هل يتكلم الله بحرف وصوت

(1) “محاسن الكلام في صفة الكلام”/ علل أحاديث الصوت

(1) “محاسن الكلام في صفة الكلام”
 الحمد لله الذي أنزل أحسن الكلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه الكرام.
وبعدُ، فهذه رسالة فيها تحقيق القول في صفة الكلام لله عز وجل، وبسْط ما فيها من مسائل كثيرة وتفصيلات دقيقة وخلافات مستحكمة، مع الاستدلال والمناقشة والترجيح، كل ذلك مع الإنصاف ـ إن شاء الله ـ والبعد عن الإجحاف، وقد سميتها ” محاسن الكلام في صفة الكلام ” سائلا الله أن يسدد قولي، ويعصمني من الزلل، وأن يبعدني عن الهوى والخطَل، وأن يجعلها خالصة لوجهه تعالى؛ وقد جاءت في فصول عدة، وإليك أول هذه الفصول.
الفصل الأول: هل كلام الله حرف وصوت؟
ذهب جماهير العلماء من أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية إلى أن الله يتكلم بكلام قديم ليس بحرف ولا صوت، وقد نقلنا بعض النصوص في ذلك في المنشور السابق.
وذهب بعض الحنابلة وبعض المُحدّثين إلى أن الله يتكلم بحرف وصوت، وهذا ما اختاره ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وأطال في الاستدلال له بأدلة كثيرة من المعقول والمنقول، وشنّع على الجمهور لعدم إثباتهم الحرف والصوت لله.
وهذه سرد لأهم أدلة ابن تيمية وأقواها مع مناقشتها والجواب عنها:
الدليل الأول: حديث “فينادى بصوت”
إن أقوى ما استدل به ابن تيمية على أن الله يتكلم بصوت هو حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري وفيه “فينادى بصوت”، وإليك أولا الحديث مسندا:
قال البخاري في صحيحه: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال النبي صلى الله عليه و سلم: ( يقول الله عز و جل يوم القيامة يا آدم يقول لبيك ربنا وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال يارب وما بعث النار ؟ قال من كل ألف – أراه قال – تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) [1].
وجه الدلالة: : “والحديث يدل على أنه المتكلم بصوت هو الله إذ أن الفعل النداء [2] لم يذكر فاعله واستتاره إنما حصل لقرب العهد بالفاعل وهو الله عز وجل” [3].اهـ
والجواب على الحديث من وجوه:
الوجه الأول: أن جملة “فينادى بصوت” قد أعلّها بعض الحفاظ، من حيث انفرد بها حفصُ بن غياث عن الأعمش، مخالفا لسائر أصحاب الأعمش الذين رووا الحديث من غير هذه الجملة أو الزيادة، أضف إلى ذلك أن حفصا هذا مع أنه ثقة حافظ، إلا أنه تغيّر حفظه قليلا آخر عمره؛ هذا ملخص الكلام في هذا المقام، وإليك التفصيل.
نبدأ أولا بسرد روايات أصحاب الأعمش سوى حفص للحديث:
أولا: رواية جَرير بن عبد الحميد بن قُرط الضّبّيّ (ت 188هـ).
قال البخاري في صحيحه: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: يَقُولُ اللَّهُ : ” يَا آدَمُ “، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ : يَقُولُ : ” أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ “، قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: ” مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ “.
وقال مسلم في صحيحه: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ” يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ : يَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ،
ثانيا: رواية أبي أسامة حماد بن أسامة القرشي (ت 201 هـ)
وقال البخاري في صحيحه أيضا: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ الْأَعْمَشِ ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : ” يَا آدَمُ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ..
ثالثا: رواية وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي (ت 196هـ)
وقال أحمد في مسنده: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : ” يَا آدَمُ ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ ….
وقال الحاكم في المستدرك: …. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ ، ثنا وَكِيعٌ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : ” يَقُولُ اللَّهُ : يَا آدَمُ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ : يَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ ” .
وقال أبو عوانة في مستخرجه: وَحَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ …. قَالَ : ثنا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ: ” يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ : فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟
رابعا: رواية محمد بن خازم التميمي السعدي أبي معاوية الضرير الكوفي (ت 195 هـ)
قال أبو نعيم في المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم – (1 / 288): …. ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية ووكيع ثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله عز وجل: يا آدم قم فابعث بعث النار قال فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك يارب وما بعث النار.
