تنزيه الله عن المكان والجهة والحيز

[4] مناظرة في العلو، ودلالة قوله تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] عليه.

[4] مناظرة في العلو، ودلالة قوله تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] عليه*.
….وأما قولكم: ولا يمكن حَمْل الرفعِ في قوله تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] ونحوه على رفع الرتبة والمكانة؛ لأن ذلك يقتضي أن اللهَ رَفع عيسى عليه السلام إلى رتبته تعالى، أي رفعه من مرتبة النبوة إلى مرتبة الإلهية، وهذا عين ما تدعيه النصارى، وهو كفر بواح، والعياذ بالله.
وفي ذلك يقول أسامة القصاص ـ رحمه الله ـ في كتابه “إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين” ص133، ط/ جمعية إحياء التراث الإسلامي 1989م: ‘‘‘وقولكم باطل من وجه آخر، وهو أن المسألة لو كانت للمكانة والمرتبة لأصبح المعنى (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى مرتبتي ومكانتي) وهذا هو الكفر بعينه، فلو قلتموه أو نطقتم به لكنتم قرناء النصارى وأشياعهم، إذ كيف يُرفع مخلوق إلى مكانة ومرتبة الخالق!’’’
كذا قال، وقبل أن أجيب عليه، أود الإشارة إلى أن هذا الاعتراض الذي صاغه القصاص بما سبق، كنتُ صغتُ نحوه قبْلَ أن أطّلع على كلام القصاص هذا، وذلك في قولي السابق: ولا يمكن حَمْل الرفعِ … لأن ذلك يقتضي أن اللهَ رَفع عيسى عليه السلام إلى رتبته تعالى…الخ؛ وهذه الصياغة منّي كانت بعد تفكير طويل بوجه الدلالة من هذه الآية على مدّعى الخصم حين لم أجد في كتب القوم وجه الدلالة منها، فبحثت لهم عنها؛ وهذا كله من أجل إنصاف الخصم وبيان حجته بأقوى ما تكون قبل الرد عليها؛ ثم اطلعت على عين هذا الاعتراض من كلام الخصم نفسه كما سبق، فالحمد لله على ما رزقنا من نعمة الإنصاف.
والآن أجيب عن هذا الاعتراض الذي تبجّح به القصاص، وذلك من وجهين :
الوجه الأول هو: أننا نختار أن المسيح عليه السلام قد رُفع بجسده رفعا مكانيا إلى السماء كما سبق بيانه، فسقط الاعتراض؛ وإنما أضاف اللهُ رفع المسيح إليه عز وجل دون أن يضيفه إلى السماء لمزيد تشريف المسيح عليه السلام، ولبيان أنه رَفَعه إلى مكان لا يجري فيه إلا حُكمه تعالى، بخلاف الأرض التي يدّعي فيها كثير من الملوك أن لهم فيها حُكما ومُلكا، ومثل ذلك قوله تعالى: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، مع أن المُلك حقيقة لله وحده في الدارين، ولكن في الدنيا ثمة من يدعي المُلك، وأما في الآخرة فلا يدعي ذلك أحد قط؛ وسيأتي المزيد من البسط في هذا المقام.
ثانيا: إن إيرادكم هذا ليس واردا حتى ولو قيل بأن رفع المسيح ـ عليه السلام ـ إنما هو رفعٌ معنوي لا مكاني ـ مع أننا لا نختاره ـ إذ لا يلزم من الرفع المعنوي للمسيح عليه السلام أن الله رفعه إلى رتبته تعالى فصار إلها مثله ـ والعياذ بالله ـ وذلك لأن الرفع المعنوي الذي يتعدى بـ “إلى” لا يُقصد به رفعَ رتبةِ المرفوعِ إلى رتبة المرفوع إليه، وإنما يُقصد به أن المرفوع إليه ذو رتبة شريفة ومكانة سامقة عالية تشبيها بمن هو في مكان عال بحيث إنّ من يَقصده فإنه يحتاج أن يصعد إليه ويرتفع إليه بجسده.
