مقالات في الرد على نظرية تقسيم التوحيد وما بني عليها

[1] هل صحيح أن الأشاعرة لم يهتموا ببيان الشرك في كتبهم ولا حذروا من عبادة غير الله، ولذلك وقعوا فيه؟

نعم، هكذا ادعى ابن تيمية وأتباعه ومنهم د. سفر الحوالي حيث قال في كتابه منهج الأشاعرة في العقيدة: أما التوحيد الحقيقي وما يقابله من الشرك ومعرفتُه والتحذيرُ منه فلا ذكر له في كتب عقيدتهم إطلاقاً ، ولا أدري أين يضعونه؟ أفي كتب الفروع؟ فليس فيها ، أم يتركونه بالمرة؟ فهذا الذي أجزم به] .اهـ

قال وليد: يَقصد الحوالي بالتوحيد الحقيقي ما يسمى بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة لله، وهذا مبني على نظرية تقسيم التوحيد التي ابتدعها ابن تيمية، والتي أثبتنا بطلانها وبطلان المقدمات التي بنيت عليها، ومن ضمن تلك المقدمات دعوى خطيرة وهي أن الرسل لم تبعث بالإيمان بالله وتوحيده في الربوبية ولذلك قال الحوالي “التوحيد الحقيقي” أي أن الإيمان بأن الله هو الرب والخالق الواحد هذا ليس توحيدا حقيقيا لأن الرسل لم تبعث بذلك حسب زعم ابن تيمية، وقد سبق أن شرعنا في الرد على هذه الدعوى الخطيرة الباطلة.

وعلى كل سوف أترك تفنيد كلام سفر الحوالي إلى د.صلاح الدين الإدلبي في كتابه عقائد الأشاعرة حيث قال:

أقول:

1ـ أنت لم تطلع على كتبهم كلها ، فما كان ينبغي لك أن تجزم بالنفي ، واعلم أن الحالف والجازم يحلف ويجزم في حالة الإثبات على ما يعلمه ثابتاً ، ويحلف ويجزم في حالة النفي على نفي علمه بالشيء ، ولا يحلف ولا يجزم في هذه الحالة على البت والقطع ، فإذا كنت لا تدري هل ذكروا هذه المسألة أو لا؟ أو لا تدري أين يضعونها؟ فقل: [هذا الذي وقفت عليه من كتبهم]، أو [هذا الذي أظنه] ، ولا تقل [هذا الذي أجزم به].

2ـ اعلم أن الأشاعرة مُقِرُّون بأنه لا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع إلا الله ، وبأنه لا يستحق العبادة إلا الله ، ومن عجائب التسرع وسوء الفهم أن ينسب هذا الباحث المسكين إليهم القول بالشطر الأول دون الثاني ، لأنه لم يجد أنهم يذكرون انفراد الله تبارك وتعالى باستحقاق العبادة ، لا في كتب العقيدة ولا في كتب الفروع .

والأشاعرة يؤصلون أصول العقائد الإسلامية في كتب العقيدة ، ويردون على أصناف الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى رباً ولا بالإسلام ديناً ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، فإذا آمن المرء بالله تعالى وبأن القرآن كلام الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله فمن المعلوم بداهة أن لا يتوجه بالعبادة إلا إلى الخالق جل جلاله .

وارجع إلى كتب التفسير التي كتبها الأشاعرة لتجد أنهم ينصون على انفراد الله تبارك وتعالى باستحقاق العبادة ، والتحذير من أصناف الشرك ، وخاصة اتخاذ شريكٍ مع الله تعالى في العبادة .

اقرأ مثلاً قول الإمام الرازي: [لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً][ (1) ] .

واقرأ قوله: [سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ : أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً له ومعبوداً ، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال] [ (2) ] .

واقرأ قوله كذلك… وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية ، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى [فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً] ، وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله [أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ] [ (3) ] ، لأن قوله [ألا لله] يفيد الحصر [ (4) ] .

وقال الإمام فخر الدين الرازي كذلك : قوله [إيّاك نعبد] يدل على أنه لا معبود إلا الله ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله ، فقوله [إيّاك نعبد وإيّاك نستعين] يدل على التوحيد المحض. ثم قال: [كل من اتخذ لله شريكا فإنه لا بد وأن يكون مقدما على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه ، إما طلباً لنفعه ، أو هرباً من ضرره ، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله ، وخوفهم من الله ،

__________

(1) تفسير الرازي: 16/33 ، الآية 30 من سورة التوبة .

(2) المرجع السابق: 16/38 ، الآية 31 من سورة التوبة .

(3) سورة الزمر آية 3 .

(4) المرجع السابق: 26/239 ، الآية 2 من سورة الزمر .

****************************************

ورغبتهم في الله ، ورهبتهم من الله ، فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ، ولم يستعينوا إلا بالله] [ (1) ].

3ـ لو رجعت إلى كتب الباقلاني في العقيدة لأَلْفَيْتَهُ يشرح التوحيد بما يشمل توحيد الألوهية ، إذ يقول: [والتوحيد له هو الإقرار بأنه ثابت موجود ، وإله واحد فرد معبود ، ليس كمثله شيء] . ويقول: [ويجب أن يُعلم أن صانع العالم جلت قدرته واحد أحد ، ومعنى ذلك أنه ليس معه إله سواه ، ولا من يستحق العبادة إلا إياه] [ (2) ] .