وقال ابن مندة في الإيمان: ….. ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ” يَقُولُ اللَّهُ لآدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ …..الحديث.
وقد أشار الإمام مسلم في صحيحه إلى رواية وكيع وأبي معاوية فقال بعد أن روى الحديث من رواية جرير الضبي كما سبق : “حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع ح وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية كلاهما عن الأعمش بهذا الإسناد غير أنهما قالا ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء …”
والحاصل أن الحديث رواه جرير الضبي عند الشيخين، وأبو أسامة حماد بن أسامة القرشي عند البخاري، ووكيع بن الجراح عند مسلم وأحمد والحاكم وأبي عوانة في مستخرجه والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 553)، وأبو معاوية محمد بن خازم الأعمى عند مسلم وأبي نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم وعند ابن مندة في الإيمان ، كلهم رووه عن الأعمش من غير زيادة “فينادي بصوت”.
ورواه حفص بن غياث عن الأعمش بهذه الزيادة عند البخاري، فيكون حفص قد خالف أربعة من الرواة وهم جرير وأبو أسامة ووكيع وأبو معاوية، فضلا عن آخرين [4]، وهؤلاء الرواة الأربعة ثقات أثبات وحُفاظ وقد أوردهم الذهبي في كتابه تذكرة الحفاظ، وأبو معاوية لازم الأعمش عشرين سنة كما قال أبو زرعة الدمشقي [5]، وروى عباس الدوري عن يحيى بن معين قال أبو معاوية الضرير: حفظت من الاعمش الفا وست مئة فمرضت مرضة فذهب عني منها اربع مئة فكان عند أبي معاوية الف ومئتين؛ قال يحيى وكان عند وكيع عن الاعمش ثماني مئة، قلت ليحيى كان ابو معاوية احسنهم حديثا عن الاعمش؟! قال: كانت الاحاديث الكبار العالية عنده [6].
ومرة جاء أبو معاوية حتى جلس في مجلس شعبة فرفع رأسه فقال من هذا انظروا فإذا هو أبو معاوية فقال يا أبا معاوية سمعت حديث كذا وكذا من الأعمش قال نعم قال شعبة هذا صاحب الأعمش فاعرفوه [7].
وقد فضّله ابن معين على حفص، فقال أبو بكر بن أبي خيثمة قيل ليحيى بن معين أيهما أحب إليك في الأعمش عيسى بن يونس أو حفص بن غياث أو أبو معاوية، قال: أبو معاوية [8].اهـ
وقال الحافظ في التقريب عن أبي معاوية: ثقة ، قد رُمي بالإرجاء، أحفظ الناس لحديث الأعمش، قد يهم في حديث غيره.اهـ
فإن قلت: ولكن بعض الحفاظ اعتبر حفصا ….. انتظره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ووهم ابن تيمية في تخريجه، فنسبه للشيخين البخاري ومسلم، وأقر الألباني بهذا الوهم، لأن الحديث بزيادة حفص هو من أفراد البخاري كما أقر ابن تيمية نفسه بذلك في بعض المواضع، وإليك نصوص ابن تيمية في ذلك:
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى – (33 / 174): مثل ما خرجا في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من { أن الله ينادي آدم بصوت }.اهـ قال وليد: وهذا رواية للحديث بالمعنى من ابن تيمية فضلا عن الوهم في التخريج.
وقال في مجموع الفتاوى – (3 / 139): وقوله صلى الله عليه وسلم ” { يقول الله تعالى : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار } متفق عليه . وجاء في مجموع الفتاوى – (3 / 170): ولما جاء حديث أبى سعيد – المتفق عليه في الصحيحين عن النبي يقول الله يوم القيامة : ” { يا آدم فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار } الحديث – سألهم الأمير هل هذا الحديث صحيح ؟ فقلت : نعم . هو في الصحيحين ولم يخالف في ذلك أحد واحتاج المنازع إلى الإقرار به ووافق الجماعة على ذلك . ولكن جاء في الفتاوى الكبرى – (6 / 471): مثل ما أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار}.
