وقال الشيخ الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 15) تحت عنوان ” القرآن في الاصطلاح”: معلوم أن القرآن كلام الله، وأن كلام الله غيرُ كلامِ البشر، ما في ذلك ريب، ومعلوم أيضا أن الإنسان له كلام، قد يراد به المعنى المصدري أي التكلّم، وقد يراد به المعنى الحاصل بالمصدر أي المتَكَلَّم به.
وكل من هذين المعنيين لفظي ونفسي؛ فالكلام البشري اللفظي بالمعنى المصدري: هو تحريك الإنسان للسانه وما يساعده في إخراج الحروف من المخارج.
والكلام اللفظي بالمعنى الحاصل بالمصدر: هو تلك الكلمات المنطوقة التي هي كيفيّة في الصوت الحسي، وكلا هذين ظاهر لا يحتاج إلى توضيح.
أما الكلام النفسي[2] بالمعنى المصدري فهو تحضير الإنسان في نفسه بقوته المتكلمة الباطنة للكلمات التي لم تبرز إلى الجوارح فيتكلم بكلمات متخيَّلةٍ يُرتبها في الذهن بحيث إذا تلفظ بها بصوت حسي كانت طبق كلماته اللفظية. والكلام النفسي بالمعنى الحاصل بالمصدر: هو تلك الكلمات النفسية والألفاظ الذهنية المترتبة ترتبا ذهنيا منطبقا عليه الترتب الخارجي.
ومن الكلام البشري النفسي بنوعيه قوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً}؛ ومنه الحديث الشريف الذي رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل فقال” إني لَأُحدِّثُ نفسي بالشيء لو تكلمتُ به لأحبطت أجري” فقال عليه السلام: “لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن”[3].
فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى ذلك الشيء الذي تحدثت به النفس كلاما مع أنه كلمات ذهنية لم ينطق بها الرجل مخافة أن يحبط بها أجره؛ وهذا الإطلاق من الرسول يُحمل على الحقيقة لأنها الأصل ولا صارف عنها. كذلكم القرآن كلام الله، ولله المثل الأعلى؛ قد يُطلق ويراد به الكلام النفسي، وقد يطلق ويراد به الكلام اللفظي، والذين يُطلقونه إطلاقَ الكلام النفسي هم المتكلمون فحسب، لأنهم المتحدثون عن صفات الله تعالى النفسية من ناحية والمقررون لحقيقة أن القرآن كلام الله غير مخلوق من ناحية أخرى.
أما الذين يطلقونه إطلاقَ الكلام اللفظي؛ فالأصوليون والفقهاء وعلماء العربية وإن شاركهم فيه المتكلمون أيضا بإطلاق ثالث عندهم كما يتبين لك بعد. وإنما عني الأصوليون والفقهاء بإطلاق القرآن على الكلام اللفظي لأن غرضهم الاستدلال على الأحكام، وهو لا يكون إلا بالألفاظ؛ وكذلك علماء العربية يعنيهم أمر الإعجاز فلا جرم كانت وجهتهم الألفاظ.
والمتكلمون يعنون أيضا بتقرير وجوب الإيمان بكتب الله المنزلة ومنها القرآن وبإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن؛ وبدهي أن ذلك كله مناطه الألفاظ فلا بدع أن ساهموا في هذا الإطلاق الثالث.
القرآن عند المتكلمين
ثم إن المتكلمين حين يُطلقونه على الكلام النفسي يلاحظون أمرين:أحدهما: أن القرآن عَلَمٌ، أي كلام ممتازٌ عن كل ما عداه من الكلام الإلهي.
ثانيهما: أنه كلام الله، وكلام الله قديمٌ غيرُ مخلوق، فيجب تنزهه عن الحوادث وأعراض الحوادث.وقد علمتَ أن الكلام النفسي البشري يُطلق بإطلاقين أحدهما: على المعنى المصدري، وثانيهما على المعنى الحاصل بالمصدر؛ فكذلك كلام الله النفسي، يُطلق بإطلاقين أحدهما على نظير المعنى المصدري للبشر؛ وثانيهما على نظير المعنى الحاصل بالمصدر للبشر. وإنما قلنا “على نظير” لِما هو مقرر من وجوب تنزه الكلام الإلهي النفسي عن الخَلق وأشباه الخلق؛ فعرّفوه بالمعنى الأول الشبيه بالمعنى المصدري البشري.