4ـ ويقول الإمام النووي رحمه الله عن كلمة لا إله إلا الله: [وأفضل الأذكار بعد القرآن لا إله إلا الله ، ومعناها: لا معبود بحق في الوجود إلا الله] [ (3) ] .

وقال الإمام المفسر أبو عبد الله القرطبي الأشعري العقيدة في مقدمة كتابه [التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة] ، قال رحمه الله عن كتابه هذا: [جعله الله خالصاً لوجهه ، … ، لا رب سواه ، ولا معبود إلا هو، سبحانه] .

5ـ وقال الإمام العز ابن عبد السلام بعد ذكر الصفات الواجبة لله تعالى: [فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ، ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه] . ثم قال: [ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما قررناه] [ (4) ] .

6ـ وقال الإمام السنوسي رحمه الله: [وأنواع الشرك ستة: شرك استقلال ، وهو إثبات إلهين مستقلين ، كشرك المجوس ، وشرك تبعيض ، وهو تركيب إله من آلهة ، كشرك النصارى ، وشرك تقريب ، وهو عبادة غير الله تعالى ليقرب إلى الله تعالى زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية ، وشرك تقليد ، وهو عبادة غير الله تعالى تبعاً للغير ، كشرك

__________

(1) مفاتيح الغيب: 1/ 244 ، 245 .

(2) الإنصاف: ص 32 ، 33 .

(3) المقاصد للإمام النووي: ص 9 .

(4) العقائد للعز ابن عبد السلام: ص 11 ، 13 .

******************************************

متأخري الجاهلية ، وشرك الأسباب ، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك ، وشرك الأغراض ، وهو العمل لغير الله تعالى ، وحكم الأربعة الأُوَل الكفر بإجماع ،وحكم السادس المعصية ، وحكم الخامس التفصيل ، ….] [ (1) ] .

فالنوعان الأولان المذكوران هنا منافيان لتوحيد الربوبية ، وهما شرك الاستقلال وشرك التبعيض ، والنوعان التاليان لهما منافيان لتوحيد الألوهية ، وهما شرك التقريب وشرك التقليد ، ويقرر السنوسي أن الحكم في هذه الأنواع الأربعة هو الكفر ، وأن ذلك بالإجماع.

وقال السنوسي: [وحقيقة الإله هو الواجب الوجود المستحق للعبادة ، .. والمعنى على هذا لا مستحق للعبودية له موجوداً ـ أو في الوجود ـ إلا الفرد الذي هو خالق العالم جلّ وعلا ، … لأنه لا يستحق أن يعبد ـ أي يذل له كل شيء ـ إلا من كان مستغنياً عن كل ما سواه ومفتقراً إليه كل ما عداه] [ (2) ] .

وقال البيجوري: [ومعنى الإله: المعبود بحق ، … وإذا كان معنى الإله ما ذكر كان معنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله] [ (3) ] .

7ـ فهل يحذر الأشاعرة من الشرك أو لا ؟؟! وهل يذكرون التوحيد الحقيقي ـ الذي هو توحيد العبادة وإفراد الله تعالى بالألوهية ـ أو لا ؟؟!!! .

ولعلك تدرك ـ أيها الأخ الباحث ـ بعد الآن أن كتب الأشاعرة ركزت في العقيدة على توحيد الربوبية ودلائله العقلية ولم تترك الحديث عن توحيد الألوهية ، وأن الأشاعرة برآء من التهمة التي حاولت إلصاقها بهم ، وهي أن التوحيد الحقيقي لا ذكر له في كتبهم ، لا في كتب العقيدة ، ولا في كتب الفروع ، وأنك تجزم بهذا !!!.انتهى كلام د. الإدلبي

قال وليد: هذا وقد أتيت بعشرات النصوص عن السادة الأشاعرة والماتريدية والصوفية رضي الله عنهم التي تفيد أن الله هو وحده المعبود بحق، وأن عبادة غيره شرك وكفر، وهذا خلاف ما نسبه ابن تيمية ومن تبعه كسفر الحوالي إلى الأشاعرة كما في نصه أعلاه، وذلك كتابي الكبير الذي نقضت فيه نظرية تقسيم التوحيد عند ابن تيمية رحمه الله، والمجلد الأول منه تحت الطبع الآن وهو بعنوان “تنوير الرب الإله في دعوى التباين بين كلمتي الرب والإله”، أسأل الله أن ييسر طباعته ونشره وأن تعم فائدته فقد بذلت فيه جهدا كبيرا على مدى سنين والله من وراء القصد.

__________

(1) شرح المقدمات للسنوسي: ص 33 ، 40 .

(2) شرح أم البراهين للسنوسي: ص 206 – 207 ، المطبوع مع حاشية الدسوقي .

(3) حاشية البيجوري على متن السنوسية: ص 42 .

السابق
منهج الألباني في الحديث مع ترجمة قصيرة له من “كتاب الاتجاهات الحديثية فى القرن الرابع عشر” للشيخ محمود سعيد ممدوح.
التالي
هل الله تعالى مركب عند ابن تيمية؟