ومع كل ذلك أصرّ بعض السلفية على أن الحديث عند الشيخين، فقال في مقال طويل مخصص لهذا الحديث: ” والحديث اتفق عليه الشيخان”، انظر: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-77810.html
[2] كذا، والصواب: فعل النداء، لأن المضاف يجرد من أل التعريف.
[3] انظر: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-77810.html
[4]منهم يحيى بن عيسى التميمي عند الطبري في تهذيب الآثار [ رقم (2428)- [713] حسب ترقيم برنامج جوامع الكلم لشركة أفق]، ويحيى هذا قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطىء ورمي بالتشيع.
ومنهم محاضر بن المورع عند عبد بن حميد في مسنده حيث قال: حَدَّثَنِي مُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ به ” يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَا آدَمُ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ : ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟…..” الحديث، ومحاضر هذا قال عنه في التقريب: صدوق له أوهام.
ومنهم المسعودي أيضا، قال الطبري في تهذيب الآثار: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ : ” يُقَالُ لآدَمَ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ : فَيَقُولُ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ ….الحديث.
ولكن إبراهيم المسعودي: مجهول، لذلك لم نذكر هذا المتابع في المتن، ولكن مما يستأنس به، فإنه وافق الثقات.
[5]تهذيب الكمال (25/ 131).
[6] تهذيب الكمال (25/ 130)
[7] تهذيب الكمال (25/ 131)
[8] تهذيب الكمال (25/ 129)
***************************************************************************************
(2) محاسن الكلام في صفة الكلام*
(الكلام على حديث أبي سعيد الخدري وزيادة حفص بن غياث فيه “فينادي بصوت”)
……فإن قلتَ: ولكن بعض الحفاظ اعتبر حفص بن غياث ـ الذي تفرد برواية زيادة “فينادي بصوت” عن الأعمش ـ من أحفظ الناس لحديث الأعمش فقد جاء في تهذيب الكمال (7/ 62): قال أبو عبيد الآجري سمعت أبا داود يقول كان عبد الرحمن بن مهدي لا يقدم بعد الكبار من أصحاب الأعمش غير حفص بن غياث.اهـ
وقال ابن المديني: كان يحيى بن سعيد القطان يقول حفص أوثق أصحاب الأعمش، قال فكنت أنكر ذلك فلما قدمت الكوفة بآخرة أخرج إلي ابنه عمر كتاب أبيه (أي حفص) عن الأعمش فجعلت أترحم على القطان[1].اهـ
فإذا كان حفص من أحفظ أصحاب الأعمش فلا يضره مخالفته لسائر أصحاب الأعمش ممن لم يرو زيادة “فينادي بصوت” لشدة إتقانه وحفظه لحديث الأعمش، وبالتالي لا تكون زيادته هذه شاذة لا سيما على القول بقبول زيادة الثقة.
قلنا: الجواب من أربعة وجوه:
الوجه الأول: إن تقديم ابن مهدي لحفص تقديم مقيد على غير أصحاب الأعمش الكبار كما هو الظاهر من عبارته السابقة، وعليه فلا يشمل كلام ابنِ مهدي أبا معاوية مثلا، لأنه من كبار أصحاب الأعمش كما سنرى.
الوجه الثاني: سلمنا أنه تقديم مطلق، إلا أن تقديم حفص بن غياث على سائر أصحاب الأعمش أمر مختلف فيه بين المحدثين، فقد ذهب ابن مهدي إلى تقديمه كما سبق، وذهب غيره إلى تفضيل أبي معاوية محمد بن خازم[2]، فقد جاء في تهذيب الكمال (7/ 62) عقب كلام ابن مهدي السابق: وقال أبو داود سمعت عيسى بن شاذان يقدم حفصا، وكان بعضهم يقدم أبا معاوية[3].اهـ
وجاء في شرح علل الترمذي لابن رجب (ص: 272): وقال الدار قطني : (( أرفع الرواة عن الأعمش : الثوري ، وأبو معاوية ، ووكيع ، ويحيى القطان ، وابن فضيل ، وقد غلط عليه في شئ )) .