فحين نقول مثلا: رُفع زيدٌ إلى القاضي أو إلى الأمير، فليس المقصود أنه رُفعتْ مرتبةُ زيدٍ إلى مرتبةِ القاضي ـ أو الأمير ـ فصارا سواءً، فهذا لا يتبادر إلى ذهن أحد، وإنما المقصود أن القاضي أو الأمير ذو مرتبة عالية أعلى من مرتبة المرفوع، وهو زيد؛ ومن هنا قول أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ للشيطان في حديث البخاري السابق: ” لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ…” فهو لبيان رِفعة رُتبة النبيِ صلى الله عليه وسلم لا لبيان رِفعة مكانة المرفوع ـ وهو الشيطان ـ فضلا عن أن يكون المراد رفْع رتبته إلى رتبة المرفوع إليه وهو النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يصيرا في مرتبة واحدة، والعياذ بالله.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، يقول العلامة ابن عاشور: “والصعود: الذهاب في مكان عال، والرفع: نقل الشيء من مكان إلى مكان أعلى منه، فالصعود مستعار للبلوغ إلى عظيم القدر وهو كناية عن القبول لديه، والرفع: حقيقة نقل الجسم من مقره إلى أعلى منه، وهو هنا كناية للقبول عند عظيم؛ لأن العظيم تتخيله التصورات رفيع المكان فيكون كل من (يصعد) و (يرفع) تابعتين لقرينة مكانية: بأن شبه جانب القبول عند الله- تعالى- بمكان مرتفع لا يصله إلا ما يصعد إليه “[1].اهـ
وعليه فلا يلزم مِن حَمْلِ قوله تعالى “بل رفعه الله إليه” على الرفع المعنوي أن عيسى صار بمرتبة الله كما زعم القصاص،وإنما الرفع في الآية يشير إلى أن المرفوع إليه وهو الله عَليُّ الشأن رفيعُ الدرجاتِ ذو الرتبة الأعلى، وأن المرفوع وهو المسيح عيسى عليه السلام أدنى رتبة من الذي رفعه وهو الله عز وجل.
فإن قيل: إن هذا تحصيل حاصل؛ فأين مرتبة الخالق من مرتبة المخلوق؛ فمهما علت مرتبة المخلوق حتى ولو كان مَلَكا أو رسولا وأوتي من المعجزات العجيبة فلا شك أن الخالق أعلى رتبة منه قطعا؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]؛ وعليه فلا فائدة مما تدّعُون أن الآية أشارت إلى أن رتبة الله أعلى من رتبة المسيح عليه السلام، فهذا لا نزاع فيه أصلا، وهو مقرر سلفًا عند الجميع، ومعلوم قطعا وإن لم تُشِر إليه الآية.
وهذا الاعتراض صاغ نحوَه ابنُ أبي العز في آية أخرى في الباب، وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] فقال في شرح الطحاوية، ت الأرناؤوط (2/ 387): ومن تأوّل ” فوق “، بأنه خير من عباده وأفضل منهم، … كما يقال: الأمير فوق الوزير… فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء: الله خير من عباده، وخير من عرشه: من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة …. وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام …إلى أن يقول: ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك! لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم[2]….اهـ
قلنا: ومن قال لكم إن هذا لا نزاع فيه؟ ألا ترون أن النصارى ينازعون في ذلك؟ ويزعمون أن المسيح إله خالق مثل الله؛ لأنه ـ بزعمهم ـ إله ابن إله؛ لاسيما بعد أن فُتنوا بمعجزاته التي تضمنتْ الخَلقَ وإحياءَ الموتى وإبراءَ الأكمة والأبرص ونحو ذلك مما لا يستطيعه بشر….
وتارة زعموا أن المسيح هو الله نفسه، وتارة زعموا أن الله ثالث ثلاثة؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ وهذا كله حكاه الله عنهم وكَفّرهم به فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [المائدة: 73]، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
فهذا كله يقتضي التصريح فضلا عن الإشارة إلى رفعة رتبة الله سبحانه عن مرتبة المسيح عليه السلام وذلك للرد على النصارى الذين جعلوا المسيح برتبة الله، وقد أقر ابن أبي العز الإخبارَ بنحو ذلك في مقام الرد فقال بعد كلامه السابق في شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (2/ 388): بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجا على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]…إلخ؛ كما سبق في الحاشية أدناه.
