قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: والأسماء تنقسم إلى ستة أقسام ;
أحدها : ما له مسمى واحد , كالرجل والمرأة والإنسان والحيوان , فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف .
الثاني , ما له موضوع شرعي , وموضوع لغوي , كالوضوء والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع ونحو ذلك , فهذا تنصرف اليمين عند الإطلاق إلى موضوعه الشرعي دون اللغوي , لا نعلم فيه أيضا خلافا , غير ما ذكرناه فيما تقدم .
الثالث , ما له موضوع حقيقي ومجاز لم يشتهر أكثر من الحقيقة , كالأسد والبحر , فيمين الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز ; لأن كلام الشارع إذا ورد في مثل هذا , حمل على حقيقته دون مجازه , كذلك اليمين .
الرابع , الأسماء العرفية , وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه , فهذا على ضروب :
أحدها : ما يغلب على الحقيقة , بحيث لا يعلمها أكثر الناس , كالراوية , هي في العرف اسم المزادة , وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات , والظعينة في العرف المرأة , وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها , والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة , وفي الحقيقة العذرة: فناء الدار , ولذلك قال علي , عليه السلام , لقوم : ما لكم لا تنظفون عذراتكم ؟ يريد أفنيتكم . والغائط المكان المطمئن . فهذا وأشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة ; لأنه الذي يريده بيمينه , ويفهم من كلامه , فأشبه الحقيقة في غيره .
الضرب الثاني : أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم , وهذا يتنوع أنواعا ; فمنه ما يشتهر التخصيص فيه , كلفظ الدابة , هو في الحقيقة اسم لكل ما يدب , قال الله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } . وقال : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } . وفي العرف اسم للبغال والخيل والحمير , ولذلك لو وصى إنسان لرجل بدابة من دوابه , كان له أحد هذه الثلاث , فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق , كالذي قبله . ويحتمل أن تتناول يمينه الحقيقة….(1)
الضرب الثالث : أن يكون الاسم المحلوف عليه عاما , لكن أضاف إليه فعلا لم تجر العادة به , إلا في بعضه , أو اشتهر في البعض دون البعض , مثل أن يحلف أن لا يأكل رأسا , فإنه يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والصيود والطيور والحيتان والجراد . ذكره القاضي . وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للأكل منفردا(2).اهـ
(1) وتتمة كلام ابن قدامة في الضرب الثاني: ويحتمل أن تتناول يمينه الحقيقة ; بناء على قولهم فيما سنذكره , وعلى قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم : إن يمينه تتناول السمك . ومن هذا النوع إذا حلف لا يشم الريحان , فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي , وهو في الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح , مثل الورد والبنفسج والنرجس . وقال القاضي : لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي . وهو مذهب الشافعي ; لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه . وقال أبو الخطاب : يحنث بشم ما يسمى في الحقيقة ريحانا ; لأن الاسم يتناوله حقيقة . ولا يحنث بشم الفاكهة , وجها واحدا ; لأنها لا تسمى ريحانا حقيقة ولا عرفا . ومن هذا لو حلف لا يشم وردا , ولا بنفسجا , فشم دهن البنفسج , وماء الورد , فقال القاضي : لا يحنث . وهو مذهب الشافعي ; لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا . وقال أبو الخطاب : يحنث ; لأن الشم إنما هو للرائحة دون الذات , ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما . وقال أبو حنيفة : يحنث بشم دهن البنفسج ; لأنه يسمى بنفسجا , ولا يحنث بشم ماء الورد ; لأنه لا يسمى وردا . والأول أقرب إلى الصحة , إن شاء الله تعالى .
وإن شم الورد والبنفسج اليابس , حنث . وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يحنث , كما لو حلف لا يأكل رطبا , فأكل تمرا . ولنا , أن حقيقته باقية , فحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما , فأكل قديدا , وفارق ما ذكروه , فإن التمر ليس رطبا .