وقال ابن عمار: قال أبو معاوية : (( كان أهل خراسان يجيئون إلى الأعمش ليسمعوا منه فلا يقدرون ، فكانوا يجيئون فيسمعون من شعبة عن الأعمش ، فكان شعبة لا يحدثهم حتى يقعدني معه فيقول : يا أبا معاوية أليس هو كذا وكذا ؟ فإن قلت : نعم حدثهم )) . قال ابن عمار : (( إنما يراد من هذا أن أبا معاوية كان أثبت في الأعمش من شعبة )) [4].اهـ
وجاء في تهذيب الكمال (25/ 129): قال أبو بكر بن أبي خيثمة: قيل ليحيى بن معين: أيهما أحب إليك في الأعمش عيسى بن يونس أو حفص بن غياث أو أبو معاوية؟ قال: أبو معاوية.اهـ
وثمة روايات أخرى كثيرة عن ابن معين ترجح أبا معاوية على غيره من أصحاب الأعمش سوى سفيان وشعبة.
من ذلك ما جاء في تهذيب الكمال (25/ 131): جاء أبو معاوية حتى جلس في مجلس شعبة فرفع رأسه فقال: من هذا؟ انظروا…. فإذا هو أبو معاوية…. فقال: يا أبا معاوية سمعتَ حديث كذا وكذا من الأعمش؟ قال: نعم، قال شعبة: هذا صاحب الأعمش فاعرفوه.
وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعتُ أبا نعيم يقول: لزم أبو معاوية الأعمشَ عشرين سنة.
وقال إبراهيم الحربي: قال لي الوكيعي: ما أدركنا أحدا كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي معاوية.
وقال أحمد بن داود الحراني: سمعت أبا معاوية الضرير يقول: البصراء كانوا علي عيالا عند الأعمش[5].
الوجه الثاني: أن هذا التفضيل والتقديم لحفص إن سُلّم به …………انتظره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/433865053394189/
[1] فتح الباري لابن حجر طبعة دار المعرفة (هدي الساري/ 398)
[2] وهو أحد الحفاظ الأربعة الذين خالفهم حفص بن غياث في حديث أبي سعيد الخدري فرواه حفص بزيادة ” فينادى بصوت ” وقد سبق بيان ذلك.
[3] واللفظ عند الذهبي في سير أعلام النبلاء (9/ 25): وبعض الحفاظ قدم أبا معاوية.اهـ
[4] تاريخ بغداد، تحقيق د. بشار عواد (3/ 138).
[5] انظر: تهذيب الكمال (25/ 131)
 **************************************************
(3) محاسن الكلام في صفة الكلام*

(الكلام على حديث أبي سعيد الخدري وزيادة حفص بن غياث فيه “فينادي بصوت”)
الوجه الثالث: إن هذا التفضيل والتقديم لحفص بن غياث على غيره من أصحاب الأعمش إن سُلّم به فهو قبل أن يسوء حفظه ويختلط في آخره حياته، فحفص بن غياث مع أنه ثقة إمام، إلا أنه تكلموا في حفظه آخر عمره، وأدرجه الحفّاظ في كتب المختلطين[1]، وأورده الذهبي في الميزان[2]؛ وعدّه ابن رجب في شرح علل الترمذي (ص: 299) من جملة “قوم ثقات لهم كتاب صحيح ، وفي حفظهم بعض شئ”.
وإليك أقوال المحدثين في حفص بن غياث :
قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: ثقة فقيه تغير حفظه قليلا في الآخر.
وقال في هدي الساري ص 398 : من الأئمة الأثبات أجمعوا على توثيقه والاحتجاج به إلا أنه في الآخر ساء حفظه فمن سمع من كتابه أصح ممن سمع من حفظه.اهـ
وقال أبو داود: كان حفص بآخره دخله نسيان وكان يحفظ[3]. وقال أبو زرعة الرازي: ساء حفظه بعد ما استقضى فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح وإلا فهو كذا[4].
وجاء في تهذيب الكمال (7/ 62): عن داود بن رشيد: حفص بن غياث كثيرُ الغلط، وقال أيضا عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي كان حفص بن غياث من المحدثين، فذكرت له أنه ذُكر لي أن حفص بن غياث كثير الغلط فقال لا، ولكن كان لا يحفظ حسنا، ولكن كان إذا حفظ الحديث فكان، أي: يقوم به حسنا، قال: وكان لا يَردُّ على أحد حرفا، يقول: لو كان قلبك فيه لفهمته، قال ابن عمار: وكان عسِرا في الحديث جدا، ولقد استفهمه انسانٌ حرفا في الحديث فقال: والله لا سمعتها مني وأنا أعرِفُك.اهـ
وقال ابن معين: جميع ما حدث به حفص ببغداد والكوفة فمن حفظه.
