التثنية كما في قوله: {بل يداه مبسوطتان} وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع فصار كقوله: {تجري بأعيننا} . وهذا في (الجمع نظير قوله: {بيده الملك} وبيده الخير في (المفرد فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهرا أو مضمرا وتارة بصيغة الجمع كقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه؛».
وقلده تلميذه ابن القيم فقال كما في «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» (ص40): «أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع: مفردا ومثنى ومجموعا، فالمفرد كقوله: {بيده الملك} [الملك: 1] والمثنى كقوله: {خلقت بيدي} [ص: 75] والمجموع {عملت أيدينا} [يس: 71] فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليها فقال {خلقت بيدي} [ص: 75] وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء، فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل {خلقت بيدي} [ص: 75] من المجاز ما يحتمله {عملت أيدينا} [يس: 71] فإن كل أحد يفهم من قوله: {عملت أيدينا} [يس: 71] ما» يفهمه من قوله: عملنا وخلقنا، كما يفهم ذلك من قوله: {فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] ، وأما قوله: {خلقت بيدي} [ص: 75] فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى، فكيف وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟ وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد المراد الإضافة إليه كقوله: {بما قدمت يداك} [الحج: 10] {فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو مما باشرته به، ولهذا قال عبد الله بن عمرو: (إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده) . فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدرة).اهـ