وقالوا: إنه الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الحُكمية، من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس.وهذه الكلمات أزلية مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية، وهي مترتبة غير متعاقبة، كالصورة تنطبع في المرآة مترتبة غير متعاقبة.
وقالوا: في تعريفهم هذا: إنها حُكمية؛ لأنها ليست ألفاظا حقيقية مصورة بصورة الحروف والأصوات. وقالوا: إنها أزلية ليثبتوا لها معنى القدم.وقالوا: إنها مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية، لينفوا عنها أنها مخلوقة. وكذلك قالوا: إنها غير متعاقبة لأن التعاقب يستلزم الزمان، والزمان حادث. وأثبتوا لها الترتب ضرورةَ أن القرآن حقيقةٌ مترتبةٌ بل ممتازة بكمال ترتبها وانسجامها.إذا عرفت هذا الإطلاق الأول عند المتكلمين سَهُل عليك أن تعرف إطلاقهم الثاني للقرآن الكريم: وهو أنه تلك الكلمات الحكمية الأزلية المترتبة في غير تعاقبٍ، المجردةُ عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية. وهو تعريف للقرآن كلام الله بما يشبه المعنى الحاصل بالمصدر لكلام البشر النفسي. ذانك إطلاقان اختص بهما المتكلمون كما رأيت.
وهناك إطلاق ثالث للقرآن يقول به المتكلمون أيضا لكن يشاركهم فيه الأصوليون والفقهاء وعلماء العربية.ذلك أنه هو: اللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس الممتاز بخصائصه التي سنذكرها بعد قليل.فهو مظاهر وصور لتلك الكلمات الحُكمية الأزلية التي أشرنا إليها آنفا.
ويطلق القرآنُ إطلاقا رابعا على النقوش المرقومة بين دفتي المصحف باعتبار أن النقوش دالة على الصفة القديمة والكلمات الغيبية واللفظ المنزل. وهذا إطلاق شرعي عام.
ولنضرب لك مثلا يوضح ذلك المقام الذي ضلت فيه الأفهام وزلت فيه الأقدام.رجل شاعر كشرف الدين البوصيري رحمه الله لا ريب أنه كان يَحمل في نفسه قوة شاعرة يستطيع أن يصوغ بها ما شاء من غُرر القصائدِ وعندما اتجهت شاعريته فعلا أن يمتدح أفضلَ الخليقةِ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بقصيدته المعروفة بالهمزية لا شك أنه عالج النظمَ في نفسه واستحضر المعانيَ والألفاظ والأوزان حتى تمثّل له ذلك القصيد في نفسه وتأثرت نفسُه به على وجه إذا تكلم به بصوت حسي كان عينَ نظمه المقفى الموزون؛ ثم لا شك أنه نطق بقصيده بعد ثم كتبه بعد أن أنشده. فهذا الاسم الشهير بالهمزية في مدح خير البرية يمكن أن نُقرِّب به الإطلاقات الأربعة التي أطلقنا بها القرآن الكريم؛ [فـ] يصح أن نطلق الهمزية على القوة الشاعرة لذلك الرجل باعتبار اتجاهها إلى هذا النظم الخاص الذي تمثل في نفسه من قبل أن يأخذ صورة اللفظ والنقش. ويصح أن نطلقها على هذا النظم الخاص الذي تمثل في نفسه من قبل أن يظهر بمظهر الألفاظ والنقوش كذلك. ويصح أن نطلقها على هذا النظم بعد أن تمثل أصواتا ملفوظة وحروفا موزونة. ويصح أن نطلقها على هذا النظم متمثلا في صورته المرسومة ونقوشه المكتوبة… أظنُنِي قد أطلتُ عليك، ولكن المقام دقيق وخطير فلا تضق ذرعا بهذا التطويل والتمثيل .انتهى كلام الزرقاني.