وقد عقب العلائي على قول ابن معين فقال في كتابه المختلطين (ص: 25): فحديثه …(بياض بالأصل).. ونحوه من المناكير مما حدث به من حفظه في الآخر.اهـ[5]
فإن قلتَ: كيف أخرج البخاري لحفص مع اختلاطه بأخرة إذن؟
قلتُ: أجاب الحافظ في هدي الساري ص 398 فقال: “قلتُ اعتمد البخاري على حفص هذا في حديث الأعمش لأنه كان يميز بين ما صرح به الأعمش بالسماع وبين ما دلسه، نبّه على ذلك أبو الفضل بن طاهر، وهو كما قال”.اهـ
الوجه الرابع: على التسليم بأن حفصا حدث بالزيادة قبل اختلاطه فإن تقديم حفص على غيره من أصحاب الأعمش مَحَلُّه فيما لو خالفه ثقة مثله من أصحاب الأعمش، أما أن يخالفه أربعة من الثقات وأكثر من أصحاب الأعمش فالأمر يختلف، ويَحْدث هنا التعارض بلا شك بين رواية حفص وبين رواية الثقات الأربع للحديث، وحينها نلجأ هنا إما إلى الجمع، وذلك إذا ذهبنا إلى أن زيادة حفص “فينادى بصوت” هي من قبيل زيادة الثقة، وإما نلجأ إلى الترجيح فنرجح رواية الثقات الأربعة ونعتبر رواية حفص رواية شاذة.
إذن سوف نسلك في زيادة حفص أحد مسلكين؛ إما الجمع وإما الترجيح؛ فإن سلكنا مسلك الجمع واعتبرنا زيادة حفص……………….انتظره
وانظر هذه الحالات أيضا على:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/433865053394189/
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/433865053394189/
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/452877614826266/?hc_location=ufi
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/452642234849804/
[1] مثل ابن الكيال في كتابه الكواكب النيرات (ص: 459)، ومثل سبط ابن العجمي في كتابه الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط (ص: 94)، والعلائي في كتابه المختلطين (ص: 24).
[2] ميزان الاعتدال (1/ 567)
[3] تهذيب التهذيب لابن حجر (2/ 359).
[4] تهذيب الكمال للمزي (7/ 61).
[5] قال وليد: والشأن في المختلط أن يُفرّق بين من روى عنه قبل اختلاطه فيُقبل ما رواه عنه، وبين من روى عنه بعد اختلاطه فيتوقف فيه، إلا أن المحدثين لم يميزوا بين من روى عن حفص قبل اختلاطه وبين من روى عنه بعد اختلاطه، وذلك حسب اطلاعي…… نعم قد يقال إن زيادة حفص “فينادى بصوت” رواها عن حفص بن غياث ابنُه عمر، وكان عمر هذا لديه كتب أبيه حفص، كما تشير إلى ذلك قصة القطان السابقة وفيها عن ابن المديني “فلما قدمتُ الكوفة بآخرة أخرج إلي ابنه عمر كتاب أبيه (أي حفص) عن الأعمش”.
إلا أن هذا يوازيه أن أبامعاوية كان من أصحاب الأعمش الكبار فقد صحبه عشرين سنة كما سبق، فيبعد أن يحدث الأعمشُ حفصا بزيادة “فينادى بصوت” ولا يحدث الأعمشُ بها أبا معاوية أو غيرَه من أصحابه. والله أعلم

السابق
اخراج زكاة الفطر نقدا عند السلف والسلفية وابن تيمية (منقول)
التالي
وبعد، فهذه نصوص كثيرة عن أهل السنة من المتكلمين والمفسرين والمحدثين وغيرهم من العلماء في أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت… إن ابن تيمية نفسه يجعل القول بالحرف والصوت بدعة لم يقلها السلف، وهذه هي الضربة القاضية للوهابية