مقالات في صفة الكلام لله

(1) الفتح القُدسيّ في تحقيق مسألة الكلام النفسيّ

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن بعهده وفى….وبعد؛ فهذه رسالة سميتها ” الفتح القُدسيّ في تحقيق مسألة الكلام النفسي” سوف أبسط فيها القولَ في مسألة الكلام النفسي، وما فيها من خلاف، وأدلة، وردود، مبينا الحق فيها، معتصما بالله وحده.

فأقول وبالله التوفيق: اختلف الناسُ في ثبوت الكلام النفسي لله، فأثبته الأشاعرة؛ وأنكره المعتزلة، ووافقهم بعضُ الحنابلة كابن تيمية وأتباعه؛ وسوف أسرد حججَ الفريقين: من أثبت، ومن أنكر؛ مع ردود كلِ فريقٍ على حُجج الآخر، متبعا طريقَ الإنصاف، بعيدا عن التعصب والإجحاف؛ مستمدا العون من الله في ذلك.

وسوف أبدأ بذكر حجج من أنكر ثبوتَ الكلامِ النفسي لله وإن كان الأولى أن أبدأ بحججِ من أثبت، لأن الدليل على المثبت لا على النافي كما هي القاعدة، بيد أني اخترت العكس لأن حججَ من أثبت ستأتي في سياق مناقشة حججِ من نفى كما سنرى لاحقا بعون الله.

فصْلٌ في ذِكر الحُجةِ الأولى لمن أنكر ثبوت الكلام النفسي وهي: أنه غير متصور أصلا.

فقد ادعى المنكرون للكلام النفسي أنه غير مُتصور أصلا، وليست له ماهية معروفة، وإنما المتصور والمعروف هو الكلام اللفظي المسموع، وما هو غير متصور الماهية فغير ثابت قطعا.

ولنستمع إلى ابن تيمية وهو يقرر هذه الحجة، فهو يقول رحمه الله في مجموع الفتاوى – (6 / 296): فالكلام القديم ” النفساني ” الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو ؟ بل ولا تصورتموه وإثبات الشيء فرع تصوره، فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته ؟ ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب – رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة – لا يذكر في بيانها شيئا يعقل بل يقول : هو معنى يناقض السكوت والخرس؛ والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام؛ فالساكت هو الساكت عن الكلام، والأخرس هو العاجز عنه، أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام، وحينئذ فلا يُعرف الساكت والأخرس حتى يُعرف الكلام ولا يُعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس. فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه ؛ بل هم في الكلام يشبهون النصارى في الكلمة وما قالوه في ” الأقانيم ” و التثليث ” والاتحاد ” فإنهم يقولون ما لا يتصورونه ولا يبينونه و ” الرسل ” عليهم السلام إذا أخبروا بشيء ولم نتصوره وجب تصديقهم . وأما ما يثبت بالعقل فلا بد أن يتصوره القائل به وإلا كان قد تكلم بلا عِلم .اهـ[1]

قال وليد ابن الصلاح: كذا قال ابن تيمية، وسوف ننظر فيما قاله فقرةً فقرةً، ثم نجيب عنها بعونه تعالى:أولا: قوله ( فالكلام القديم ” النفساني ” الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو ؟ بل ولا تصورتموه وإثبات الشيء فرع تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته ؟ ) فالجواب: أما أن الأشاعرة الذين أثبتوا الكلام النفسي لم يُثبتوا ماهيته ولم يتصوروه: فغير مُسلّمٍ، بل أثبتوا ماهيتَه وتصوّروه، ومن ذلك ما ذكره الفخر الرازي ونقله عنه المرداوي في التحبير شرح التحرير – (3 / 1250) فقال عن الكلام النفسي هو : “( نسبة بين مفردين ) ، نعني بالنسبة بين المفردين – أي : بين المعنيين المفردين – : تعلق أحدهما بالآخر ، أو إضافته إليه ، على جهة الإسناد الإفادي ، أي : بحيث إذا عبر عن تلك النسبة بلفظ يطابقها ويؤدي معناها ، كان ذلك اللفظ إسنادا إفاديا . ومعنى قيام النسبة بالمتكلم ما قال الفخر الرازي ، وهو : أن الشخص إذا قال لغيره : [ اسقني ] ماء ، فقبل أن يتلفظ بهذه الصيغة قام بنفسه تصور حقيقة السقي ، وحقيقة الماء ، والنسبة الطلبية بينهما ، فهذا هو الكلام النفسي ، والمعنى القائم بالنفس ، وصيغة قوله : [ اسقني ] ماء ، عبارة عنه ودليل عنه ).

وقال القرافي : ( كل عاقل يجد في نفسه الأمر والنهي ، والخبر عن كون الواحد نصف الاثنين ، وعن حدوث العالم ، ونحو ذلك ، وهو غير مختلف فيه ، ثم يعبر عنه بعبارات ولغات مختلفة ، فالمختلف هو الكلام اللساني ، وغير المختلف [ هو ] الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ، ويسمى ذلك العلم الخاص : سمعا ؛ لأن إدراك الحواس إنما هي علوم خاصة أخص من مطلق العلم ، فكل إحساس علم ، وليس كل علم إحساسا ، وإذا وجد هذا العلم الخاص في نفس موسى ، المتعلق بالكلام النفسي القائم بذات الله ، سمي باسمه الموضوع له في اللغة ، وهو السماع ) . انتهى ما جاء في التحبير.

وبَسَط ذلك الشيخُ الزرقاني في مناهل العرفان….انظر اللاحق:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] وانظر أيضا: العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية ص367، وص336 آليا (بترقيم البي دي إف)، للشيخ عبد الله بن يوسف الجديع، الناشر: دار الإمام مالك، دار الصميعي للنشر والتوزيعالطبعة: الثانية، 1416 هـ – 1995 م. وانظر أيضا: منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل ، لجابر إدريس أمير ص812؛ ط/أضواء السلف.

https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/804703972930513/

السابق
نفي الجسمية عن الله تعالى بين البخاري والأشعرية من جهة وبين ابن تيمية والوهابية من جهةج2
التالي
(2) الفتح القُدسيّ في تحقيق مسألة الكلام النفسيّ[1]