والحاصل أن تفسير الرفع بالرفع المعنوي لا يلزم منه ما ادعاه القصاص من أنه يقتضي رفع رتبة المسيح إلى رتبة الله في الألوهية؛ بل رأينا أنه يشير إلى خلاف ذلك وهو رفعة رتبة الله عن رتبة المسيح ردا على النصارى الذين ساووا بينهما؛ والعياذ بالله؛ فبطل تشنيع القصاص، والحمد لله.
وأما قولكم بأن ” حديث الإسراء وما جاء فيه من أن المسيح عليه السلام في السماء الثانية ينافي حَمْل الرفعَ في الآية على الرفع المعنوي، ويُحتّم أن معنى الآية هو: بل رفعه الله إليه في السماء، فيتحصل أن الله في السماء التي هي جهة العلو، وهو المطلوب”
فالجواب: ….. انتظره
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=324461607730438&set=gm.743435912390653&type=1
[1] التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور 22/ 130 – مؤسسة التاريخ العربي، بيروت. ط1420هـ/2000م.
[2] ثم رَدَّ ابنُ أبي العز على نفسه فقال بعد ذلك: بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجا على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]، وقوله تعالى: {آلله خير أما يشركون} [النمل: 59] . {والله خير وأبقى} [طه: 73] .اهـ
قال وليد: ففي هذه الآيات الثلاثة الأخيرة ـ وغيرها ـ ردٌ على ما زعمه ابن أبي العز من أنه يَقْبُح القولُ ابتداءً بأن الله خيرٌ من عباده، ونحو ذلك من العبارات؛ بل هذه الآيات فيها أشد من ذلك، إذ فيها الإخبار أن الله خير من الحجارة التي هي أصنام المشركين وذلك في قوله تعالى:{آلله خير أما يشركون} [النمل: 59]….!!!
وما زعمه من أنه إنما لم يَقْبح هذا في الآيات الثلاثة الأخيرة بحجة أنها كانت لمحاجّة المبطلين والرد على المنكرين….فيُردّ عليه بأن سورة الأنعام ـ التي وَرَد فيها قوله تعالى ” وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ” في موضعين منها: الآية 18، و61 ـ هي كلها برمتها في مقام الرد على المشركين؛ جاء في تفسير القرطبي (6/ 383) في أول تفسير سورة الأنعام: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذّب بالبعث والنشور.اهـ
وعليه فلماذا لا يكون قوله تعالى “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ” في الموضعين من باب الرد على المشركين الذين كانوا يساوون بين الله وبين الحجارة التي كانوا يعبدونها، كما قال تعالى عنهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]؟!!!
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإنه لا يصح القياس بين قول القائل: الثلج بارد، والنار حارة، والجوهر فوق قشر البصل….ونحو ذلك؛ وبين قول القائل:” الله خير من عباده، وخير من عرشه “؛ للفارق بين كليهما، فإن الأول بأمثلته الثلاثة أمرٌ محسوس لا ينكره العقلاء … اللهم إلا من أنكر حجية الحواس من السُفسطائية، وهؤلاء ليسوا عقلاء أصلا…
وأما الثاني وهو قوله: “الله خير من عباده، وخير من عرشه”؛ فهذا من الغيبيّات التي ربما ينكرها كثير من العقلاء لاسيما ممن أنكر وجود الله أصلا؛ فلذلك يحسن الإخبار بها بخلاف الأولى؛ لا سيما إذا كان الإخبار لغرض مناسبٍ للمقام أعمِّ من أن يكون ردا على مُنكِر.
ثم كيف يشمئز قلبُ ابنِ أبي العز وينفر عقله من قول القائل: الله خير من عباده، وخير من عرشه؛ ولا ينفر من قول القائل: أن الله جالس على عرشه أو مستقر عليه أو مماس له ….!!! ثم ما وجه المدح بجلوس الإله على العرش؟!!!! ولا يتسع المقام هنا لبسط الرد على ابن أبي العز بأكثر من ذلك، وربما نبسطه في موضع آخر إن شاء الله.

https://www.facebook.com/groups/202140309853552/posts/756202934447284/

السابق
بين المنزهة والمشبهة.. صفة الحي والحياة نموذجا/ منقول
التالي
جواز إفراد صيام يوم عرفة إذا صادف يوم الجمعة عند المذاهب الأربعة