فوائد فقهية

هل تعلم أن الاحتكار قد يكون في كل شيء؟

حصر جمهور الفقهاء الاحتكار في مجال الأقوات فقط على تفصيل عندهم في ذلك(1)، وذهب مالك وأبو يوسف(2 ) إلى حرمة الاحتكار في كل شيء يضر بالناس، ورجح هذا الأخير كثيرٌ من المعاصرين كالدكتور القرضاوي(3 ) وفتحي الدريني(4 ) وأبو رخية( 5) ود.أحمد مصطفى عفيفي وغيره، ومما دفعهم إلى هذا الترجيح التغيرات الاقتصادية التي تحتم هذا القول “إذ لا يخفى على أحد قيمة الضرر الواقع على مريض من حبس الدواء النافع له عند حاجته إليه، فلا يصح أن يبقى التحريم قاصرا على الأشياء التي كانت شائعة قديما وتدع ما استجد به العصر بما أصبح من ضروريات الحياة كالطعام سواء بسواء. . . . هذا الواقع يقتضينا القول بحرمة الاحتكار في كل الأشياء التي يضر حبسها بالناس( 6).

بل إن د.الدريني ذهب إلى أبعد من ذلك فجعل الاحتكار حبس مال أو منفعة أو عمل مع شدة حاجة الناس إلى ذلك، فالاحتكار عنده يشمل ـ فضلا عن الغذاء ـ منافع وخبرات العمال وأهل المهن والحرف والصناعات إذا احتج إلى تلك المنافع( 7).

وأيدوا قولهم بعموم الأحاديث المحرمة للاحتكار مثل قوله عليه الصلاة والسلام: من احتكر فهو خاطئ. فترْك الحديث على عمومه وإطلاقه هو الذي”يناسب ما طرأ على الاحتكار من مستجدات ومتغيرات في العصر الحديث”(8)، قالوا” والتصريح بلفظ الطعام( 9) في بعض الروايات لا يصلح لتقييد بقية الروايات المطلقة، بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق”(10).

قال وليد: والواقع أن ما اختاره هؤلاء المعاصرون هو روح الشريعة وفحوى النصوص المحرمة للاحتكار، إذ فحواها أن الاحتكار فيه ضرر على الناس، فيستفاد منه حرمة الاحتكار في كل ما في حبس ضرر، وهذا هو مُدرَك أبي يوسف، وهذا المدرك لم يغب عن جمهور الفقهاء، غاية ما في الأمر أن الاحتكار في الأقوات كان أشد ضررا على الناس لذلك حصروه في الأقوات، وأما في عصرنا فالاحتكار قد يتضرر الناس منه في غير الأقوات كما سبق ذكره، فالقول بحرمة الاحتكار في كل ما يضر بالناس هو المتفق مع عموم النصوص وفحواها ومتغيرات عصرنا، والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1) وتفصيل ذلك أن الحنابلة ضيقوا دائرة الطعام الذي يأثم باحتكاره فقصروه على المقتات دون ما سواه من الحلوى والفواكه والعسل ونحوه، ووسع الشافعية مفهوم الاحتكار، فقالوا: يحرم الاحتكار في الأقوات وما يلحق بها كالفواكه واللحم ونحوه، ووسع أبو حنيفة ومحمد فذهبا إلى أن الاحتكار يدخل فيه أقوات الآدميين والبهائم أيضا، ووسع أبو يوسف أكثر فذهب إلى أنه يحرم الاحتكار في كل ما يضر بالعامة وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا. المغني لابن قدامة 4/244، الزواجر ص220، البدائع 5/129، فتح الباري 4/110.

(2 ) قال مالك في المدونة الكبرى (3/313): الحكرة في كل شيء في السوق من الطعام والزيت والكتان وجميع الأشياء والصوف وكل ما أضر بالسوق. وانظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (6/254)، تكملة شرح فتح القدير – (10/57) .

(3 ) انظر: الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، د. يوسف القرضاوي، ص27.

( 4) انظر: الفقه الإسلامي المقارن مع المذاهب للدريني ص90، مطبوعات جامعة دمشق، 1967م.

(5) بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة 2/462 د. ماجد أبو رخية وآخرون. ( 6) الاحتكار وموقف الشريعة الإسلامية منه في إطار العلاقات الاقتصادية المعاصرة ص149، د.أحمد مصطفى عفيفي، مكتبة وهبة بالقاهرة، ط1 2003م.

( 7) الفقه الإسلامي المقارن مع المذاهب ص91.

( 8) بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة 2/476.

(9 ) مثل حديث ابن ماجه (2155) : ” من احتكر على المسلمين طعامهم ابتلاه الله بالجذام أو بالإفلاس ” وسنده حسن كما قال الحافظ في فتح الباري (4/ 348)

( 10) بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة 2/467.

السابق
هل تعلم لم كانت العرب تسمي أبناءها بالأسد والحمار والجحش والكلب والثعلب وسائر الحيوانات؟!(اختيارات ابن دريد اللغوية)
التالي
هل تعلم ماذا قال مجنون ليلى حين طاف بالبيت العتيق؟