ثانيا: ما ادعاه الألباني أن في الحديث حذف مضاف، فالجواب عنه: أن حذف المضاف هو أحد أنواع المجاز، والألباني وابن تيمية وابن القيم وشيعتهم أنكروا على الأشاعرة والماتريدية وجماهير الأمة ادعاء المجاز في آيات وأحاديث الصفات المتشابهة، مثل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر : 22] ، ومثل قوله في حديث أبي هريرة مرفوعا: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له ..)[1]، فقد حمل كثير من العلماء[2] على حذف المضاف فالأول قالوا تقديره وجاء أمر ربك وسلطانه أو ثوابه وعقابه[3]، والثاني قالوا تقديره تنزل رحمته[4] أو تنزل ملائكته[5]، فأنكر ابن تيمية ومن معه ذلك وقالوا هذا من باب:”باب تحريف الكلم عن مواضعه ، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية ، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمة”([6]).
بل إن ابن تيمية وابن القيم والألباني لم يتركوا شتيمة ولا نقيصة إلا وألصقوها بمن تأول المجيء والنزول وجَعَلهما من باب حذف المضاف، ولنستمع إلى ابن القيم وهو يقول عن التأويل أنه “أصل خراب الدين والدنيا، فما اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل، وما تأخر الصحابة يوم الحديبية عن موافقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى اشتد غضبه إلا بالتأويل، وأعداء الإسلام سلطوا علينا بالتأويل، ودماء المسلمين إنما أريقت بالتأويل؛ وما سلط سيوف التتار على ديار الإسلام غيرُ التأويل” ([7])
ثم راح يبيّن ابن القيم أن افتراق اليهود والنصارى وإنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وما وقع في صفين والجمل وما أريق من دماء وما جرى من كفر على وجه المعمورة كله سبب التأويل.
وأما الألباني فقد تحدث في غير كتاب له عن مضار التأويل وفظاعته وما يجر من مفاسد، وأنه من كيد الشيطان وإغوائه، وأنه يفتح الباب على مصراعيه للباطنية والقرامطة والملاحدة على تأويل الجنة والنار والرسول والله وكلِ شيء ثابت قطعا في الشريعة، وأن الأشاعرة ليس لها الحق بأن تعترض على هؤلاء الملاحدة وغيره طالما ارتكبت التأويل في آيات الصفات ..إلى آخر تلك التشنيعات([8]).
كل هذا لأن الأشاعرة وغيرهم من العلماء حملوا النزول والمجيء على حذف المضاف، ولكن هذا الذي أنكروه على الأشاعرة وقعوا في عينه في حديث الأعمى هنا، حيث حمله ابن تيمية والألباني على حذف المضاف؛ حيث ذكر الألباني أن قوله “يا محمد إني توجهت بك” أي بدعائك، من باب حذف المضاف([9]) كما سبق نقله.
إذن فما أنكروه على غيرهم وقعوا فيه[10]، بل في أشد منه؛ لأننا وإن كنا تأولنا النزول والمجيء وحملناهما على حذف المضاف كما سبق، إلا أننا لم نوجب على الناس تأويلهما، وإنما غاية أمرنا أننا أجزنا التأويل فيهما لتوفر شروطه، وأما الألباني ومن معه فظاهر صنيعهم أنهم يوجبون تأويل حديث الأعمى مع عدم تحقق شروط التأويل فيه كما وضحناه في موضعه[11]، واعتبروا من يأخذ بظاهر حديث الأعمى مبتدعا عندهم؛ فإذن أئمة السلفية[12] لم يرتكبوا التأويل الذي أرجعوا سبب خسران الدنيا والآخرة إليه فحسب، وإنما أوجبوه وبدّعوا من لم يقل به، وهذا المبلغ لم يبلغه المؤولة الذين ينكرون عليهم التأويل، فيا عجبا، كيف صار تأويلُ الألباني واجبٌ، وترْكه بدعة، وأما تأويل غيره فهو محرم وفاعله مبتدع ضال! فتأمل هذا الاضطراب، وسل الله العافية.!!
فإن تراجعوا وقالوا: نحن لا نوجب تأويل حديث الأعمى ولا نبدّع من يأخذ به، وإنما هذا قولنا وما ترجح عندنا، ولا بأس على من أخذ بظاهر حديث الأعمى ودعا بذلك الدعاء عند الحاجة، ولا إنكار عليه، وإن كنا نرى ذلك مكروها وتركه أولى.
فحينئذ نقول: بارك الله فيكم، هذا غاية ما نطمح إليه، وهو أن تعتبروا المسألة خلافية فيها قولان، لا تثريب على من أخذ بأحدهما دون تضليل الآخر، وبذلك يلتئم شملُ الأمة ما أمكن والحمد لله رب العالمين.
ثالثا: ……انتظره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري (1094)، أبواب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل؛ ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل رقم 758.
[2] وعلى رأسهم الإمام أحمد ابن حنبل؛ قال ابن كثير: روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: (وجاء ربك) [ الفجر: 22 ] أنه جاء ثوابه.ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه. انظر: البداية والنهاية – (10 / 361) ط/ دار إحياء التراث العربي. وقد تنكر لهذا التأويل ابنُ تيمية في مجموع الفتاوى – (5 / 399) وراح يلتف حوله بما لا مجال لذكره ومناقشته، ولكن انظر كتاب: أهل السنة الأشاعرة لفوزي العنجري ورفاقه ص237.
[3] انظر: الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، ط/ الرسالة – (22 / 281)، تفسير البحر المحيط لأبي حيان (8 / 466)، وانظر المزيد من نصوص العلماء في: إتحاف الكائنات للشيخ خطاب السبكي ص176 إلى ص236.
[4] وهذا التأويل منقول عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس، كما قال ذلك النووي وغيره. انظر: شرح النووي على مسلم – (6 / 37). إلا أن الذهبي شكك في ثبوت ذلك عن مالك، قال: لأن مذهب مالك هو إمرار أحاديث الصفات بلا تفسير، وإن ثبت عنه ذلك فيكون له قولان. انظر: سير أعلام النبلاء – (8 / 105)، وعلى كل فكثير من العلماء على هذا التأويل لدلالة سياق الحديث عليه. انظر إتحاف الكائنات للشيخ خطاب السبكي ص193.
[5] قال الحافظ: ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له. انظر: فتح الباري (3 / 30)
([6]) مجموع الفتاوى لابن تيمية 4/69، وانظر 3/67.
([7]) باختصار من أعلام الموقعين: 4/317-319.
([8]) انظر ذلك في: مختصر العلو للألباني ص 23، وص33، وما بعدها
([9]) التوسل للألباني ( 74، 75)
[10] فإن قالوا: تأويل حديث الأعمى دل عليه السياق، بخلاف النزول والمجيء. قلنا: وكذلك حديث النزول دل السياق على أن المقصود نزول الرحمة، وآية المجيء دل السياق على أن المقصود مجيء أمر الله بالحساب ونحو ذلك من أهوال يوم القيامة. انظر: إتحاف الكائنات للسبكي ص181،194.
[11] وبذلك يعلم الجواب عما قد يقال : لم أجزتم التأويل في آية المجيء وحديث النزول وحملتم ذلك على حذف المضاف، وأبيتم ذلك في حديث الأعمى؟
[12] ولكن للإنصاف ليس كلهم كذلك في هذه المسألة، فابن عبد الوهاب يرى مسألة التوسل هذه مسألة خلافية، ويختار الكراهة فحسب كما سبق.