قال وليد: وهذا تحقيق نفيسٌ، صوّر فيه الكلامَ النفسي وأجاد فيه …وفضلا عن ذلك فقد أماط به اللثامَ عن اللَبس الواقع ثمة….فقد قسّم الكلامَ إلى لفظي ونفسي؛ وكل منهما إلى مصدري، وإلى الحاصل بالمصدر؛ وهذه الأقسام الأربعة يتصف بها البشر؛ ثم بيّنها وصوّرها ومثّل لها… ثم بيّن أن كلامَ الله يُطلق بهذه الإطلاقات جميعها سوى الكلام اللفظي بالمعنى المصدري، بمعنى أن الله لا يتلفظ بالكلام تلفظا، وأما إطلاق كلام الله على الكلام اللفظي بنظير المعنى الناتج عن المصدر فصحيح، فالقرآن الكريم بألفاظه كلام الله قطعا. كما بيّن أن هذه التقسيمات أو الإطلاقات الثلاثة لكلام الله يختلف اهتمامُ العلماء بها، من اختصاص إلى آخر، فالأصوليون والفقهاء ـ وكذا البلاغيون والمفسّرون ـ يهتمون بالإطلاق اللفظي على كلام الله، وهو القرآن ذو الألفاظ، لأن محل اختصاصهم هو هذه الألفاظ المتلوة والمسموعة وليس الكلام النفسي؛ وأما المتكلمون فيهتمون بالإطلاق النفسي ـ بمعنييه المصدري والناتج عن المصدر[4] ـ على كلام الله؛ لأن اختصاصهم هو البحث في صفات الله، والكلام بالمعنى النفسي هو صفة لله، لا بالمعنى اللفظي؛ لقِدَم الأول وحدوث الثاني كما هو معلوم؛ وإن كان المتكلمون يشاركون الأصوليين ومن معهم بأن القرآن يُطلق على الألفاظ المتلوة أيضا وذلك حين يقرر المتكلمون “وجوب الإيمان بكتب الله المنزلة ومنها القرآن وبإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن، وبدهي أن ذلك كله مناطه الألفاظ ” كما قال الزرقاني آنفا؛ كما بيّن الزرقاني أيضا أن كلام الله يُطلق بإطلاق آخر على المكتوب في المصاحف أيضا.وهذا تحرير فريد وتحقيق نجيب للشيخ الزُّرقاني رحمه الله، لولا أن العلامة الألوسي رحمه الله سَبقه إلى ذلك في مقدمة تفسيره روح المعاني، لذلك سوف نعرض لكلامه لنفاسته أيضا…..وانظر اللاحق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/804173099696714/.
كتبه وليد ابن الصلاح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/804703972930513/
[2] أي الكلام النفسي للإنسان.
[3] قال وليد : جاء في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ت حسين أسد (1/ 260): وَعَن أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتِ النَبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أحَدِّثُ نَفْسِيَ بِالشَيْءِ لَوْ تَكَلَّمْتُ بِهِ، لأُحْبِطَتْ آخِرَتِي، فَقَالَ: “لاَ يُلَقَّى ذَلِكَ الْكَلاَمَ إلاَّ مُؤْمِنٌ”.اهـ قال حسين أسد في حاشيته هنا: أخرجه الطبراني في الأوسط -مجمع البحرين ص (11) – وفي الصغير 1/ 129 من طريق الحسن بن حُبَاش الحماني الكوفي، حدثنا محمد بن عبد الحميد العطار الكوفي، حدثنا سيف بن عميرة، عن أبان بن تغلب؛ حدثنا سماك بن حرب، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة … ونسبه التقي الهندي في الكنز 1/ 250 برقم (1260) إلى الطبراني في الأوسط.وقال الطبراني: “لم يروه عن أبان إلا سيف بن عميرة، ولا يروى عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد”.نقول: الحسن بن حباش بن يحيى الكوفي، قال محمد بن أحمد بن حماد بن سفيان: “سنة ثلاث وثلاث مئة فيها مات الحسن بن حباش بن يحيى الدهقان، وكان الكلام فيه كثيراً، وكان في الظاهر يظهر الأمانة، وكان يرمُى بغير ذلك في الدين بأمر عظيم”.وانظر تاريخ بغداد 7/ 302 – 304، والمؤتلف والمختلف للدارقطني 2/ 702، والإكمال 2/ 345، والمشتبه 1/ 207.وباقي رجاله ثقات، محمد بن عبد الحميد العطار وثقه ابن حبان 9/ 80.
[4] مع التنبيه على أن هذين المعنيين الثابتين لله هما على نظير الثابتين للإنسان لما قاله الزرقاني آنفا: ” وإنما قلنا على نظير لما هو مقرر من وجوب تنزه الكلام الإلهي النفسي عن الخَلق وأشباه الخلق”.اهـ