وإن حلف لا يأكل شواء , حنث بأكل اللحم المشوي , دون غيره من البيض المشوي وما عداه . وبه قال أصحاب الرأي . وقال أبو يوسف , وابن المنذر : يحنث بأكل كل ما يشوى ; لأنه شواء . ولنا , أن هذا لا يسمى شواء , فلم يحنث بأكله , كالمطبوخ , وقولهم : هو شواء في الحقيقة . قلنا : لكنه لا يسمى شواء في العرف , والظاهر أنه إنما يريد المسمى شواء في عرفهم .
وإن حلف لا يدخل بيتا , فدخل مسجدا , أو حماما , فإنه يحنث . نص عليه أحمد . ويحتمل أن لا يحنث . وهو قول أكثر الفقهاء ; لأنه لا يسمى بيتا في العرف , فأشبه ما قبله من الأنواع . والأول المذهب , لأنهما بيتان حقيقة , وقد سمى الله المساجد بيوتا , فقال : { في بيوت أذن الله أن ترفع } . وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } . وروي في حديث : { المسجد بيت كل تقي } . وروي في خبر : ” بئس البيت الحمام ” . وإذا كان بيتا في الحقيقة , ويسميه الشارع بيتا , حنث بدخوله , كبيت الإنسان , ولا نسلم أنه من الأنواع , فإن هذا يسمى بيتا في العرف , بخلاف الذي قبله . وإن دخل بيتا من شعر , أو غيره , حنث , سواء كان الحالف حضريا أو بدويا , فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا , قال الله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم } . فأما ما لا يسمى في العرف بيتا , كالخيمة , فالأولى أن لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا ; لأن يمينه لا تنصرف إليه . وإن دخل دهليز دار أو صُفّتها , لم يحنث . وهو قول بعض أصحاب الشافعي . وقال أبو حنيفة يحنث ; لأن جميع الدار بيت . ولنا , أنه لا يسمى بيتا , ولهذا يقال : ما دخلت البيت , إنما وقفت في الصحن . وإن حلف لا يركب , فركب سفينة , فقال أبو الخطاب : يحنث ; لأنه ركوب , قال الله – تعالى : { اركبوا فيها بسم الله مجراها } . وقال : { فإذا ركبوا في الفلك } .
(2) وتتمة كلام ابن قدامة هنا في الضرب الثالث: وقال الشافعي : لا يحنث إلا بأكل رءوس بهيمة الأنعام دون غيرها , إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود , وتميز رءوسها , فيحنث بأكلها . وقال أبو حنيفة : لا يحنث بأكل رءوس الإبل ; لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة . وقال صاحباه : لا يحنث إلا بأكل رءوس الغنم ; لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها , فيمينه تنصرف إليها . ووجه الأول , أن هذه رءوس – حقيقة وعرفا – مأكولة , فحنث بأكلها , كما لو حلف لا يأكل لحما , فأكل من لحم النعام والزرافة , وما يندر وجوده وبيعه , ومن ذلك إذا حلف لا يأكل بيضا , حنث بأكل بيض كل حيوان , سواء كثر وجوده , كبيض الدجاج , أو قل وجوده كبيض النعام . وبهذا قال الشافعي . وقال أصحاب الرأي : لا يحنث بأكل بيض النعام . وقال أبو ثور : لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج , وما يباع في السوق . ولنا , أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا , وهو مأكول , فيحنث بأكله , كبيض الدجاج , ولأنه لو حلف لا يشرب ماء , فشرب ماء البحر , أو ماء نجسا , أو لا يأكل خبزا , فأكل الأرز أو الذرة , في مكان لا يعتاد أكله فيه , حنث . فأما إن أكل بيض السمك أو الجراد , فقال القاضي : يحنث ; لأنه بيض حيوان , أشبه بيض النعام . وقال أبو الخطاب : لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة . وهذا قول الشافعي , وأبي ثور , وأصحاب الرأي , وأكثر العلماء . وهو الصحيح ; لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض , ولا يذكر إلا مضافا إلى بائضه , ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير بيض الحيوان , ولا بأكل شيء يسمى رأسا غير رءوس الحيوان ; لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة , والله أعلم .